قراءة في كتاب: سؤال الهوية وقضايا التراث والمنهج والدولة

06 يناير 2019 18:17

ذ. حسين باروش – هوية بريس

الكتاب الذي بين أيدينا من تأليف الدكتور عبدالرحيم خطوف باحث مغربي في الفكر الإسلامي المعاصر، صادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع بمصر، وهو من الحجم الكبير، ويضم 288 صفحة.

سؤال الهوية طُرح في الكتاب من جهة باعتباره محاولة فهم الذات وعلاقتها بالآخر، ومن جهة أخرى طرح نتيجة تنامي الوعي بمخلفات الاستعمار والإرث الذي تركه ماثلا أمام الأمة التي استيقظت فوجدت نفسها قد سُلبت هويتها الثقافية والحضارية، وكُبلت بأغلال سياسية وثقافية وفكرية، مما جعلها تحتاج لمقاومة فكرية طويلة الأمد لفكها وإزاحتها من طريقها، لهذه الأهمية القصوى للهوية في فكرنا المعاصر، اعتبر المؤلف أن الهوية أصبحت قضية مركزية تدور حولها جل القضايا الفكرية المعاصرة.

اعتمد المؤلف منهجا مزدوجا، المنهج الحجاجي المقارن، حيث انطلق من دعوى حاول إثباتها في كل فصول الكتاب الخمسة، وتتلخص هذه الدعوى في:

أولا – اعتبار سؤال الهوية إشكالية رئيسة ومركزية في الفكر المعاصر، ويمكن التعبير عنها بإشكالية الإحياء والانسلاخ عن الذات، فسؤال الهوية الذي يحضر في جميع القضايا المطروحة للنقاش والرأي، يتم الجواب عنه بأجوبة مختلفة تتقابل فيما بينها، منه جواب إحياء الذات عن طريق تجديدها لتصبح فاعلة في واقعها، ويقابله جواب الانسلاخ عن الذات، وتجاوز حقيقتها لاعتبارات كونية، ومستجدات عالمية تقتضي ذلك.

ثانيا – إذا كان سؤال الهوية يمثل قضية مركزية في الفكر المعاصر بالنسبة لباقي القضايا، فإن الجدل الفكري إذا انطلق من الهوية، فإنه سيصل إلى مكوناتها الأساسية أو الفرعية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإذا انطلق من مكوناتها الفرعية فإنه سيعود إليها حتما، كما ينزع الفرع إلى أصله، وبما أن المؤلف اعتبر أن هذه الدعوى تثبت أن الهوية قضية أساسية تدور حولها القضايا الفرعية، فقد ربط الأصل بالقضايا الفرعية منها قضية التراث، وقضية المنهج، وقضية الدولة باعتبارها تجليات تاريخية وثقافية وسياسية.

ثالثا –  إذا كانت الهوية لا تتجسد ولا تتحقق إلا من خلال تجليات ثقافية ومنهجية وسياسية، هي بمثابة تعبير واقعي للهوية عن نفسها، فإن الهوية والذات الجماعية لها تعبيرات مختلفة في الواقع التاريخي الذي عاشت فيه، فهناك التعبير الثقافي للهوية، ويتجلى في التراث الذي أنتجته الذات عبر تاريخها الثقافي والفكري، لذا كان لابد للهوية أن تنزع لثقافتها وتراثها، كي تثبت امتدادها الثقافي والتاريخي، وهناك التعبير المنهجي للهوية، ويتجلى في المنهج الذي اختارته الذات الجماعية في علاقتها مع الطبيعة والحياة، كما يتجلى في أسلوب تفسيرها للوحي الإلهي، وتحليلها للفكر البشري، لذا كان لابد للهوية أن يكون لها منهجا خاصا في الحياة وفي الكون كله بما فيه الفكر والتاريخ، وهناك التعبير السياسي للهوية، ويتجلى في الدولة أو السلطة السياسية التي اختارتها الذات عبر تاريخها وثقافتها، لتكون حامية لهويتها وذاتها من الضياع أو الاعتداء، لذا كان لابد للهوية والذات الجماعية من قوة سياسية تمثلها وتدافع عنها، وتدفع عنها التهديدات والاعتداءات الخارجية التي يمكن أن تمحو آثارها، وتعرضها للضياع والزوال.

