“مكيصنعش لينا الصوارخ”.. مدونة الأسرة ومطالب الاستغناء عن المجلس العلمي الأعلى!

هوية بريس – نبيل غزال
لازال نقاش مدونة الأسرة يسيل كثيرا من المداد واللعاب، بسبب بعض التعديلات المقترحة من جهة، وبسبب بعض ردود الفعل والمطالب التي يرفعها من لا يؤمن بمرجعية المدونة.. ولا فصول المدونة.. ولا الحدود التي وضعها الملك لمراجعة المدونة..
وهذا الكلام ليس أبدا من باب المبالغة؛ والدليل أن الإطار المحدد للنقاش حول هذا الورش المجتمعي حدده الملك بدقة، فأكد في خطاب العرش أن “مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها”، وشدد على أنه في هذا السياق “لن يحل ما حرم الله، ولن يحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.
كما وجه الملك إلى أن “الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، حسب الدستور، لذا نحرص على توفير أسباب تماسكها. فالمجتمع لن يكون صالحا، إلا بصلاحها وتوازنها. وإذا تفككت الأسرة يفقد المجتمع البوصلة”.
وأكَّد عاهل البلاد أن التأهيل المنشود للمدونة، يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقُها القضائي على مدى حوالي 20 سنة، وذلك في ظل الثوابت الوطنية والدستورية.
ولا يجادل أحد اليوم بأن الأسرة المغربية تعاني من اختلالات كبيرة وكبيرة جدا، فعقب إقرار المدونة في 2004 تم تسجيل انخفاض كبير في نسب الزواج مقابل ارتفاع في حالات الطلاق، حيث كشف تقرير للمجلس الأعلى للسلطة القضائية حول القضاء الأسري بالمغرب، خلال الفترة الممتدة من 2017 إلى 2021، أنه مقابل كل 100 طلب توثيق زواج توجد ما يقارب 50 دعوة طلاق أو تطليق، بنسبة تعادل 49.93 بالمائة، مجموع هذه الحالات 588769 حالة، ضمنها 421.630 حالة طلاق شقاق.
كما انتقلت نسب الطلاق من حوالي 26.000 حالة في 2018، إلى أكثر من 55 ألف حالة في 2019، ومحاكم المغرب تشهد أزيد من 60 ألف حالة طلاق شقاق في السنة الواحدة.
أضف إلى هذا تراجع معدلات الخصوبة في المغرب إلى 1.97 طفل لكل امرأة، وهو ما يُعتبر دون عتبة تعويض الأجيال المقدرة بـ2.1 طفل لكل امرأة، وفق الإحصاء الأخير للسكان لسنة 2024.
هذا هو الواقع، وهذه هي الاختلالات التي تجب مراعاتها، وهذا ما أقدم عليه فعلا عدد من السياسيين والأكاديميين وعلماء الدين والإعلاميين.. إلا أنه على الطرف الآخر يوجد من يهرول خارج المسعى ويحاول تنزيل أجندة خارجية وتوسيع دائرة النقاش من معالجة الاختلالات المذكورة، إلى المطالبة بالتخلي عن تشريعات وأحكام الدين، والتنكر لمفردات القرآن الكريم من قبيل “المتعة” و”الصداق”.. لكونها وفق مرجعيتهم “مصطلحات مهينة للمرأة”!
وفي ذات الصدد سمعنا من يطالب بالتخلي الكلي عن المجلس العلمي الأعلى لأنه “مكيصنعش لينا الصوارخ”، وتجاوز فِقه الإمام مالك، والزواج الشرعي، ونظام الإرث المستمد من القرآن الكريم، وأحاديث البخاري والموطأ وباقي كتب السنة والفقه.. لا لشيء سوى أن كل ذلك يخالف مرجعيةً يصرّون على استصنامها ووسمها بـ”الكونية”.
وتابعنا أيضا منابر تجندت للدفاع عن “تجار الدين” ومن تقدمهم للجمهور بصفة “المناضلين”، فاتهمت كل من يناقش بالعقل والفكر متطرفا سبق وطالب بـ”التخلص من هوية الإسلام القاتلة” ووصف رسائل نبينا محمد ﷺ بـ”الإرهابية” بأنه يبيئ للغلو والتطرف ومنه الإرهاب.. فأخذتهم بذلك العزة بالإثم فغاروا على الرفيق، ولم تحركهم الحمية البتة للدفاع عن المعلوم من الدين ورسالة خير المرسلين..
طبعا هناك من يتبنى هذه الأفكار ويدافع عنها من داخل مؤسسات الدولة ومن قلب وزارات يسهرون على تدبيرها، ومنهم من يدافع عن ذات الأفكار من خلال جمعيات حقوقية ومنابر إعلامية وقنوات وإذاعات..
وعلى العموم فهذا السلوك مفهوم إلى حد ما ممن اختار المرجعية اللائكية وأشرب عقائدَها وأفكارَها، لكن ما لا يمكن فهمه هو تحييد المساجد والعلماء والخطباء والدعاة الرسميين عن هذا النقاش بالمرة، وتكميم أفواههم بقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، فباتت بذلك بيوت الله ومنابر الجمعة معطلة عن أداء دورها المنشود في مواكبة التطور المجتمعي، في مخالفة صريحة لمنطوق الخطاب الملكي الذي قال فيه الملك محمد السادس: “إننا نسعى إلى بعث جديد لهذه المجالس العلمية حتى تواكب التطور الذي يعرضه المجتمع المغربي، وما نتطلع إليه من إصلاح وتغيير…”
وقوله: “إننا نريد من مجالسنا العلمية أن تكون مجالا رحبا يتيح للعلماء أن يؤدوا رسالتهم الدينية والوطنية، بدءا بتأطير المواطنين والمواطنات أينما كانوا لتحصين عقيدتهم وحماية فكرهم، وإنارة عقولهم وقلوبهم بما يجعلهم مؤمنين ملتزمين بدينهم ومقدساتهم غير مهددين بتيارات التشويه والتحريف”..
وإزاء هذا الاستفزاز المتكرر لعموم المومنين والمومنات، تارة بالتهجم على القرآن الكريم، وأخرى على نبيه الأمينﷺ وعلى ثوابت ومحكمات الدين، والمؤسسات الدستورية المؤطرة للمجال الديني ومن ضمنها المجلس العلمي الأعلى.. سواء تعلق الأمر بنقاش المدونة أو غير المدونة، هل تقوم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمواجهة تيارات التشويه والتحريف، أم أنها تكتفي فقط بالتضييق، في أكثر من 51 ألف مسجد في ربوع المملكة، على من يعارض الفكرة اللادينية، فتفسح بذلك المجال واسعا للمنتمين لهذا التيار الدخيل كي يعيثوا في الأرض فسادا، وفي عقول العامة والخاصة فتنة وإضلالا..
وبعد كل هذا نتساءل: لماذا لا يثق المغاربة في مؤسساتهم الدينية؟