فقه الفسيلة.. ينتهي العمر ويَخلُد العمل

هوية بريس – د.الحضري لطفي
يُعَدّ العمل في المنظور الإسلامي قيمة ذاتية لا تُختزل في نتائج آنية أو ظروف مثالية، بل يُقاس بصدق النية وصحة المقصد. فالفعل يكتسب معناه من كونه موجَّهًا إلى الله عز وجل، بغضّ النظر عن حجم الإنجاز أو سرعته. وقد عبّر الحديث النبوي الشريف: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”، (البخاري)، تحت هذا المبدأ، جُعلت قيمة العمل في ذاته لا في مردوده العاجل.
وهذا هو جوهر مفهوم الإعمار في الإسلام: أن يكون الإنسان بانيًا لا هادمًا، غارسًا لا قاطعًا، مساهِمًا في استبقاء الخير حتى في ساعة النهاية. فالساعة التي يُتصوَّر فيها انهيار كل شيء هي ذاتها ساعة العمل وغرس الفسيلة. والإعمار هنا لا يقتصر على تشييد الحجر، بل يشمل بناء المعنى، وحراسة القيم، وإحياء الروح بالعمل الدائم. والرسالة التي يحملها هذا المفهوم واضحة: لا تدع اليأس يستولي عليك، ولا تنتظر الظروف لتتهيأ، فحتى عند قيام الساعة يبقى العمل الصالح والإعمار هو الفارق بين من عاش بمقتضى فلسفة الفسيلة، مستجيبًا لداعيها، ومن خرج عنها فوقع في أسر اليأس وعطّل رسالته.
وكيف يُعقل أن يُطلب من إنسان أن يغرس فسيلة -شتلة نخيل تحتاج سنين طويلة لتثمر- في لحظة قيام الساعة؟ في اللحظة التي تتزلزل فيها الأرض وتنهار الموازين؟ الجواب: لأن العمل عند الله لا يُقاس بعمر الدنيا ولا بالمردود المباشر، بل بصدق النية وصفاء المقصد. إن الفعل الحق هو ما كان متصلًا بالغاية العليا: عبادة الله تعالى.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نجد أن غزة أصبحت صورة من صور “الساعة” التي تواجهها الإنسانية: ساعة الحصار، وساعة الجوع، وساعة انهيار الضمير الإنساني. لكنها ليست ساعة العذر عن العمل، بل ساعة الامتحان الحقيقي: هل نغرس فسائلنا أم نقف متفرجين مكتوفي الأيدي؟
وفسائل الخير التي يمكن لأي إنسان أن يغرسها كثيرة، منها:
₋ المقاطعة الاقتصادية لمن يدعم العدوان والظلم.
₋ بذل الصدقات وتوجيهها نحو الإغاثة الإنسانية.
₋ دعم المشاريع الخيرية التي تخفف عن المتضررين.
₋ رفع الصوت بالحق في وجه الباطل وكشف جرائمه.
₋ نشر الوعي الصادق بين الناس وتفنيد الروايات المضللة.
₋ المساندة الإعلامية عبر الكلمة والصورة والموقف.
₋ المشاركة في التظاهرات دعمًا للحق ورفضًا للظلم.
₋ المشاركة القوية في الاعتصامات لتجسيد الموقف الجماعي الضاغط.
₋ رفع سقف الصوت بطلب تحرك الحكام المسلمين، كما ظهر في هتافات طنجة التي تطورت من دعوات للبرلمان والحكومة إلى نداءات صريحة للمخزن.
₋ الدعاء الصادق الذي يربط العمل بالله ويعطيه بعدًا إيمانيًا.
وأضعف الإيمان أن:
₋ أن تكسر في داخلك حاجز الخوف، فلا تدعه يعطّل ضميرك ولا يشلّ عملك.
₋ تعالج في نفسك منطق التبرير.
₋ توقف في داخلك نزعة التصهين.
₋ تتقن أي عمل تقوم به الآن.
₋ تأمل ولا تيأس.