لهذه الاعتبارات السابقة اختار المؤلف أن يكون سؤال الهوية هو المحور والمركز لكل القضايا الأخرى، حيث تتداخل فيها قضية الهوية مع قضايا التراث، والمنهج، والدولة في علاقة جدلية مترابطة وهي التي تمثل أهم مواضيع الكتاب، حيث توجد المواقف المختلفة التي لا تنفك عن الرجوع إلى مركز الهوية وتداعياتها.

وعن خطة الكتاب فقد ضمت مدخلا وخمسة فصول كالتالي:

مدخل: عن مفهوم الهوية، وسياق إشكاليتها.

فصل تمهيدي: سؤال الهوية في الفكر المعاصر، أسبابه وأثره.

الفصل الأول:  صراع الهويات.

الفصل الثاني:   الهوية وقضية التراث.

الفصل الثالث: الهوية وقضية المنهج.

الفصل الرابع:   الهوية وقضية الدولة.

في الفصل التمهيدي، تناول المؤلف الكلام عن سياق سؤال الهوية في الفكر الحديث، وبعد تحليل ودراسة لمضامينه ظهر للمؤلف أن لقاء الغرب الأوروبي بالشرق الإسلامي في ظل استعمار الأول للثاني واحتلال بلاده، أفضى إلى ظهور أسئلة جديدة، منها سؤال التحديث أو مطلب المعاصرة، وسؤال التطوير أو مطلب المراجعة، ومن هذه الأسئلة وغيرها، خرجت إلى الوجود مشاريع مختلفة في الفكر الإسلامي العربي الحديث، تراوحت بين مشاريع إصلاحية، تطلب تحديثا للواقع المحلي، وذلك بالتوفيق بين العناصر الداخلية المحلية، والعناصر الخارجية الغربية، انطلاقا من المعايير التراثية وأصوله الإسلامية، وبين مشاريع تطويرية، أكثر جذرية في مطالبها من سابقتها، سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى السياسي، أو المستوى المنهجي،  انطلاقا من معايير مستوردة من الغرب، فجاءت هذه المشاريع مختلفة تماما عن سابقتها، كل هذه المشاريع تبلورت إلى رؤى ونظرات واختيارات مختلفة في الفكر المعاصر، وصلت إلى حد التناقض والتعصب والاتهام المتبادل؛ هذا ما يدل على التأثير الذي تركه الاستعمار الغربي في الصراع الشديد عن الهوية الذاتية في الفكر المعاصر، إن لم نقل ما يزال يرعاه إلى يومنا هذا.

اتفقت كل الرؤى المحلية في الفكر المعاصر على أهمية البحث في سؤال الهوية، واعتبارها محور القضايا الداخلية، والإشكال الرئيسي في الفكر المعاصر، ومن خلالها يمتد تباين المواقف إلى باقي القضايا المرتبطة بها، منها قضية التراث، وقضية المنهج، وقضية الدولة.

وبعد عرض مجموعة تعاريف لغوية وفلسفية للهوية حصر المؤلف الهوية في أربعة معاني، الأول أن الهوية ميزة الشيء، وبها تتميز عن غيرها، والثاني أنها رابطة تربط وتوحد الذات، والثالث أنها علامة وسمة يشترك فيها كل أفرادها، والأخيرة أنها ثابتة وغير متغيرة.

اختلفت رؤى مكونات الفكر المعاصر انطلاقا من جوابها عن سؤال الهوية، اختار المؤلف منها أربعة رؤى:

الأولى الرؤية التقديسية لثوابت الهوية، وتضم رؤيتين قريبتين، الرؤية الإسلامية أو الأمة المسلمة، والرؤية القومية العربية، أو الأمة العربية؛ والثانية الرؤية التوفيقية، وهي الرؤية التي أرادت أن توفق بين الهوية الإسلامية والهوية العربية، محاولة ردم الهوة بين الهويتين المتقاربتين تاريخيا؛ والثالثة الرؤية التركيبية التي جمعت في هويتها مجموع عناصر داخلية وخارجية، العنصر الإسلامي والعنصر العربي، والعنصر الخارجي الغربي، يجمعهم وطن على أرض محددة، مكونة من خلالها هوية وطنية، وقد ظهر أن هذه الهوية تعيش أزمة الذات والتميز، لاحتوائها عناصر متميزة أصلا مثل العنصر الإسلامي، أو العنصر العربي؛ والرابعة الهوية الإلغائية وهي الرؤية المختلفة تماما عن كل الرؤى التي سبقتها، فإن كانت الرؤى السابقة ترى أهمية الهوية، فإن هذه الرؤية ترى عكس ذلك، فالهوية هي سبب انسداد آفاق الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وهي تعبير عن هوية عمياء، تنتج اختلافا وحشيا في ظل الصراع حولها، أما كونها تثبت الذات، وتحافظ على أصالتها، فهذا من قبيل الوهم، الذي يجب إلغاؤه، ومن تم إلغاء ثبات الهوية من قاموس الفكر المعاصر.

