هل فضل الإسلام الذكر على الأنثى؟ (2)

10 مايو 2021 10:51
د. بنكيران تعليقا على ندوة الحريات الفردية الممولة من طرف الاتحاد الأوروبي: قل لي من الممول أقول لك ماذا يحاك لك ويخطط لك

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

 خلصنا في المقال الأول إلى أن الإسلام لا يفضل الرجل على المرأة ولا المرأة على الرجل باعتبار الجنس، وإنما يكون التفضيل بسببٍ خارجي لا علاقة له بنوع الجنس، بل بسبب تضحيات عظيمة يقدمها طرف عن آخر، أو مسؤوليات كبيرة يتحملها طرف عن آخر. 

والتفضيل بين عموم الناس بسبب أدوار عظيمة يقومون بها أصل مقرر في الشرع، وله صور متنوعة من تاريخ الأمة: أوَ لم يفضل الله المهاجرين الأوائل على من جاء بعدهم، وفضل الأنصار على غيرهم، وعدّ من آمن قبل الفتح أفضل ممن آمن بعده، ومن حضر غزوة بدر أفضل ممن لم  يحضرها، ومن حاز شرف صحبة النبي أفضل ممن جاء من بعد ذلك، ومن استشهد في سبيل الله أفضل ممن لم يستشهد.. وهكذا. فالتفضيل بناء على هذا الأساس هو مقتضى العدل الذي يدعن له العقل السليم، ولعل صور تفضيل الرجل على المرأة أو صور تفضيل المرأة على الرجل لا تخرج في الإسلام عن هذا الميزان. 

ونعرض في المقال الآتي بعض صور التفاضل بين الجنسين التي لم يكن للذكورة والأنوثة دخل فيها، وإنما عرض التفضيل فيها لأسباب سبقت الإشارة إليها، كالتضحيات الجسيمة التي يقدمها أحدهما، أو المسؤوليات الكبيرة التي يتحملها طرف عن الآخر. ومن بين هذه الصور:

 1 – المفاضلة بين الأم والأب

عن أبي هريرةt قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ   فَقَالَ:  مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَال ﷺ: «أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ ﷺ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ ﷺ «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ ﷺ «ثُمَّ أَبُوكَ». متفق عليه

 يدل هذا الحديث على أن للأم والأب حقا في المصاحبة الحسنة، وهو الحق الذي بينه القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ ﴾، إلا أن السنة النبوية فصلت في درجات هذا الحق التي يستحقها كل من الأبوين، فقررت تفضيل الأم على الأب بثلاثة أرباع البر والمعروف، ولم تكن ذكورة الأب مانعة من تفضيل الأنثى عليه.

فما الحكمة في هذا التفضيل؟

لا نجد أفضل من القرآن لبيان ذلك، فقد كشف عن هذه الحكمة في موطنين اثنين:

في سورة لقمان: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنࣲ وَفِصَـٰلُهُۥ فِی عَامَیۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِی وَلِوَ ٰلِدَیۡكَ إِلَیَّ ٱلۡمَصِیرُ ۝١٤﴾،  وفي سورة الأحقاف: ﴿وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ إِحۡسَـٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهࣰا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهࣰاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَـٰلُهُۥ ثَلَـٰثُونَ شَهۡرًاۚ..﴾   فبعدما  أمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين معاً ونزل أمره منزلة الوصية التي لا يجوز التفريط فيها، لم يذكر من الأسباب الموجبة لذلك إلا ما له تعلق وخصوصية بالأنثى؛ أي الحمل والوضع والرضاعة، إشارة منه إلى الحكمة من تقدمها عليه وتفضيلها في هذا المقام.

ومن الأثر العملية لهذا التفضيل أنه عند تعذر القيام بحق الأبوين والوفاء ببرهما معاً فإن حق الأم يقدم على حق الأب عند المزاحمة كما قرره العلماء، ومن صوره مثلا، تقديم الأم في الحج إذا كان الوالدان لم يحجا، ومنه كذلك سداد الدين، وغيرهما من الصور التي تندرج في مفهوم حسن الصحبة وأفضلية الأم على الأب فيها.

لكن، هل تفضيل الأم على الأب في سائر المجالات المشتركة بينهما ظاهرة مطردة؟

يعد موضوع الإرث مانعا من اطراد هذا التفضيل:

ففي حالة معينة، أي عند وجود فرع وارث، فإن الأم ترث مقدار ما يرثه الأب بالتساوي لا فرق بينهما؛ (وَلِأَبَوَیۡهِ لِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُۥ ولد).

