فتوى شاذة.. إيقاف بيت السكنى على أحد الزوجين الذي بقي حياً

هوية بريس – د.رشيد بن كيران
مناقشة رأي المجلس العلمي الأعلى في مستجدات مدونة الأسرة مسألة رقم (12)
◆ من المسائل التي عرضت على لجنة الفتوى التابعة للمجلس العلمي الأعلى مسألة رقم (12)، والتي نص سؤالها على: “طلب “العُمرى الإجبارية” للسكنى للزوج الباقي حيا؟”.
وقد أجابت اللجنة بقولها: “جواب العلماء يستجيب إلى المطلوب، مع اقتراح استعمال مصطلح “إيقاف السكنى” بدل العمرى الإجبارية حفاظا على المصطلحات الشرعية.” انتهى
◆ ملاحظة عامة على جواب اللجنة:
نرى أن هذه الفتوى تخالف أصول المذهب المالكي، بل تخالف ما عليه سائر المذاهب الإسلامية المعتبرة، وقد وُصفت من قِبل أحد علماء المغرب بأنها “لا رائحة للفقه فيها”. ويُظهر التدقيق في حيثياتها #أنها_شاذة، ولم تستند إلى دليل صحيح سليم من معارض أقوى، وهو ما يتضح من خلال النقاط الآتية:
1- ما هي العُمرى؟
العمرى في المذهب المالكي هي نوع من الهبات أو التبرعات المؤقتة، وتعني أن يمنح الواهب عينا من ماله -كدار أو أرض مثلا- للموهوب له، ليعيش فيها أو ينتفع بها طوال حياته أو حياة عـقِـبه، حسب شرط الواهب، دون أن تؤول ملكيتها إلى الموهوب له بشكل دائم، وعند انتهاء المدة المؤقتة، تعود العين للواهب أو لورثته. هذا التصرف جائز في الشرع، وقد يكون مستحبا إذا حسنت نية الواهب وقصده.
2- تحليل المطلب المقدم وجواب اللجنة:
يتضح من جواب لجنة الفتوى أن أصحاب هذا المطلب يرغبون في جعل بيت الزوجية ”عمرى إجبارية” لأحد الزوجين بعد وفاة الآخر، أي أن يُلزم مالك بيت السكنى – سواء كان زوجا أو زوجة – بهذا التصرف دون اعتبار لإرادته أو رضاه. وهذا يتعارض مع المقصد الشرعي لعقد العمرى، الذي جعله الشارع عقدا جائزا اختياريا لا إجباريا. كما أن هذا الطلب يخالف ركنا أساسيا من أركان عقود التبرعات، وهو رضا صاحب المال، وهو أمر مجمع عليه بين العلماء.
3- إشكالية جواب اللجنة والمخالفات الشرعية:
بموجب استجابة لجنة الفتوى للمطلب، سيتم ”إيقاف بيت السكنى” على الزوج الباقي حيا، مما يمنحه الحق في الاستغلال المنفرد لبيت الزوجية وفقا للوقف الإجباري المفروض على الطرف الآخر. ونتيجة لذلك، يستثنى بيت السكنى من مشمولات تركة المتوفى، مما يمنع الورثة الشرعيين من الانتفاع بحقهم فيه. ويمكن أن نلخص المخالفات الشرعية التي وقعت فيها اللجنة بالشكل الآتي:
◇ أ) عدم اعتبار رضا مالك المال:
أجبرت الفتوى مالك بيت السكنى على إيقافه دون رضاه، وهو ما يناقض القاعدة الشرعية التي تقرر أنه لا يُتصرف في مال أحد إلا بإذنه.
◇ ب) إهدار حقوق الورثة الشرعيين:
منعت الفتوى الورثة -الذين قد يكونون أصحاب فروض أو عصبة- من الحصول على نصيبهم المشروع في بيت السكنى، رغم أن الله تعالى نص على حقوقهم بوضوح في القرآن الكريم ، وأيدتها السنة النبوية والإجماع.