الرؤية التقديسية للهوية، تباينت بين مقدس الدين في الهوية الإسلامية، وتجديد باقي عناصرها، ومقدس اللغة والعروبة في الهوية القومية العربية، أما عن وظيفة الهويتان فتكاد تتفقان على حماية مقدسات الهوية، ووحدة الأمة الإسلامية، أو وحدة الأمة العربية، والدفاع عنها بإحياء تراثها، والعمل على بناء دولتها، وسلطتها السياسية، والرؤية التقديسية لا تجد حرجا في الانفتاح على الحضارة الغربية، شرط قياسها بمقاييس محلية.

الثانية: الرؤية التوفيقية لعناصر الهوية، جاءت جامعة لعناصر الهوية التقديسية الإسلامية والعربية، واعتبرت دين الإسلام والعروبة المتمثلة في العرب واللغة العربية، عنصران أساسيان في هوية الأمة العربية والإسلامية، وبدون هذين العنصرين لا تقوى هوية الأمة على مواجهة التحديات الغربية المعاصرة، ومن ذلك دعت إلى إحياء التراث الإسلامي والعربي، وبناء الدولة الإسلامية العربية، كما عرفها التاريخ الإسلامي العربي؛ والرؤية التوفيقية هي رؤية منفتحة على باقي المكونات الأخرى، خصوصا مكون الحضارة الغربية وثقافتها.

الثالثة: الرؤية التركيبية وهي تنطلق من ارتباطها بالأرض وتقديسها، وتكون الروابط الجغرافية هي المحدد للهوية الوطنية، لكنها إلى جانب المقدس الأرضي، توسع عناصرها، وتركبها ضمن هويتها، من هذه العناصر، البيئة، والدين، واللغة، والتراث، والحداثة، وغيرها من العناصر التي سبق أن رأيناها في الرؤى السابقة على أنها مقدسات، وليست عناصر ثانوية فقط، لذلك فقد انتُقدت هذه الهوية الوطنية، لأنها تجمع بين عناصر داخلية وخارجية فتحصل على تركيبة متناقضة غير متوافقة في ثقافتها وفلسفتها؛ لهذا فهي منفتحة على كل المكونات سواء كانت محلية أو غربية.

الرابعة: الرؤية الإلغائية، وهي رؤية مخالفة في نظرتها ووظيفتها للهوية، حيث تنطلق من منطلقات مختلفة تماما عن منطلقات الرؤى الأخرى، فإن كانت الرؤى السابقة تنطلق من الدائرة الإسلامية العربية، فإن الرؤية الإلغائية تنطلق من الدائرة الغربية في نظرتها للهوية، فالهوية يوجد ضمن عناصرها عنصر الاختلاف، مما ينتج عن ذلك تحولها الدائم وتغيرها باستمرار، وهي تعتبر الهوية الثابتة سبب جمود الفكر الإسلامي والعربي، لذلك فهي هوية عمياء، تنتج اختلافا وحشيا بين مكوناته، لهذا الاعتبار شنت عليها هجوما قويا، واعتبرتها مؤسسة للوهم والخيال، لكل هذا وضعت مشروعا إلغائيا للهوية.

وفي الفصل الثاني تناول الكتاب الهوية وقضية التراث في الفكر المعاصر، حيث تعددت النظرات التراثية المختلفة في الفكر المعاصر، وجاءت انطلاقا من رؤيتها السابقة للهوية، لمدى ارتباط كل نظرة تراثية برؤيتها للهوية الذاتية، سواء من خلال دفاعها عنها، أو من خلال نقدها للهوية المختلفة عن هويتها، وقد انقسمت هذه النظرات إلى ثلاث:

الأولى: النظرة التجديدية للتراث أو الاعتبار بالتراث، وهي النظرة المرتبطة برؤيتها التقديسية التجديدية للهوية، وتنطلق من فصل التراث عن أصوله المتمثلة في الوحي، فهو تراث إسلامي، نتج عن احتكاك عقل المسلم بالقرآن والسنة النبوية، لهذا فهي لا ترفضه أو تتجاوزه، إنما تقرأه قراءة تجديدية، وللعمل بهذه النظرة التجديدية، تضع بعض الأسس للقراءة التراثية الصحيحة، منها الاحترام والتقدير للتراث، ثم بسطه على مائدة النظر والنقد، ثم قراءته قراءة تاريخية زمنية لأحداث التراث، وأخيرا تداول التراث تداولا شاملا لكل عناصره ومجالاته، كما وضعت وظائف تجديدية للتراث، منها: تثبيت الهوية وحمايتها، وتوحيد الذات والهوية، وربط التطور الحضاري بأصوله، ثم استكشاف المناهج التراثية.

الثانية: النظرة الانتقائية للتراث أو تأويل التراث، وهي قراءة انتقائية لعناصر التراث، تختلف عن القراءة التجديدية، حيث تنطلق من وضع علاقة وثيقة بين التراث والواقع المادي، كما تجعل الدين عنصرا من عناصر التراث، لا أصلا من أصوله، وقد تجلت هذه الانتقائية ضمن الفكر المعاصر في ثلاث قراءات: الأولى انتقائية مذهبية، تنتقي مظاهر العدل والعقلانية والقومية في التراث، والثانية انتقائية ثورية، تنتقي عناصره طبقا لحاجات العصر وتطوير الواقع، نحو تسخيره في سبيل التعبئة الثورية على الواقع، والثالثة انتقائية وطنية من أجل تسخير عناصر التراث في سبيل المصلحة الوطنية، وتدعيم هويتها تاريخيا وثقافيا، أما عن وظيفة هذه القراءات الانتقائية، حفظ الذات، وتوجيه الحاضر، وتغيير الواقع.

الثالثة: النظرة التجاوزية للتراث أو تملك التراث، هي النظرة المرتبطة برؤيتها الإلغائية للهوية، فهي لا تعترف بوجود تراث تاريخي، إنما التراث ما يوجد في لا وعي المجتمع، فالتراث هو قراءتنا له، وتوظيفنا لعناصره في حاضرنا، وهي إذ تضع مشروع التجاوز، فإنها تتوجه بالنقد للنظرة التجديدية للتراث، لأنه يقوي وهم الهوية التقديسية الإسلامية والعربية حسب اعتقادها، ويقوم على العاطفة والمغالطة، ومن ذلك فإن تجاوز التراث، يعني تجاوز المغالطة والمخادعة؛ وأما عن وظيفة القراءة التجاوزية، فقد حصرها الكتاب في تأصيل الحداثة والعقلانية، وخلخلة مركزية التراث، والقطيعة المعرفية، ونقد العقل الإسلامي.

وفي الفصل الثالث خصص المؤلف الكلام فيه عن الهوية وقضية المناهج في الفكر المعاصر، فالمنهج من المفاهيم الجديدة التي اشتغل بها الفكر المعاصر، والمنهج منظومة متكاملة، تبدأ بالوعي والرؤيا المشكلين لروحه، وبناء على هذه المنطلقات لمنظومة المنهج، تم تقسيم المناهج إلى ثلاثة: الأول يبحث عن مناهج في الدائرة الثقافية المحلية، والثاني حاول دمج مناهج تراثية من داخل الدائرة المحلية، ومناهج خارج الدائرة المحلية، والثالث توسل بمناهج مستوردة من الدائرة الثقافية والفلسفية الغربية، وكل هذه المناهج جاءت انطلاقا من رؤيتها للهوية الذاتية، ومرتبطة بوظيفتها.

الأول: المنهج الغائي، ينطلق من رؤيته الإسلامية للهوية، ومن التصور الإسلامي للكون، باعتبار أن هذا الوجود له غاية، ولا معنى له دون استحضار غايته، ويعتمد هذا المنهج على آليات تراث القدماء، لما له من ارتباط مناهجه بمضامينه الإسلامية، وهي دعوة للأخذ بنظرة تكاملية للتراث، ومن معالم هذا المنهج، أنه منهج نقد شامل لمضامينه وآلياته التي اشتغل بها، وهو كذلك منهج تربوي مقاصدي، تربوي لأنه ينطلق من تربية الإنسان، ومقاصدي لأنه يؤسس لمبدأ الاستخلاف في هذا الكون.

