لماذا رضخت مدريد لشروط الرباط وغيرت موقفها من الصحراء؟
هوية بريس – بلال التليدي
ثلاث جهات صدمت من تحول الموقف الإسباني تجاه الصحراء، لأنها لم تكن تعتقد بأن أوراق الرباط في الضغط ستدفع إسبانيا لتغيير عقيدتها السياسية، وهي التي طالما أبدت في الظاهر التزامها بضرورة توصل الطرفين لحل سياسي متوافق حوله في إطار جهود الأمم المتحدة، في حين، كانت تقدم عمليا الدعم السياسي لأطروحة تقرير المصير بالمفهوم الجزائري. جبهة البوليساريو، والجزائر، وجزء من النخب الإسبانية السياسية والأمنية والعسكرية.
تقدير البوليساريو وحاضنتها الجزائر أن أوراق ضغط الرباط، حتى إذا بلغت مستوى من القوة أو “الابتزاز” بالاصطلاح الجزائري، فإنها ليست مكافئة لأوراق الجزائر، التي تعتمد الغاز، ولذلك، تعززت معطيات هذا التقدير مع الحرب الروسية على أوكرانيا، وتزايد الطلب على الغاز الجزائري، إسبانياً وأوروبياً . صدمة النخب السياسية، الاشتراكية واليسارية، كانت من جهتين: الأولى هو أن يحصل تغيير عقيدة مدريد السياسية من الصحراء من النخب الاشتراكية اليسارية تحت واقع الضغط المغربي، والثانية أن تقدم مدريد هدية ثمينة للمغرب، في الوقت الذي تسير فيه تحولات السياق الدولي والإقليمي في اتجاه إضعاف موقفه. أما النخب الأمنية والعسكرية، فقد بقي موقفها مرتهنا بموقع سبتة ومليلية من الاتفاق بين الرباط ومدريد، وجدل المكاسب والتحديات، من الشكل الذي سيتعاطى به المغرب مع موضوع الهجرة السرية، وأيضا التعاون الأمني في موضوع مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود.
النخب الأكثر تشددا، أو بالأحرى الأكثر محافظة، وإن تفهمت هذا التحول وبواعثه، إلا أنها بقيت محتفظة بمخاوفها من موضوع زيادة التسلح المغربي، وتطور تحالفاته مع نادي الكبار، إمكان استعمال ورقة الانفصاليين الكاتالان.
لكن، مع تفاؤل النخب المباركة لطي صفحة التوتر مع المغرب، وتشاؤم النخب المصدومة والمحافظة، فإن السؤال الذي يظل مفتوحا، هو أسباب تغيير مدريد لموقفها، وهل كان الموقف جاهزا، على الأقل من جهة وزارة الخارجية الإسبانية، وكان ينتظر فقط تهيئة الداخل الإسباني له، كما كان التوقع في عدد من مقالاتنا السابقة؟ أم حدثت متغيرات جديدة، أثرت في تقديرات مدريد، ودفعت نخبها الحاكمة إلى التعجيل بهذا الاتفاق؟
تحليل الخطاب المتضمن في رسالة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز إلى الملك محمد السادس، لا يقدم كل المعطيات التفسيرية، لكن اللغة التي صيغت بها لم تكن خالية تماما من المفاتيح المعينة على ذلك. الرسالة ركزت على العلاقة التلازمية بين المغرب وإسبانيا في موضوع الأمن والتنمية والمصالح المشتركة، وتتحدث عن التزامات مشتركة بين البلدين، وتعهد بـ”الامتناع عن كل عمل أحادي الجانب” كما تتحدث أيضا عن العمل المشترك من أجل التصدي للتحديات المشتركة (تدبير تدفقات المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي).
واضح أن رؤية مدريد تضع ضمن أولوياتها الإجابة عن التحديات الأمنية، وبشكل خاص تدفق الهجرة، ليس فقط عبر البحر الأبيض المتوسط، ولكن أيضا عبر المحيط الأطلسي.
الصحافة اليسارية الإسبانية، تحدثت عن غياب أي إشارة إلى سبتة ومليلية، بينما ركزت الصحافة الإسبانية الداعمة لتحول موقف مدريد على كسب إسباني مهم، تحقق بإلزام المغرب بـ”الامتناع بأي أحادي الجانب” مؤولة العبارة بكونها تشير إلى سلوك السلطات المغربية التي استعملت ورقة الهجرة، وسمحت بتدفق آلاف من المهاجرين إلى سبتة صيف السنة الماضية.
هذه العبارة، قرئت بشكل معكوس سواء من قبل الصحافة المغربية، أو حتى من قبل النخب الإسبانية المنتقدة أو المحافظة، أي أنها التزام إسباني للمغرب، بعدم تكرار الحادثة التي تسببت في توتير العلاقة بين البلدين، فوزارة الخارجية المغربية، طالما أكدت أن سبب توتر العلاقات هو قيام إسبانيا باستقبال زعيم الانفصاليين على أراضيها دون تشاور أو تنسيق أو حتى إخبار للجانب المغربي.
