نظام الفوضى في العالم
هوية بريس – د.طارق الحمودي
صناعة الفوضى
لعله من المستغرب إضافة النظام إلى الفوضى، وهذا أمر مؤكد بوجود تناقض حقيقي بين عبارتي “النظام” و”الفوضى”، فإنه إن سألك سائل: ما معنى النظام؟ فسيكون جوابك السهل: عدم الفوضى، وبالعكس، وهذا الذي يسمعه الأبناء غالبا من آبائهم، ولكن تحقيقا لطيفا في الأمر يرفع إشكال العنوان، فالمقصود منه أن الفوضى المنتشرة في العالم، هي صناعة جهات تعمل بنظام خاص، لإنتاجه !
الفوضى الخلاقة
من أقوى الأدلة على هذا، ما صرحت به واحدة من موظفات “النظام العالمي” في عهد حكومة “جورش بوش الابن”، أقصد كونداليزا رايس، التي استعملت عبارة ” الفوضى الخلاقة”، وهي عبارة باعثة على الاستغراب مثل عنوان المقال، أما العنوان فقد رفع عنه الاستغراب، باعتبار النظام منتجا للفوضى لأغراض ما، وأما عبارة كونداليزا، فيرفع إشكالها أن المقصود إنتاج الفوضى لنظام مستقر، ويمكن الربط بين العبارتين، بأن النظام العالمي يصنع الفوضى مؤقتا لينتج عنها نظام استقرار انتهاءً، وعند بدء تضرر هذا الاستقرار، فإن خلق الفوضى، خليق بأن يخلق نظام استقرار جديد.
فوضى النظام
قد يبدو من هذا أن النظام العالمي “نظام” “لا فوضوي”، لكن الحقيقة أن “النظام” نفسه لم يسلم من شوائب “فوضى” فيه، بدليل أنه في الحالات التي كنا نظن حصول الاستقرار بعد فترة فوضى تكتيكية، وجدنا الأمر يسوء، ويميل إلى فوضى أشد، في صورة أزمات سياسية واندلاع حروب ومدافعات مسلحة تبدو طويلة الأمد، ويفسر هذا، وجود أكثر من “نظام” داخل “النظام العالمي”، أقصد أن في هذا النظام الدولي الذي يحاول صناعة الأحداث وتدبير أمور العالم وفق ما يحقق مصالحا لجهات ما، توجهاتٍ متعارضةً متضاربة، وتحت كل جهة دول وأنظمة سياسية وظيفية وشركات ورؤوس أموال ووكلاء وإعلام، وما يقع في الأعلى عندهم من مفاوضات لإحداث توافقات واستقرار يظهر أثره هنا في الأسفل.
فوضى المعلومات
لا أحد يشك في أننا نعيش فترة صارت فيها المعلومات أكثر وأقرب، كانت المعلومات قديما مرحولا إليها مرغوبا في الحصول عليها، ببذل الوقت والجهد والمال، وأما اليوم، فبراكين المعلومات تنفجر تباعا، ويكفيك أن تكتب حرفا واحدا، حرفا هجائيا واحدا على أي محرك بحث ليعاجلك بإمكانيات هائلة من المعلومات المتعلقة بذلك الحرف، فإن زدت زادت، بحيث صارت المشكلة في عدم وجود الوقت الكافي لقراءتها، بعد أن كانت المشكلة قلة الوقت لتحصيلها، والخطير في هذا، أنك لم تعد تحصل على المعلومة من مصدرها الموثوق، بل صارت المعلومات كأخبار الشياطين للمتكهنة، يصدقونهم في واحدة، ويكذبون في الباقي، وصار الناس في خطر كبير من الكم الهائل والمخيف من المعلومات الخطأ، وتسللت كثير من الخرافات إلى شاشات هواتف الناس وحواسيبهم، باعتبارها معلومات، على الفيسبوك وإكس واليوتيوب وغيرها، وصرت ترى شابا ضعيف التكوين والتحصيل، يجمع معلومات من هنا وهناك دون تحقيق، لينتج مقطعا يراه الآلاف، بعناوين مثيرة، وإخراج مقنع، يرعى كل هذا اندفاع نحو جني أرباح الإعلانات، في فوضى من المعلومات.
فوضى القانون
من طبيعة القانون الاستقرار، وإنتاج الاستقرار والنظام، لكن حالة القانون اليوم لا تختلف عن حالة غيره من مجالات الحياة الاجتماعية والمؤسسات، فقد صارت المدة المقررة لتغيير القوانين أقصر كل مرة، لعدم توفية “القانون” لحالة “الفوضى” حقها، فالقاعدة القانونية لا تنبثق إلا من ملاحظة ظاهرة أو حالة مطردة مستقرة يراد رفعها أو تثبيتها، لكننا صرنا اليوم نرى عجبا، فبمجرد وضع قاعدة بعد مخاض طويل، تتغير الأحوال مطالبة بقاعدة أخرى أكثر ملاءمة، فإذا طال العهد بالتغيير، لم تؤد القاعدة الأولى دورها لعدم الملاءمة، فتقع فوضى في “النظام القضائي”، فيصير التحيين عملية مستمرة، فالعالم يتحرك بسرعة، في فوضى!
