نظرة في تاريخ التوثيق العدلي بالمغرب

هوية بريس – د.رضوان العابدي
يعد علم التوثيق العدلي من أشرف العلوم وأجلها، فهو القائم على ضبط معاملات الناس، المالية والأسرية، كالزواج والطلاق والبيع والشراء والهبة …، كما أنه قائم على صيانة أنساب الناس، وميراثهم وفرائضهم،[1] وله دور هام في توثيق بيعة الملوك والسلاطين على مر التاريخ، كما له أدوار هامة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبذلك يسهم في تحقيق العدالة الوقائية والأمن التعاقدي.[2]
لذلك فقد احتل منزلة رفيعة، ومكانة عالية، كيف لا وهو الذي يصون حقوق الناس، ويحفظ أنفسهم وأعراضهم وأنسابهم وأموالهم، قال عبد السلام الهواري: “علم الوثائق من أجل العلوم قدرا وأعظمها خطرا إذ به تضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وتحفظ دماؤهم وأموالهم على الضوابط”[3].
و وصفه ابن فرحون بأنه “صناعة جليلة وشريفة وبضاعة عالية منيفة، تحتوي على ضبط أمور الناس على القوانين الشرعية وحفظ دماء المسلمين وأموالهم، والاطلاع على أسرارهم وأحوالهم، وبغير هذه الصناعة لا ينال ذلك، ولا يسلك هذه المسالك”[4].
ويرجع ظهور علم التوثيق إلى بداية فجر الإسلام أي انطلاقا من تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، غير أن الوثائق خلال هذه الفترة تميزت بقلتها وبساطتها من حيث أسلوبها ووضوحها وإيجازها[5].
استمر الأمر على ذلك الحال إلى عهد الخلفاء الراشدين، فتوسع علم التوثيق وتطور، بتوسع الدولة الإسلامية ليشمل الغرب الإسلامي، حيث اعتنى به الأندلسيون أشد اهتمام، -وكان مرتبطا في البداية بفقه القضاء،- فألفوا فيه تآليف جليلة وكتبا مفيدة، فتفننوا وأبدعوا وبرعوا فيه براعة فائقة، منها كتاب محمد بن سعيد القرطبي المعروف بابن الملوك، وهو أقدم كتاب أندلسي في التوثيق.
توالت المؤلفات بعد ذلك فألف أحمد بن محمد بن مغيث الصدفي كتاب “المقنع في الوثائق”، وألف علي بن عبد الله بن إبراهيم “النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام”.
ازدهر هذا العلم وذاع وانتشر وتطور مع مرور الزمن، فنشط موثقون مغاربة في التأليف فيه، انطلاقا من القرن الثامن، وكانت لهم إنتاجات عظيمة، حيث أثروا الخزانة التوثيقية، منهم القاضي محمد بن أحمد بن عبد الله الفشتالي في فاس، وأبو جعفر أحمد بن محمد إبراهيم الأوسي المكناسي صاحب كتاب “المنهل المورد في شرح المقصد المحمود”، وهو عبارة عن شرح على وثائق الجزيري.
ومن أهم الكتب خلال هذه الفترة كتاب: “المنهج الفائق والمنهل الرائق والمعنى اللائق في آداب الموثق وأحكام الوثائق” الذي ألفه الإمام الونشريسي.
استمر التأليف في هذا العلم خلال القرن العاشر، فألف أحمد بن الحسن بن عرضون كتاب “اللائق لمعلم الوثائق”، وهو من أجود الكتب المؤلفة في علم التوثيق.
وخلال هذه الفترة دخل مهنة التوثيق العدلي من لا يستحقها شرعا ودون علم وكفاءة، فابتعد عنها العلماء الشرفاء إلا لضرورة العيش منها، فكثرت أخطاء ممن امتهنها، ووجهت لهم عدة انتقادات، وعابها أكثر العلماء المتخصصين في علم التوثيق،[6] الأمر الذي جعل السلطان أبا عنان المريني يتدخل بشكل فوري لإصلاح هذه المؤسسة عن طريق التقليل من عدد العدول في كل مناطق البلاد، والاقتصار على من تتوفر فيهم الشروط اللازمة لذلك، ويذكر أن السلطان لما أمر بالاقتصار على عشرة عدول من الشهود بمدينة مكناس، كتب من بينهم اسم الفقيه الفرضي القاضي أبي علي عثمان بن عطية الونشريسي.[7]
وفي عهد الدولة السعدية استمر العدول في مزاولة مهنة التوثيق العدلي وتلقي الشهادات، بعد أن يتم تعيينهم من طرف القضاة، وهم في الأصل علماء وفقهاء يتم اختيارهم لهذا الغرض، وكان هؤلاء العدول يجلسون في دكاكين متلاصقة خاصة، لممارسة مهنة التوثيق العدلي، وكانوا يتقاضون أجورهم من الزبناء بحسب أهمية ما يحررون لهم من وثائق البيوع والأنكحة والمواريث وغيرها.[8]
سار السلاطين العلويون على نفس النهج وأولوا عناية فائقة للتوثيق العدلي، حيث أصدر المولى محمد بن عبد الله ظهيرا شريفا أمر فيه القضاة بكتابة الأحكام في كل قضية في رسمين يأخذ المحكوم له رسما يبقى بيده حجة على خصمه والمحكوم عليه رسما، ومن حكم ولم يكتب حكمه، ولم يشهد عليه العدول فهو معزول.[9]
وفي عهد المولى الحسن الأول اهتم بشروط التوثيق حيث وجه كتابا إلى قضاة مراكش عام 1299 هجرية، نصه: “بلغنا أن طائفة من العدول أُذِنَ لهم في الشهادة إفتياتاً من غير اعتبار للشروط التي شرطناها، ولا وقوف مع الحدود التي بيناها وحددناها”[10].
