كن صديقي
هوية بريس – صفية الودغيري
إذا فقدت سكنَك وبيتَك، وسقطت أسوارك وحيطانك، وضَلَّت خُطاك عن الطَّريق الصحيح، وأبطأت المسير إلى حيث مبتغاك وهدفك، وتُهت عن مَرْساك ومرفأك الآمن، وهاجرت بعيدا عن وطنك اختيارا أو قَسْرًا ..
ستظلُّ تبحث عن كل معنى من تلك المعاني التي تحتويك بقوة الحب حين يحتوي حدودك وتاريخك وجغرافيتك، وستركض حتى تصِل كلَّ حرف من حروف هويَّتك وتضمها إلى خارطتك، وتركِّب أطرافها المخلوعَة عن أطرافك، وتلبس روحها لباس روحك، وتمضي في هيبة ووقار، وتحيط فراغها بدفء مشاعرك التي لم تجد الأمان والسلام إلا حيث وجدت نفسك في تلك الأماكن التي تضمُّك وتطمئنك وتدفئ أوصالك، وتزرع في روحك وجسدك حبَّ الحياة من جديد ..
ولن ترضى إلا بالإياب والعودة إلى حيث كنت تسكن وترتاح وتهدأ، وترهف السمع في صمت يخيِّم على أنفاسك المعلَّقة في زوايا الحياة المُتْرعة بنغمات فرحك وسعادتك، تنبعث من النقوش المزخرفة على البياض، لاستقبالك واستقبال من تحب أن يكون في قصائدك، المنظومة في مهرجان الحياة الصَّاخبة ..
وستحِنُّ لتذوُّق جرعات من أباريق أشربة الحبِّ المختلفة الألوان بين الحين والحين الآخر، والتلذُّذ بالإصغاء لصَليل احتكاك روحك بروحها، ورنين كؤوسها المترفة والشفافة، وفي انعكاسها ستجد انعكاس نفسك تحدثك، وإن كان خلف ظلِّها، وروائح البخور والخزامى والمسك والعود يهَفْهِف، ويميد بغصنك وقطر الندى يرويك، ويسقيك أريج العطور حين تضوع، وتملأ أرجاءك وأنفاسك، وتهبُّ على وجدانك، وتحرِّك خلجاتك وأشواقك، فتتلقف الأغاريد والأهازيج تطربك ..
وإن فقدتها وسط الضوضاء والثرثرة، وتعبت من صعود ونزول سلمك الكبير، والمضي في طريقك الشاق العسير، ومللت الانتظار والإنصات لأحلامك تقبع في ظلمة المستحيل، وليس في إمكانك إلا الندم على ما لا يجديك عليه الندم، بعد فوات ما فاتك بسبب تلك العزلة، والصُّدود عن الممكن والمتاح، والمخالطة والاندماج في زمرة أولئك الذين وهبوك أشرطة خضراء، لوصل ما انقطع من أمانيك المستحبَّة، ستختار حينها أن تخلو بنفسك في حجرة بعيدة، أو مكان لا يصل إليه إلا صوت أنفاسك والطبيعة، تدفع عنك شعورك بالاشمئزاز والقرف مما سيق إليك في زمن الوحشة والضَّجر القاسي، وستتعلم كيف تخمد في أتون قلبك نيرانه الملتهبة، ليبثك الأنس والهدوء والسكينة، وكيف تطفئ في مدفأة روحك قطع حزنك وآلامك، وجمر معاناتك المتوقِّدَة ..
وإن لم تجد إلا حضنك ملاذا تسكن إليه، ليشملك بالعطف والحنان الذي تفتقده، وتحتمي به من برد وحشتك، وفزعك وخوفك ومن كوابيس وحدتك، فحري بك وأن تلقي بأثقالك أن تنشد هناك الحب، وتتمسك به بقوة، وتمضي في طريقك ولا تلتفت خلفك ولو للحظة ..
فذاك الحضن الكبير هو نفسك الثانية، تشدُّ عضدك وتقوِّي ساعد نفسك الأولى، حين يستحيل أن تجد في حياتك وطنا آمنا، وسكنا حقيقيا، وحبا خالصا، وشخصا صادقا أمينا تقول له باعتزاز وافتخار وانتشاء : كن صديقي مدى الحياة، والأيام، والساعات، والأنفاس، وإلى أن يبلغ عمري وعمرك حدَّه الأقصى ومنتهاه ..