◇ ج) تشريع يصادم نصا قطعيا في القرآن
خالفت الفتوى ما جاء في القرآن الكريم إذ بـيّـن الله سبحانه وتعالى حق الزوجين في الميراث بنص محكم قطعي ينحصر ما بين النصف للزوج أو الربع في تركة زوجته حسب وجود أولاد لها من عدمه ، والربع للزوجة أو الثمن من تركة زوجها حسب وجود أولاد له من عدمه، ولم يستثن الشرع السكنى من مشمولات التركة لصالح أحدهما لا بإيقاف جبري ولا بغيره.
◇ د) تفويت المصلحة الشرعية
فوتت لجنة الفتوى المصلحة الشرعية الحقيقية حينما أوقفت بيت السكنى فقط على فرد واحد زوج كان أو زوجة، وأهملت وضعية أسرة بأكملها، مثل أم الهالك ، أو بناته إذا كن من امرأة أخرى متوفية أو مطلقة.
♦ 4- هل للجنة الفتوى أدلة شرعية لم نقف عليها؟
لم نتوصل بعدُ بالأدلة التي استندت إليها لجنة الفتوى في المسألة المعروضة، إلا أن القناة الثانية استضافت عضوتين من أعضاء المجالس العلمية المحلية وطلبت منهما -كل واحدة منهما في لقاء- بيان الوجه الشرعي للفتوى. ومن خلال متابعتي لما ذكرتاه، يمكن تلخيص استدلال اللجنة في هذه المسألة حسب رأي العضوتين بالاعتماد على دليلين:
■ الدليل الأول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص بيت السكنى للنساء المهاجرات.
■ الدليل الثاني: القياس على عمل الصحابة بترك بيوت السكنى لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذان الدليلان لا حجة فيها على المطلوب، والاعتماد عليهما للقول بجواز إيقاف بيت السكنى لأحد الزوجين الذي بقي حياً تحريف للدين، ولهذا وجب بيان ذلك من خلال مناقشتهما مناقشة علمية منصفة نصيحة لله ولرسوله ولولي الأمر ولعامة المسلمين.
♦ مناقشة الدليلين:
5- الدليل الأول:
◆ أصل الدليل الأول ما رواه أحمد و ابو دواد وغيرهما وصححه بعض المحققين عن “زَيْنَبَ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْلِي رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَنِسَاءٌ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ، وَهُنَّ يَشْتَكِينَ مَنَازِلَهُنَّ أَنَّهَا تَضِيقُ عَلَيْهِنَّ، وَيُخْرَجْنَ مِنْهَا، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ، فَمَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَوُرِّثَتْهُ امْرَأَتُهُ دَارًا بِالْمَدِينَةِ“.
يدل ظاهر حديث زينب على أمور، نبرز منها ما يهم البحث في مسألة الباب، وهي كالآتي:
✓ رفعت النساء المهاجرات شكوى بسبب التضييق عليهن في منازلهن بعد وفاة أزواجهن ومطالبتهن بالخروج منها؛
✓ لا يعرف من طالب النساء المهاجرات بالخروج من البيوت هل هم من أصحاب الفروض أم من العصبة؛
✓ أمر الرسول الكريم بأن ترث النساء المهاجرات الدور والمنازل بعد وفاة أزواجهن؛
✓ من النساء اللواتي استفدن من ذلك امرأة ابن مسعود، وهي زينب بنت أبي معاوية مهاجرة من المهاجرات، وقد ورثت دارا بعد وفاة زوجها؛
✓ لا سبيل للحديث عن العصبة الأباعد في أسرة زينب زوجة ابن مسعود لوجود أبناء لهما، منهم أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود.