الأنباء التي تسربت بعد نشر البلاغ الملكي لرسالة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، تحدثت عن تريث القصر الملكي في نشر الرسالة لأيام، وهو معطى – إن صح – يعني أن نص الرسالة ربما تمت إعادة صياغته من قبل مدريد
ما يعزز ذلك أن الرسالة لم تتضمن أي عبارة يمكن أن يفهم منها قبول المغرب لوضعية الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية، وإنما تضمنت عبارة عامة، تتحدث عن العمل على” ضمان الاستقرار والوحدة الترابية للبلدين”. جوهر رسالة سانشيز، أن إسبانيا وضعت كسب الرهان الأمني، وإعادة العلاقة بين البلدين، في مقابل تغيير موقفها من الصحراء. لكن إذا كانت رؤية مدريد تتلخص في هذه المعادلة، فما الذي برر تأخر الموقف كل هذا الوقت؟ وما المتغيرات التي جعلتها تقتنع بأن ثمن كسب هذا الرهان ليمر ضرورة عبر تغيير موقفها من الصحراء؟
هناك مؤشرات تدفع إلى الاقتناع بأن تغير موقف مدريد من الصحراء حصل بالفعل في اللحظة التي توترت فيها العلاقة بين البلدين، وارتفعت مخاطر التحدي الأمني بعد المواقف الصلبة التي اتخذتها الخارجية المغربية بخصوص طريقة أوروبا في التعامل مع المغرب، وكيف تتمثل علاقته بموضوع الهجرة، فقد تصاعد خطاب الخارجية المغربية، المؤكد على مفهوم الشراكة، ومقتضياتها المتبادلة بين الشركاء، وتم التأكيد في أكثر من خطاب بأن مشكلة الهجرة، ليست مشكلة دول العبور، وإنما هي مشكلة دول المصدر، ودول الوصول أيضا، وأن المغرب لا يمكن أن يقبل لعب دور الدركي، في غياب التزام شركائه بالدفاع عن مصالحه الحيوية.
التفسير الذي قدمناه في مقالاتنا السابقة، يشير إلى نضج الموقف الإسباني مبكرا، أي مع إعفاء وزيرة الخارجية أرانشا غونزاليس لايا من منصبها، وتعيين خوسيه مانويل ألباريس بدلا عنها، فقد أكد هذا المسؤول الدبلوماسي في أكثر من مناسبة أنه يتعين على مدريد أن تبني علاقات القرن الواحد والعشرين مع الرباط، وهي لغة كافية للتأكيد على نضج الموقف، واقتناع الخارجية الإسبانية بضرورة تغيير العقيدة السياسية التقليدية لمدريد تجاه الصحراء، وأن ما كانت تحتاجه هو فقط الوقت والهدوء لإقناع الداخل، أو بالأحرى، لوضع النخب السياسية والأمنية والعسكرية أمام الآثار الكارثية لتوتر العلاقات مع المغرب.
وإذا كان هذا التفسير وجيها، فما المتغيرات التي ساعدت الخارجية الإسبانية على النجاح في عملية إقناع هذه النخب، أو على الأقل الجزء المؤثر فيها؟
الجواب عن ذلك، يوجد حتما في أوراق الرباط التفاوضية، وكيف نجحت في تحقيق هذا الانتصار الدبلوماسي الحاسم في تاريخ قضيتها الوطنية.
البوليساريو، وحاضنتها الجزائر، التي بلغ بها الخطاب حد وصف الموقف الإسباني بالخيانة، مالت إلى تفسير ذلك بـ”الابتزاز الذي مارسه المخزن” ضد مدريد، أي أنها فسرت الأمر، بورقة الرباط الأمنية، وورقة الحصار الاقتصادي لكل من سبتة ومليلية (إغلاق المعابر، والوقف النهائي للتهريب).
لكنها في العمق، على الأقل كما يظهر من خلال وسائل الإعلام الرسمية، لم تفهم لحد الآن، أن يأتي هذا التحول من جهة مدريد في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا، المشحون بأزمة الإمدادات الطاقية، وتنامي الطلب على الجزائر، كمورد أساسي لأوربا، وربما كبديل جزئي محتمل للإمدادات الروسية من الغاز.
ثمة مؤشرات برزت أياما قليلة قبل نشر رسالة رئيس الحكومة الإسبانية تحتاج إلى أن تحلل أبعادها، نجملها في اثنين أساسيين، الأول، وهو ما يرتبط بدينامية الزيارات الأوربية نحو الجزائر، والثاني، هو بروز دينامية نشطة من جانب شركة “ساوند أنيرجي” الشركة البريطانية المتخصصة في التنقيب على الغاز في المغرب، وشريكها المعهد الوطني للهيدروكاربورات والمعادن، فقد أعلنت هذه الشركة بداية شهر مارس عن تمديد الموعد النهائي للوفاء بشروط صفقة توريد الغاز من حقل “تندرارة” في المغرب لمدة 3 أشهر أخرى، ثم أعلنت في بيان صحافي صدر في 14 مارس، عن التوصل لاتفاقية ربط خط أنابيب، بخط غاز المغرب العربي-أوروبا مع المكتب.
التفسير الذي نميل إليه أن الجزائر لم تتعامل بذكاء مع الضغوط الأوربية في موضوع الغاز، وأن مدريد لم تعد تثق بتعهداتها في تأمين الكميات المتفق حولها من الغاز بسبب الانقطاعات المتكررة في أنبوب ميد غاز مما دفعها للبحث عن موردين جدد (الولايات المتحدة الأمريكية)، وأن الرباط استثمرت رفض الجزائر للطلب الأوروبي بإعادة تشغيل الخط المغاربي الأوروبي، لتطرح أفكارا جديدة بديلة في هذا الموضوع، لا ندري على وجه التحديد هل تتعلق بالاحتياطيات المهمة التي تم العثور عليها في حقل تندرارة وما إذا كانت ستوجه للتصدير بعد في الأشهر القليلة القادمة، أم بانخراط إسباني جدي، في مشاريع مد أنابيب الغاز من نيجيريا إلى أوربا عبر المغرب، أم بمشاريع ضخمة في الصحراء، تفتح بوابة مهمة للتوغل التجاري الإسباني في العمق الإفريقي؟