الثاني: المنهج الوسطي ينطلق من رؤيته التوفيقية للهوية، وهو يضع نفسه بين طرفين سلبيين، أو موقفين خارج دائرة الإسلام، ويعتبر أصحاب المنهج الوسطي أن وسطيته تشكل منهجا إسلاميا صحيحا، وهو الداعي إلى الوسطية في كل شيء، ومن خلال تحليل مواصفاته، تبين أنه منهج غامض يمثل الموقفين المتناقضين، وفي نفس الوقت يعارضهما، وهو كذلك منهج ثنائي جامع، انطلاقا من اعتقاده بتناقض المواقف المنهجية في الفكر المعاصر.

الثالث: المناهج المستوردة من الغرب، وهي امتداد طبيعي للرؤية الإلغائية للهوية وللنظرة التجاوزية للتراث، لذلك ذهب بعض المثقفين يبحث عن مناهج خارج دائرة الهوية والتراث المحلي وجد ضالته في المناهج الغربية، للتوسل بها في فهم الذات، وقراءة التراث، ومن هذه المناهج المستوردة: منهج العقلانية الحداثي، وهي الممارسة العقلانية التي لا تؤمن بالقوى الخارقة، ولا تؤمن بأية عقيدة غيبية، فهي تسعى إلى ترسيخ العقلانية  في الواقع المحلي، عبر تثبيتها وتكييفها، وتكرار التجربة الغربية في الواقع الإسلامي والعربي، ونقد المناهج التراثية القديمة، واعتبارها قوالب جامدة ومناهج عتيقة، والثاني المنهج المادي التاريخي الذي يقوم على التحليل الجدلي لقراءة التاريخ والتراث المحليين، والبحث عن تناقضاتهما الداخلية، وهي إذ تستخدم هذا المنهج الماركسي، تعتبره أرقى ما عرفه تاريخ الفكر البشري، ومن هذا الاعتقاد بنموذجية المنهج المادي التاريخي، فهي تصف كل ما يمت بصلة إلى المناهج القديمة، مناهج استعمارية لعقول الناس، والثالث المنهج التقويضي أو التفكيكي، وقد عرف بمنهج ما بعد الحداثي، لأنه اعتمد تفكيك البنيات المغلقة، وتقويض نسق الذات، سواء لمقومات الهوية، أو لمكونات التراث، من خلال تفكيك بنيات النصوص المغلقة، وهو ما يؤدي إلى نسف كل اليقينيات، والثوابت الدينية والعقلية.

ولقد وجهت لهذه المناهج الغربية عدة انتقادات، على رأسها نشر الإلحاد، وبعث الشك في الثوابت الذاتية، والمقدسات الدينية.

أما الفصل الرابع والأخير من هذا الكتاب، الهوية وقضية الدولة، فقد استعرض فيه المؤلف بالبحث والتحليل علاقة الهوية بالدولة، ففي المبحث الأول كان الكلام فيه عن الاختيار الأول للسلطة السياسية، وهي الدولة الإسلامية التي ارتبطت برؤيتها للهوية الإسلامية، ودفاعها عن هوية أمة الإسلام، وهنا تكون الدولة الإسلامية منسجمة مع رؤيتها الأولى للهوية، وبناء على ذلك فقد اعتبر أصحاب هذه الرؤية أن نظام الخلافة نموذج للفكر السياسي الإسلامي، وتحت ظله تستظل الدولة الإسلامية، لأن هذا النظام طبع بخصائص لا تتجلى في أي نظام آخر، على رأسها: من ضمن هذه الخصائص الخاصية الأخلاقية، والالتزامية، والإيمانية، والشمولية، والفكرية، والدستورية، وكل هذه الخصائص/الطوابع، تجعل من نظام الدولة الإسلامية نظاما متميزا عن باقي النظم السياسية المعروفة، وإلى جانب ذلك عدد المؤلف أهم الأسس التي تميز هذا النظام الإسلامي، منها: الأخوة، والشورى، والاقتراع الخاص والعام، وهي أسس لا تحيد عنها في ضبط العلاقات العامة التي تجمع أفراد الدولة الإسلامية، أما عن وظائف هذه الدولة، فقد رصد منها: حماية الأمة وحفظ الهوية، ومشروع الوحدة الإسلامية، وتطبيق شريعة الرحمة، والقانون الإسلامي، وتحقيق العدل والمساواة، وضمان الحقوق وكفالة الحريات، وهذه الوظائف منها ما تشترك فيها مع الاختيارات السياسية الأخرى، ومنها ما تنفرد بها خاصة الوظائف الأربع الأولى، وختم هذا المبحث بنقل بعض الانتقادات التي وجهت لنظام الدولة الإسلامية.