◆ بعد استعراض هذه النقاط، يظهر، بشكل جلي، أن حديث زينب بنت جحش لا يشهد لصحة ما استُدل به على إيقاف بيت السكنى للزوجة أو الزوج لعدة أسباب:
أ) حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش سيق لأجل التدليل على مشروعية إيقاف بيت السكنى لأحد الزوجين الذي بقي حيا، ثم يعود البيت إلى الورثة الشرعيين بعد انتهاء مدة الوقف، أي أنه ليس تمليكا لبيت السكنى. غير أن هذا يخالف ظاهر ما ورد في الحديث: “أَنْ تُوَرَّثَ دُورَ الْمُهَاجِرِينَ النِّسَاءُ“، أي أن تُجعل الدور ميراثا، وليس وقفا، ولا توجد قرنية تستدعي أن نصرف المعنى المتبادر إلى الذهن عن ظاهره.
يُؤكد ذلك أن راوية الحديث، زينب بنت جحش، ذكرت أن امرأة ابن مسعود “ورثت دارا”، ولم تقل إنها بقيت فيها بسبب الوقف كما تأولته اللجنة وأفتت به. وراوي الحديث ـ كما هو مقرر ـ أدرى بمرويه من غيره. ويزيد الأمر تأكيدا ما أخرجه أحمد عن زينب بنت جحش أيضا “أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَ النِّسَاءَ خِطَطَهُنَّ“، والخطط هي الدور والمنازل. وعبارة “وَرَّثَ النِّسَاءَ” هي من كلام زينب بنت جحش أم المؤمنين تصف تصرف النبي و وتفسر مراده، مما يدل على أن المقصود من أمر الرسول بالتوريث المعنى الحقيقي للكلمة؛ أي أن تُجعل دورُ السكنى للنساء المهاجرات ميراثا وليس أن تعطى لهن وقفا دون تمليك الرقبة.
ب) لو افترضنا جدلا أن المراد بالتوريث إيقاف بيت السكنى -وهو بعيد جدا- لا يستقيم الاستدلال بحديث زينب إلا إذا اعتبرنا أن ما قام به النبي عليه الصلاة والسلام كان على وجه الإمامة العظمى من باب السياسة الشرعية، ويحق لولي الأمر بعده أن يسلك مسلكه. وهذا لا يمكن القول به بتاتا في مسألتنا هاته؛ لأن الأصل في تصرفات النبي تحمل على تبليغ الدين لعموم الأمة وتشريع الأحكام، ولا يمكن الخروج عن هذا الأصل المحكم والمجمع عليه إلا بقرينة قوية تدعم الاستثناء، وهي غير موجودة قطعا في مسألتنا.
يؤكد ذلك أن توزيع التركة تكفل الله ببيانها في القرآن الكريم بيانا تفصيليا وأعطى كل ذي حق حقه، ولم يترك أمرها لا لاجتهاد عالم ولا لسياسة حاكم. ومما يقطع هذا الأمر بشكل لا لَـبـس فيه إذا استحضرنا أن المجال الذي نتحدث عنه لا علاقة له بالتدبير السياسي بتاتا، إنما هي حقوق مالية لأفراد لا يحق للدولة أن تتدخل فيها لصالح أفراد آخرين ولو بإيقاف بيت السكنى.
ج) نظرا لمخالفة ظاهر حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها الأصول المجمع عليها المتمثلة في أن جميع أموال التركة هي محل توزيع بين الورثة الشرعيين إلا ما استثناه القرآن الكريم من دين غير مضار أو وصية، سلك العلماء مواقف متنوعة في تفسير هذا الحديث:
◇ التفسير الأول: توجيه القسمة بين الورثة
خصص النبي النساء المهاجرات ببيت السكنى في إطار توجيه القسمة بين الورثة، أي أن تحوز تلك النساء منزل السكنى لأنهن بالمدينة غرائب لا عشيرة لهن بها مقابل حقهن في الإرث مع إعطاء باقي الورثة نصيبهم، وهذا لا مانع منه شرعا لأنه ينسجم مع القاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضرار ويحقق مصلحة شرعية للجميع ولا يغتصب حق أحد من الورثة.