ومن أهم المؤلفات التي ألفت في هذه الفترة كتاب الوثائق الفرعونية لمحمد بن أحمد بناني الملقب بفرعون، الذي شرحه القاضي عبد السلام بن محمد الهواري، مبينا فحوى كل وثيقة ومصححا الأخطاء اللغوية والفنية، كما شرحه بشكل أدق وأشمل أبو الشتاء بن الحسن بن محمد الغازي الحسيني المتوفى سنة: 1945م.[11]
وخلال العصر الحالي تم تنظيم هذه المهنة من خلال ظهائر ومدونات قانونية اعتمدها العدول في توثيق المعاملات، فأول ظهير شريف المعتبر بمثابة قانون صدر بتاريخ: 13 شعبان 1332هـ الموافق 7 يوليوز 1914م الذي نظم وتطرق في بعض فصوله إلى تنظيم مهنة التوثيق العدلي،[12] لتتولى النصوص القانونية في مجال خطة العدالة إلى أن صدر القانون رقم: 16.03 المنفذ بواسطة ظهير 14 فبراير 2006م ألغى بواسطته القانون رقم: 11.81 المنفذ بالظهير الشريف الصادر بتاريخ: 6 ماي 1982م والقانون المعدل له رقم: 04.93 المنفذ بظهير 26 يونيو 1995م.[13]
خلاصة القول فهذه نظرة موجزة في تاريخ التوثيق العدلي بالمغرب، منذ ظهوره مع بزوغ فجر الإسلام، وتمدده نتيجة توسع الدولة الإسلامية، ليصل إلى المغرب، ويتطور فيه مع مرور الزمن، ويصبح علما قائما بذاته يضبط علاقات المغاربة ومعاملاتهم فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين حكامهم من جهة أخرى، وذلك عن طريق البيعة التي كان العدول يوثقونها، وهو ما يؤكد أن مهنة التوثيق العدلي لها ارتباط كبير بالحضارة والهوية المغربية، كما لها علاقة وثيقة بالثوابت الدينية المغربية التي قامت عليها جل الدول الإسلامية التي حكمت المغرب، فكان لزاما من إعادة الاعتبار لهذه المهنة وإرجاعها إلى المكانة اللائقة بها، من خلال إصدار قوانين تحمي السادة العدول وتحفظ كرامتهم، وتوفر لهم ظروف عمل مناسبة، وميسرة غير مقيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد بن الطالب: مباحث في التوثيق العدلي وقواعد الإثبات في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي، دار العرفان أكادير سنة: 2018 ص: 32.
[2] ديباجة القانون 16.03 من خطة العدالة.
[3] شرح عبد السلام الهواري لوثائق الفقيه بناني، المطبعة الفاسية سنة: 1324هـ 1906م الطبعة الأولى، ص: 2.
[4] ابن فرحون: تبصرة الحكام، دار الكتب العلمية ط: 1 سنة 1416- 1995م ج: 1 ص: 200.
[5] عمر الجيدي: مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، مطبعة المعارف الجديدة سنة: 1993م ط:1 ص: 117.
[6] العلمي الحراق: التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، دار السلام، الرباط، سنة: 2013م ط: 3. ج: 1 ص: 88
[7] شرح عبد السلام الهواري لوثائق الفقيه بناني، ص: 6 – 7
[8] محمد حجي: الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين منشورات دار المغرب، سلسلة التاريخ: 2، مطبعة فضالة المحمدية سنة: 1976م ج: 2 ص: 118.
[9] محمد بن الطالب: مباحث في التوثيق العدلي وقواعد الإثبات في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي ، ص: 32.
[10] عبد الله كنون الحسني: النبوغ المغربي في الأدب العربي، عام 1380 هـ الثانية، ج: 2 ص: 457.
[11] نادية أيوب: النظام القانوني للتوثيق بالمغرب، مكتبة المعرفة، مراكش سنة: 2024م ط: 1 ص: 14.
[12] العلمي الحراق: التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، ج: 1 ص: 89.
[13] نادية أيوب: النظام القانوني للتوثيق بالمغرب، ص: 14.