₋ أن تبقى مرتبطًا بصور العذاب والآلام والتدمير التي تأتي من غزة: لأن “البعيد عن العين بعيد عن القلب”. فإذا هجرت الصور والمشاهد بحجة الضيق أو الحساسية النفسية، فإنك تُبعد نفسك أيضًا عن الميدان. ومع البعد يتسلل الوهم بأن لا دماء تُراق، ولا جوع يفتك، ولا أطفال يُقتلون. ومع مرور الوقت قد يتبدل الموقف، وتضعف الغيرة. إن بقاءك على صلة بالصور شهادة مستمرة، تحمي قلبك من البلادة، وتثبّت بصيرتك في صف المظلوم لا الظالم.
إن “الفسيلة”، رمز لأي عمل صالح يُقدَّم، مهما كان صغيرًا. …، لكنها عند الله أعظم من صمت العاجزين. قد لا ترى أثرها في الدنيا، لكنك تزرعها في كتابك، وتغرسها في وجدان البشرية.
وقد قرر القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7-8]. فالآيات تؤكد أن كل عمل، مهما صَغُر، له أثره عند الله، وأن الانسحاب من ميدان العمل لا يُعد حيادًا، بل قد ينقلب إلى موقف شرّ إذا كان استسلامًا لليأس أو تخليًا عن واجب الإعمار.
ومن هذا الأفق نفهم التوجيه النبوي الشريف في حديث الفسيلة: أن الضيق ليس مبررًا للتوقف، بل منطلق للاستمرار، وأن الأمل ليس شعورًا داخليًا فقط، بل عبادة قائمة بذاتها، وأن الطريق إلى الله لا يُبنى بالانتظار والتسويف، بل بالعمل ولو كان صغيرًا، إذ العمل الصالح في لحظة الاختبار يكشف عن صدق العبودية وعمق الانتماء إلى رسالة الحق.
الحقيقة أن الأمة اليوم بحاجة إلى فسائل تُغرس: أعمال متواصلة، مواقف صادقة، مبادرات عملية. فإن لم تجد كبير العمل، فلا تيأس من صغيره. فإن لم تستطع أن تغيّر الواقع دفعة واحدة، فلا تحقر أن تسهم بجهد متواضع، فالله لا يضيع أجر المحسنين.
قاعدة: “الخذلان أن تفعل أقل مما تستطيع”.
الأمل عبودية واليأس انحراف
الأمل في التصور الإسلامي ليس مجرد حالة وجدانية، بل هو ركن من أركان العبودية الصادقة لله، لأنه يقوم على الثقة برحمته وتصديق وعده. وقد جمع القرآن بين تقرير وزن الأعمال صغيرها وكبيرها ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۥ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 7-8]، وبين النهي الصريح عن الاستسلام لليأس ﴿وَلَا تَيْئَسُوا مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87]. وجاء الحديث النبوي الشريف عن غرس الفسيلة عند قيام الساعة ليترجم هذا المبدأ عمليًا، مؤكّدًا أن الأمل لا ينفصل عن العمل. وهكذا يتضح أن التفاؤل فعل إيماني متجسد في السلوك، بينما اليأس ليس حيادًا بل انحراف عن مسار العبودية الصحيحة.
الخلاصة:
إن حديث الفسيلة والآيات الكريمة معًا يرسمان منهجًا واضحًا: أن قيمة العمل لا تُقاس بظرفه ولا بنتيجته العاجلة، بل بمقصده وصدقه. فالمؤمن لا ينتظر لحظة مثالية ليعمل، بل يجعل من كل ساعة، حتى ساعة الفناء، مجالًا للإعمار وغرس الخير. ومن هنا يتبيّن أن الأمل عبودية، لأنه يقوم على الثقة برحمة الله، وأن اليأس انحراف، لأنه تعطيل لمسار العبودية وتبرير للانسحاب. وبين العمل والأجل تظل الفسيلة رمزًا خالدًا: تغرسها اليوم، ولو لم تُدرك ثمرتها غدًا، لتكتب بها شهادة صدقك مع الله، وتبقى أثرًا شاهدًا في الأرض والإنسانية.