◇ التفسير الثاني: نسخ الحكم بآية الفرائض
يقدم هذا التفسير أن توريث النساء بيت السكنى كان قبل نزول آية الفرائض التي جاءت ناسخة للأحكام السابقة المتعلقة بتقسيم التركة. وقد كانت تلك الأحكام تعكس ظروفا خاصة في بداية الإسلام، منها:
فرض الوصية للوالدين والأقربين: قبل نزول آيات المواريث، كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين، حيث لم يكن هناك نظام تفصيلي للإرث يوزع الحقوق على الورثة بشكل محدد،
توريث بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: في ظل الظروف الخاصة للهجرة وبناء مجتمع جديد في المدينة، شرعت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكان من مقتضياتها أن يرث أحدهم الآخر. إلا أن هذا الحكم نُسخ بقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75]، التي حصرت الإرث في أصحاب القرابة فقط.
وبالمِثل، فإن حكم توريث النساء بيت السكنى يُرجَّح أنه قد نُسخ أيضًا بنزول آيات المواريث، التي فصلت حقوق الورثة وقيدت التركة بالأحكام الشرعية المفصلة في القرآن والسنة.
◇ التفسير الثالث: حكم خاص بالمهاجرات
يرجح هذا التفسير توريث النساء بيت السكنى كان حكما خاصا بنساء المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقد انحصر عددهم بانتهاء الهجرة؛ “فلا هجرة بعد الفتح”، ولم يبق مجال للعمل بهذا الحديث، ولهذا أصبح ظاهره ملغزا يذكر في باب الفرائض لطلبة العلم، وقد أنشد أحدهم في ذلك:
سَلِّمْ عَلَى مُفْتِي الأَنَامِ وَقُلْ لَهُ … هَذَا سُؤَالٌ في الْفَرَائِضِ مُبْهَمُ
قَوْمٌ إِذَا مَاتُوا تَحُوزُ دِيَارَهُم … زَوْجَاتُهُم وَلغَيْرِهَا لَا تُقْسَمُ
وَبَقِيةُ الْمَالِ الَّذِي قَدْ خَلَفُوا … يَجْرِي عَلَى حُكْمِ التَّوَارُثِ مِنْهُمُ
وجوابه:
هُمُ الْمُهَاجِرُونَ ذَاكَ بِطَيْبَةَ … صَلى عَلَى ذِيها الْكَرِيمُ المُعَلمُ.
◇ التفسير الرابع: تمليك منفعة السكنى في ملك الدولة تصرفا بالإمامة العظمى
أوّل بعض العلماء لفظ التوريث الوارد في حديث زينب بنت جحش بتمليك المنفعة دون تمليك الرقبة من باب الإرفاق. وليكون هذا التوجيه منسجما مع قواعد الشرع وأدلته، سلك أصحابه مسلكا لا علاقة له بتركة الميت، ورأوا أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام كان من باب التصرفات بالإمامة أو السياسة الشرعية؛ فمن حق الإمام أو الحاكم أن يقطع دورا عارية هي في ملك الدولة لفئة من الناس لمصلحة شرعية، فإذا طالب بعض أفراد الأسرة -عصبة كانوا أو أصحاب فروض- بالاستفادة من هذه الدور بعد وفاة المعيل (الزوج )، فيحق للإمام أن يخص بها الزوجات لنظر مصلحي، ولا يصح لورثة الهالك أن يعترضوا على تصرف الإمام؛ لأن المال مال الدولة وليس للهالك، وهذا التصرف لا اعتراض عليه شرعا ولا عقلا.
أما بيت السكنى الذي هو محل البحث والمناقشة، فهو مال لورثة على جهة التعيين، ولهم حق المطالبة به والتصرف فيه بمجرد موت الزوج، ولا يحق لولي الأمر أو للدولة أن تضع يدها عليه وتتصرف فيه لا بالإرفاق ولا بالتمليك كما سبق تقريره أعلاه.