وفي حالة أخرى ترث نصف ما يرث الأب، فتحوز هي الثلث ويحوز هو الثلثين؛ (فَإِن لَّمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلَدࣱ وَوَرِثَهُۥۤ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ ٱلثُّلُثُۚ).

مع ذلك، وإن ظهر أن باب الإرث يكبح قاعدة اطراد تفضيل الأم على الأب، فإن ذلك يدحض في الآن نفسه ادعاء التفضيل المطلق للذكور على الإناث، فقد تساوت الأم مع الأب في حالة معينة وأخذ كل واحد منهما السدس، وهذا يدل على أن مناط التفضيل لا يعود للذكورة أو الأنوثة، بل يعود لأوصاف أخرى تنطوي على حكم ومقاصد قد تخقى وقد تظهر، وفي حالة خفائها، لا يسعنا إلا التسليم لأنها من لدن عليم حكيم.

 2 ـ المفاضلة بين الأخت والأخ

كما أن النصوص الشرعية دلت على تفضيل الأم على الأب وبينت سبب التفضيل، فقد فضلت الأخت على أخيها في باب البر أيضا، دليل ذلك ما رواه أحمد بسند صحيح عن أبي رمثةَ رضي الله عنه قال: “انتهيتُ إلى رسول الله فسمعتهُ يقول: «برَّ أمكَ وأباك، وأختكَ وأخاك، ثُمَّ أدناك أدناك». ورى الطبراني في المعجم الأوسط عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي أَهْلًا وَأُمًّا وَأَبًا، فَأَيُّهُمْ أَحَقُّ بِصِلَتِي؟ قَالَ: «أُمَّكَ، وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ، وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ». وعند أبي دواد وغيره عن كُلَيْب بن مَنْفَعَةَ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ ﷺ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ ﷺ: «أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ وَمَوْلاَكَ الَّذِى يَلِى ذَاكَ حَقٌّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ».

نلاحظ أن الشرع قدم الأخت على أخيها كما قدم الأم على الأب إشارة منه إلى تفضيلها عليه، ولم أظفر بسبب صريح في تفضيل الأخت على الأخ وتقدمها عليه؛ فلئن كانت الأم تعبت في الحمل والوضع والرضاعة.. فماذا قدمته الأخت لتنال هذا التفضيل، ألأنها تحتاج إلى رعاية واهتمام أكثر من الذكر، أم لأنها تقوم بأعمال وتضحيات داخل الأسرة أكثر من أخيها ويستفيد هو منها كذلك كما جرت به  العادة في غالب الأسر، فكان من المناسب أن تتقدم عليه ويكون لها التفضيل في البر؟  

نفحص هذا الافتراض من خلال باب الإرث ما دام الموضوع الذي حد من مطلق تفضيل الأم على الأب عسى أن نختبر  مدى اطراد تفضيل الأخت على أخيها. ولعل من الحالات التي يمكن أن تجيب عن هذا الاختبار بشكل شامل المسألة الآتية:

مات شخص وترك إخوة أشقاء وإخوة لأب وإخوة لأم، فالوارثون في هذه الحالة الإخوة لأم والإخوة الأشقاء؛

يرث الإخوة لأم بالتساوي لا فرق بين الذكر والأنثى ولا تفضيل لأحدهما على الآخر لقوله تعالى: (وَإِن كَانَ رَجُلࣱ یُورَثُ كَلَـٰلَةً أَوِ ٱمۡرَأَةࣱ وَلَهُۥۤ أَخٌ أَوۡ أُختࣱ فَلِكُلِّ وَ ٰحِدࣲ مِّنۡهُمَا ٱلسُّدُسُۚ فَإِن كَانُوۤا۟ أَكثَرَ مِن ذَ ٰلِكَ فَهُمۡ شُرَكَاۤءُ فِی ٱلثُّلُثِۚ)، والمراد بالإخوة هنا إخوة لأم بالإجماع.

ويحجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب ويرثون الباقي، للذكر مثل حظ لأنثيين.

