من رسالة السماء إلى نص الإدارة: أين اختفى المنبر؟

22 مايو 2025 23:06

هوية بريس – إبراهيم سهيل

ما بين كلمةٍ تُلقى من على منبر الجمعة، وكلمةٍ تُسطر في محضر إداري، فرقٌ شاسع في النيّة والمقصد والوجهة. فالكلمة الأولى تُلقى رجاء وجه الله وخوفًا من حسابه، وتُسجل في صحيفة العبد يوم لا ينفع مال ولا جاه، أما الثانية، فهي تُدبَّج غالبًا لإرضاء جهة أو تحقيق مؤشّر، وتُرصَد في سجلات الأداء والانضباط.

لقد كانت المساجد -عبر التاريخ- منارات وعي، توقظ الغافل، وتوقظ في قلب الحاكم والمحكوم مقام الله وخشيته. لم تكن خطبة الجمعة خطابًا رسميًا، بل كانت نبض الأمة وضميرها. واليوم، بات البعض يرغب في تحويلها إلى منصات مبرمجة، تُقرأ فيها نصوص موحّدة، خالية من الاجتهاد، بلا خشية ولا شفقة، لا تُثير وجدانًا، ولا تحرّك ساكنًا.

قيل إنها “تجربة”، فصارت “إلزامًا”. وقيل إنها “غير ملزمة”، فإذا بمن تردد أو اعترض وُصِف بالتجاوز، بل واشتُبه في نيّته. وهنا يكمن الإشكال: حين يُختزل الاجتهاد في الاتباع، والخلاف في العداء، وتُفسَّر المخالفة وكأنها تمرّد أو خروج!

لسنا هنا بصدد الاعتراض على التنظيم، فالمساجد ينبغي أن تكون محاضن هداية، لا ميادين فوضى. لكن الخطورة لا تكمن في وجود لوائح، بل في الروح التي تُدار بها، حين يُراد للدين أن يُحاصر داخل قوالب، وأن يُفصل عن الواقع، وأن يتحوّل الخطيب من راعٍ للضمير إلى قارئٍ لنص لا يملك تجاوزه.

وقد يشعر البعض أن هذه الإجراءات جزء من مشروع أوسع: مشروع إعادة تشكيل وعي الناس، وضبط الخطاب الديني بما يتناسب مع واقع سياسي متحوّل. يُراد فيه إعادة تعريف الولاء والبراء، وتمييع قضايا الأمة الكبرى، تمهيدًا لتقبّل “سلامٍ” يُفرض قهرًا، ويُغلف بشعارات العيش المشترك، بينما هو في جوهره تطبيع مع الباطل، ومهادنة مع المحتل.

حين يُمنع الخطيب من تسمية العدو باسمه، أو من الحديث عن فلسطين، أو من التحذير من مشاريع التذويب والهيمنة، فإن السؤال لا بد أن يُطرح: هل ما زال هذا منبرًا حيًّا، أم أصبح قطعة ديكور في مشهد محسوب بدقة، لا يغضب أحدًا، ولا يُزعج أحدًا؟

بهذا التحوّل، نصنع تدينًا معقّمًا: بلا حرارة، بلا قضية، بلا فطرة. تدين يتعايش مع كل ما يُفرض، ويسكت عن كل ما يُفسد، ويمجّد كل ما يُقرره الأعلى.

لكننا نؤمن أن الفطرة لا تُصادر إلى الأبد. فمنبر الجمعة ليس جمادًا، والخطيب ـ مهما قُيّد ـ لا يفقد إحساسه بالناس. والناس، وهم يسمعون آيات الله كل أسبوع، سيشعرون يومًا أن شيئًا ما قد تغيّر:

• لماذا لم تعد الخطبة تمس القلب؟
• لماذا لا نتأثر كما كنا؟
• لماذا لا يبدو الخطيب واحدًا منا؟

هذه ليست أسئلة عابرة، بل أسئلة الفطرة حين تستيقظ، حين ترفض أن يُحاصَر الدين في مساحة آمنة، منزوع الدسم والاتجاه.

ونقول للراشدين من أهل القرار:

ما كان لله لا يُخضع لقانون الناس.

وما كان لله يثمر إذا تُرك ينمو بحرية.

ومن أراد للمنبر أن يكون وسيلة ضبط، فليعلم أن صوت الحق لا يُحبس، وأن الكلمة إذا مُنعت على المنبر، نطقت في القلوب، وانتشرت بوسائل لا تُرصد ولا تُقنن.

﴿وَقُلِ الْحَقَّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾.

والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
19°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M