◆ 6- خلاصة تتعلق بالدليل الأول: ما ورد في حديث زينب لا يُمكن الاحتجاج به لإثبات إيقاف بيت السكنى على أحد الزوجين الذي بقي حيا؛ لأن بيت السكنى مال ورثة على جهة التعيين، ولا حق للدولة شرعا أو لولي الأمر في التدخل فيه خارج أحكام الشريعة، سواء بالإرفاق أو التمليك. وأي خروج عن أحكام الشريعة المقررة في ذلك يعد تعدي لحدود الله.
مناقشة الدليل الثاني
7- الدليل الثاني: القياس على عمل الصحابة بترك السكنى لزوجات النبي عليه الصلاة والسلام
استُدل بهذا القياس على إبقاء زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن بعد وفاته، كحجة لإثبات مشروعية إبقاء زوجات المسلمين بالسكنى بعد وفاة أزواجهن. ومع ذلك، فإن هذا القياس من أفسد الأقيسة في تقديري، والاستدلال به لا ينهض حجة بناء على ثلاث نقاط أساسية:
◇ النقطة الأولى: دلالة الحديث على خصوصية أموال النبي صلى الله عليه وسلم
ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، وهو نص صريح يقتضي أن جميع أموال النبي صلى الله عليه وسلم التي تركها بعد وفاته هي صدقة، لا يُورث منها شيء لأي من ورثته، سواء أصحاب فروض أو عصبة.
غير أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى نساءه من هذا الحكم العام، حيث خصهن بالنفقة من ماله بعد وفاته. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَقْتَسِمْ وَرَثَتِي دِينَارًا، مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهْوَ صَدَقَةٌ».
هذا الحديث يظهر بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم خص زوجاته بالنفقة دون غيرهن من الورثة، ولم يحدد لهن مدة معينة لانتهاء هذه النفقة، مما يعني أنهن كنّ يستفدن منها طيلة حياتهن.
ورغم أن الحديث يتحدث عن النفقة وليس عن السكنى صراحة، فإن السكنى تدخل ضمن النفقة بوضوح، لأن السكنى جزء أساسي من احتياجات الزوجة.
يتأكد هذا المعنى إذا استحضرنا أن عموم النساء المعتدات من وفاة يُسمح لهن بالبقاء في بيت الزوجية طيلة مدة العدة (أربعة أشهر وعشراً) دون أن تُفرض لهن نفقة شرعاً، أما زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فقد شُرعت لهن النفقة طيلة حياتهن، مما يجعل دخول السكنى في حقهن من باب أولى.
◇ النقطة الثانية: خصوصية زوجات النبي صلى الله عليه وسلم
إن لزوجات رسول الله عليه والصلاة خصوصية ليست لسائر زوجات المسلمين، فهن رضي الله عنهن أمهات المؤمنين بنص القرآن، ولا يحق لهن الزواج أبدا بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. هذه الخصوصية تضعهن في حكم دائم يشبه المعتدات من وفاة، حيث لا يجوز إخراجهن من بيوتهن لأن “عدتهن” ليست مؤقتة كغيرهن، بل تستمر حتى وفاتهن.
يقول الخطابي في معالم السنن: “ويحكى عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم في معنى المعتدات؛ لأنهن لا ينكحن وللمعتدة السكنى، فجعل لهن سكنى البيوت ما عشن ولا يملكن رقابها”، فقرر أن لزوجات النبي أمهات المؤمنين خصوصية في السكنى والنفقة لا يقاس عليهن غيرهن من النساء اللواتي محل الزواج بعد انتهاء العدة من وفاة أزواجهن. وهذا توجيه قوي يسقط دعوى القياس بزوجات النبي عليه الصلاة والسلام لوجود الفارق المؤثر بينهن وبين غيرهن من زوجات المسلمين.
◇ النقطة الثالثة: طبيعة الأموال التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم
إن الأموال التي تركها النبي صلَّى الله عليه وسلم، ومنها بيوت زوجاته رضي الله عنهن، ليست محلا للإرث ابتداء، فهي أموال صدقة كما سماها رسول الله وليست إرثا يرثها قرابته من بعده، سواء كانوا من أصحاب الفروض كزوجاته وبنته فاطمة رضي الله عنهن، أو من عصبته كعمه العباس رضي الله عنه، إنما هي أموال صدقة تُصرف حيث صرفها رسول الله عليه الصلاة والسلام بإشراف ولي الأمر بعد وفاته. وبلغة العصر، إنها أموال مرصدة للصدقة بقيت تحت وصاية الدولة ومسؤوليتها ونظرها، ولا يعرف مالكها أو من يستفيد منها على الحقيقة إلا عندما يتسلمها.