فإن كانت هذه الحالة تبين تفضيل الأخ الشقيق على أخته، إلا أن هذه التفضيل لا علاقة له بالذكورة والأنوثة، ولو كان كذلك لفضل أخ لأم على أخته، والأمر ليس كذلك، لأن حصتهما متساويتان، بل نجد أن من أدلى بأنثى فضل على من أدلى بذكر، والمقصود أن الإخوة لأم ورثوا ولم يرث الإخوة لأب. ولو أردنا أن نطلق العنان للقلم أن يكتب ما شاء لقلنا إن الشارع فضل الأنثى على الذكر، والحقيقة ليست كذلك لا طردا ولا عكسا، ففي هذا المثال يتضح بجلاء أن الشارع لم يرتب أحكامه في موضوع الإرث على وصفي الذكورة والأنوثة.  

3 ـ مفاضلة بين البنت والابن

قررنا آنفا أن منظومة تشريع المواريث لا تعتبر الذكورة أو الأنوثة في ترتيب أحكام الإرث، أي أنها لم تجعل علة التفضيل بينهما نوع الجنس، فلا مطلق الذكر  أفضل من مطلق الأنثى ولا العكس، ففي حالات يقدم الذكر على الأنثى، وفي حالات تقدم الأنثى على الذكر، وفي حالات يتساويان، ولهذا، فإعطاء الابن ضعفي ما تأخذه البنت من ميراث أبويهما لن يغير ما سبق تقريره.

وإذا كان الميراث نحى منحى التفريق بين الابن والبنت وأعطى الذكر ضعفي نصيب الأنثى، فإن الهبة لم تفرق بينهما. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لاِبْنِهَا، فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ. فَقَالَتْ: لاَ أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى مَا وَهَبْتَ لاِبْنِى. فَأَخَذَ أَبِى بِيَدِى وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِى وَهَبْتُ لاِبْنِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ « يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ ». قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ «أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ ». قَالَ لاَ. قَالَ « فَلاَ تُشْهِدْنِى إِذًا فَإِنِّى لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ».

دل الحديث على أن تخصيص أحد الأولاد بعطية دون الباقي لا يجوز. ولفظ “ولد” في الحديث يشمل الذكر والأنثى معا. ولهذا، من الجور أن يخص الوالد ابنه بهبة دون بنته، فلا بد أن يسوي بينهما في العطية كما هو مذهب الجمهور، وهو الأظهر للأدلة التي تفيد ذلك، من بينها:

ما رواه مسلم أن النبي ﷺ قال: «اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر».

وكذلك ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه وغيره وحسنه الحافظ في فتح الباري عن ابن عباس مرفوعا: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ فَلَوْ كُنْتُ مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْتُ النِّسَاءَ». وللنسائي بسند صحيح من حديث النعمان بن بشير مرفوعا «أَلاَ سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ».

ومن ذهب من العلماء إلى استحباب التسوية في العطاء بين الأولاد وعدم وجوبها فليس مانعا لديهم أن تكون الأنثى هي المفضلة في العطاء مستدلين بما روي عن الصديق رضي الله عنه أنه فضل عائشة رضي الله عنها على غيرها من أولاده في هبة. ويمكن أن نلخص أقوال الفقهاء في الهبة في ثلاثة:

القول الأول: وجوب التسوية بين الأولاد في الهبة لا فرق بين الذكر والأنثى، وهو أقوى الأقوال لموافقته ظاهر الأحاديث النبوية.

القول الثاني: وجوب التسوية بين الأولاد، لكن بتأويل أن للذكر مثل حظ الأنتثين، وليس لأصحاب هذا القول دليل خاص سوى القياس على حق الأولاد في الميراث، وهو أضعف الأقوال؛ لأنه قياس يخالف ما دل عليه ظاهر الأحاديث التي تدعو إلى التسوية في الهبة بين الجنسين، وكذلك قياس الهبة على الإرث، وهو قياس أصل على أصل لهما فروق مؤثرة فيما بينهما تجعل القياس ضعيفا، من بينها أن الهبة تمليك لمال للموهوب له في حياة الواهب بخلاف الإرث، وأن تحديد نصيب الميراث كان فريضة من الله، أما الهبة فهي موكولة لرغبة الواهب.

القول الثالث: استحباب التسوية في الهبة، لكن لا مانع أن يهب الأب للأنثى ولا يهب للذكر، أو يعطي للبنت أكثر من الابن، كما يجوز أن يعكس ذلك.

وكما هو ملاحظ، فالأقوال الثلاثة لم تُبن على مسألة الذكورة والأنوثة وإن كان ظهور ذلك في القول الأول والثالث أكثر، مع أن النصوص الشرعية ظاهرة في وجوب التسوية في الهبة بين الجنسين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M