وفي المبحث الثاني كان البحث فيه عن الاختيار الثاني للسلطة السياسية ضمن الفكر المعاصر، وهي الدولة القومية العربية، هذه الدولة التي ارتبطت برؤيتها للهوية المحلية، ودفاعها عن الهوية القومية العربية، واختارت الدولة القومية العربية باعتبارها الامتداد السياسي للهوية القومية، لتكون منسجمة مع رؤيتها الأولى للهوية، وعلى ذلك فقد اعتبر أصحاب هذه الرؤية أن النظام السياسي الكفيل بإخراج الأمة من مأزقها، هي الدولة القومية العربية، فهذه الدولة تضع على عاتقها، أولا حماية الذات وحفظ الهوية، وترسيخ الديمقراطية العقلانية، والعمل بعلمانية محتشمة تميز بين الدين والدولة، ولا تفصل بينهما، لما يمكن أن يترتب عن ذلك من صراع مستديم، بين النظرة الدينية، والنظرة العلمانية.

وتناول المبحث الثالث الدولة الوطنية التي نشأت عن طريق حكومة الاستقلال، هذه الدولة التي ارتبطت برؤيتها للهوية المحلية، وهي الهوية المركبة من عدة عناصر محلية وأجنبية، فعملت على دمجها وتركيبها في الدولة الجديدة، لتدافع عن هويتها الشاملة التي ترتكز على الأرض والوطن، وكان اختيار الدولة القطرية مرتبطا بالإرادة الاستعمارية التي قسمت البلاد العربية والإسلامية إلى أقطار صغيرة، نشأت عليها الدول القطرية الوطنية، فنقل هذا الاختيار نفس الأزمة التي كانت تعاني منها في هويتها وذاتها في القطر الذي يحتضن عدة هويات مركبة، لهذا كانت حصيلتها سلبية، منها ضعف الجسم العربي والإسلامي، وانتشار الاستبداد وانعدام الحرية، وتوسيع دائرة التبعية الفكرية والثقافية، إلى غيرها من مظاهر غير صحية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

أما المبحث الرابع وهو خاتمة الفصل الرابع كان الكلام فيه عن الاختيار السياسي الرابع في الفكر المعاصر، وهي الدولة العلمانية، هذه الدولة التي ارتبطت كذلك برؤيتها الإلغائية للهوية المحلية، ودفاعها عن رؤيتها ومشروعها الإلغائي، فاختارت الدولة العلمانية التي تفصل أهم مقدسات الأمة عن السلطة السياسية، فتبنت نقل التجربة الغربية العلمانية إلى الواقع السياسي المحلي، لاعتقادها باستيراد النجاح الذي تحقق في البلاد الغربية إلى البلاد المتخلفة، عسى أن يكون هذا النظام بديلا صحيحا للنظم السياسية المحلية، لكنها قوبلت بعدد كبير من الانتقادات لهذا النقل المقلوب، نتيجة عدم استيعاب الواقع التاريخي المحلي، وعلاقة الدين والدولة فيه، وبذلك انحرفت عن الإشكال الحقيقي الذي يعاني منه الواقع العربي والإسلامي، لكن هذا الاختيار العلماني بقي منسجما مع رؤيته الأولى للهوية، ومشروعه الإلغائي، وعلى ذلك فقد اعتبر العلمانيون أن النظام السياسي الكفيل بإخراج العرب والمسلمين من تخلفهم، هي الدولة العلمانية التي نجحت في موطنها الأصلي، لكن نسي هؤلاء أنها تجربة لم تنجح في البلاد العربية والإسلامية.

ومن هذه الخلاصات التي استقيناها من فصول كتاب سؤال الهوية وقضايا التراث والمنهج والدولة، فإننا نعتبر أن الكتاب صيحة فكرية معاصرة للعودة إلى سؤال الهوية باعتباره سؤالا مطروحا على الفكر الإسلامي والعربي المعاصر بإلحاح، لما له من ارتباط بالامتداد الثقافي المتمثل في التراث، والامتداد المنهجي المتمثل في المناهج، والامتداد السياسي المتمثل في الدولة.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M