فوضى السياسة
بعد أن كنا نجلس لنستمع إلى خطب السياسيين ومداخلاتهم وندواتهم الصحفية، نتأمل في كل كلمة يقولونها، مع كاريزما ظاهرة، وحضور قوي، بسبب ثقافة السياسي وتكوينه الجيد، وبقية من أخلاق وقيم، صرنا اليوم أمام كارثة لم يستطع الدكتور حسن أوريد النوء بنفسه عنها، أقصد “الشعبوية السياسية”، فكتب فيها كتابا يشرحها، مسميا الأشياء بأسمائها، والناس بأسمائهم، وهي الدليل القوي على أننا نعيش زمن “فوضى السياسة”، فقد تراجع مستوى السياسيين، وتحولت القيم السلبية كالكذب والغش إلى قيم موجهة للخطاب السياسي بلا استثناء، وانتقلنا إلى مرحلة الهزال السياسي، وهو يعني أن “النظام” في الأعلى، يريد نشر فوضى “خلاقة”، لتدشين “مرحلة استقرار نظام جديد”، ومثل هذه الفوضى تكون مؤشرا على فوضى أخرى لا تحتاج إلى شرح أو تحقيق لكشف خطورتها، فوضى يقل فيها الكلام، ويكثر الضجيج، ضجيج “فوضى الحرب”.
فوضى الحرب
لكل حرب تخاض دوافع وأهداف مرحلية ونهائية، وقد رأينا في كثير منها ما يؤكد ذلك، لكننا نرى اليوم حروبا بدوافع فوضى، وأهداف فوضى، بحيث يستطيع الطرفان إيقافها أو الاستمرار فيها بما تخرجه المفاوضات، ولو غيرت الأهداف كلها، فكأنها حرب لأجل الحرب فقط، فبعد الدخول فيها والتورط في نتائجها القريبة، يستنكف الطرفات عن إيقافها، فمآل ذلك إلى تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية، ودفع ثمن ما جرى، ولذلك لا تبقى هناك أهداف حقيقية، سوى هدف واحد ،عدم تحمل مسؤولية تكاليفها، والرغبة في تعويض ما ضاع بما سيغنم، وحرب روسيا ضد الناتو على أرض أوكرانيا مثالا واضح بين ،فهي حرب تبدو فوضى ،لكنها تسير وفق “النظام في الأعلى”، نظام توازن قوى السيطرة على العالم.
فوضى الاستهلاك
يعني الاقتصاد خفض النفقات إلى أدنى المستويات مع تحقيق أكبر قدر من توفية الضروريات والحاجات، أي أن يكون الاستهلاك متعلقا بالضروريات والحاجات، وهكذا عاش الناس في أزمنة طويلة، في الحواضر والأرياف، واحتفظ الإنسان بـ”إنسانيته” إن صح التعبير، فكان لا يقتني إلا ما يحتاجه، وأما اليوم، فقد تحولت كثير من المجتمعات إلى “قطعان من المستهلكين”، الذين يقتنون ما لا يحتاجون، وتحول الاستهلاك من استهلاك للضروريات والحاجات، إلى ضرورة الاستهلاك والحاجة إليه، هي “لذة الشراء”، فصرنا نحدث عن “الاستهلاك التنافسي”، و”فجوة الطموح”، و”انحراف نمط الإنفاق”، وصار الناس مدفوعين بسبب ذلك إلى “هيستيريا” الاقتراض، حتى “الموت”!
فوضى الأديان والأخلاق
تحرص “الجهات” المنظمة للفوضى، إلى إشاعة نوع خاص من الفوضى، التي لا يمكن وصفها بالخلاقة هذه المرة، وهي الفوضى الأخلاقية، فتشيع الفاحشة، كالزنا والشذوذ الجنسي، بإتيان الرجل للرجال، وإتيان الحيوانات، وهي فوضى قريبة من فوضى الأديان، فكل الأديان وفق هذه الفوضى مقبولة منجية صالحة، وكلها متساوية، وكل الأخلاق نسبية متغيرة سائلة، وهذه الفوضى جديرة بالاهتمام والتأمل الفاحص، لأنها المقصد الأعلى لسيد أسياد نظام الفوضى…. إبليس!
هنا تنتهي الفوضى، ويبدأ الحديث عن نظام النظام، عن الإسلام!
لذلك جاء الاسلام ليُرسخ المعنى الحقيقي للنظام في العالم كله. مادام العالم لا يحكمه الاسلام فسيعيش في فوضى انتهى الكلام.