بخلاف ذلك، فإن بيت السكنى الذي يُناقش في مسألتنا هو مال خاص، مملوك للورثة على جهة التعيين. يحق لهم التصرف فيه بمجرد وفاة الزوج، ولا يحق لولي الأمر أو للدولة أن تضع يدها عليه وتتصرف فيه لا بالإرفاق ولا بالتمليك.
8- خلاصة تتعلق بالدليل الثاني:
لا ينهض القياس على عمل الصحابة بترك زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن دليلاً صالحاً لإثبات السكنى لزوجات المسلمين بعد وفاة أزواجهن. ذلك لأن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لهن خصوصية شرعية فريدة تشمل النفقة والسكنى الدائمة، وهذه الخصوصية تسقط دعوى القياس عليهن. كما أن الأموال التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم ليست محلا للإرث في الأصل، بخلاف بيت السكنى الذي يعدّ مالا خاصا للورثة الشرعيين أصبح في ملكهم بدليل القرآن والسنة والإجماع وجريان عمل المسلمين به إلى اليوم.
♦ 9- خاتمة عامة
أ) من خلال مناقشة الدليلين يتضح أن المستدل بهما قد جانب الصواب إلى حد كبير، حيث بدا وكأنه اعتقد الحكم مسبقا ثم حاول أن يبحث له عن دليل أو مستند، حتى لو كان مخالفا للمنهج المتفق عليه لدى العلماء في باب الاستدلال. وهذا النهج يعدّ خللا خطيرا في طريقة التعامل مع النصوص الشرعية يفضي الى تغيير أحكام الشريعة، إذ أن الأصل أن يكون الدليل مرشدا وموجها للمطلوب، لا تابعا لاعتقاد مسبق. كما أن الدليل الشرعي يجب أن يكون صحيحا وسالما من أي معارض أقوى، وهو ما لم يتحقق في الدليلين المعروضين.
ب) إن فتوى اللجنة باستجابة مطلب “العمرى الإجبارية للسكنى”، أو ما أسمته بـ”إيقاف بيت السكنى”، قد انطوت على جملة من المفاسد الواضحة، أبرزها:
• إجبار المالك على التصرف في ماله دون رضاه، وهو ما ينافي مبدأ احترام الملكية الفردية.
• تغليب مصلحة فرد واحد على حساب مصلحة باقي أفراد الأسرة، مما يؤدي إلى حرمان الورثة من حقوقهم الشرعية.
• مخالفة الفتوى للأدلة الشرعية التي لا معارض لها، ومنابذتها لما استقر عليه العمل في الأمة منذ الصدر الأول، حيث لم يُعرف مثل هذا النوع من الإلزام.
• التضاد مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تؤكد على حفظ المال واحترام حقوق الملكية، مع تحقيق العدل بين الورثة.
ج) بناء على ما سبق، فإن هذه الفتوى تفتقر إلى الأساس الشرعي المتين، مما يجعل من الضروري إعادة النظر فيها، فهي فتوى شاذة. يجب مراجعتها لضمان توافقها مع النصوص القطعية وأصول الشريعة الإسلامية.
لذا، فإن رفضها ليس مجرد رأي مخالف، بل هو دفاع عن أصول الشريعة التي جاءت لتنظيم حياة الناس على أساس من العدل والحق والرحمة.
ومن الحلول التي يمكنها أن تحقق المقصود دون الوقوع في هذه المخالفة الشرعية الخطيرة تشجيع التبرعات الاختيارية من أحد الزوجين أثناء الحياة، بدلا من فرضها قهرا بعد الوفاة.