هل يمكن قيام النهضة بدون بناء الإنسان؟

08 مايو 2025 18:47

هوية بريس – ابراهيم الناية

قد يقصد الشخص مصلحة ما لقضاء بعض المآرب ولكنه يستشيط غيظا لأن حاجاته لم تنجز على الوجه الذي يريد، وهنا يصب جام غضبه على المؤسسة والقانون، بل يرسل سيلا جارفا من الانتقادات للأوضاع ولم يعلم من أين جاء التقصير والتهاون؟ فهل من طبيعة القوانين والمؤسسات؟ أو من الأشخاص؟ أو من الجميع؟ وهذا السؤال يتولد عنه سؤال آخر عريض: هل مشاكلنا سياسية؟ أم اقتصادية؟ أم ثقافية؟ أم أن المشكل الذي نعانيه هو مشكلة الإنسان؟

إن الشعوب إذا أرادت أن تستيقظ من سباتها وتعيش حالة البعث والنهوض عليها أن تعرف الطريق ومعالمه ومن أين تبدأ لكي لا تخطئ العنوان؟ إن التركيز ومنذ البداية ينبغي أن يتأسس على بناء الإنسان لأن الإنسان هو جذر القضية ،وكل خيار غير ذلك يؤدي بأصحابه إلى الفشل، ومن المعلوم أن الخيارات لا يمكن أن يكتب لها النجاح إذا كان أصحابها يفكرون بعقلية الفشل. بل نجد الكثير من الناس يتحدث عن التنمية وعن النهضة ولكن هؤلاء يغفلون الحديث عن الإنسان وكيف يمكن تطوير قدراته؟ إن لأن الإنسان هو العنصر الأساسي في بناء أي نهضة أو تنمية ومن هنا يمكن التساؤل:

أولا : ما علاقة الإنسان بمشروع النهضة أو التنمية؟ وأي نمط فكري يمكن الاستناد عليه من أجل صناعة الإنسان الناجح والإيجابي؟

ثانيا :كيف يمكن لأي شعب أن يبني نهضته وحضارته والتعليم الذي يصنع الإنسان تعليم مخرب ومفكك الأوصال لا هوية له ولا مبدأ يتأسس عليه؟

ثالثا: أي إنسان نريد أن نتحدث عنه ونهدف إلى بنائه؟ وهل يتعين على أية نهضة أن تكون متلائمة لطبيعة خلق الإنسان ؟وما النتائج المترتبة عن الانفصال بين طبيعة الإنسان والتقدم التقني الذي أنشأه هذا الإنسان؟

رابعا: هل الأنظمة التربوية الغربية قامت ببناء الإنسان الصالح أم المواطن الصالح؟

خامسا: ما العلاقة بين الوسائل والأهداف في مشروع تربوي هادف؟

وما هي الأسس والخطوات الإجرائية التي تستند عليها النظرية التربوية التي تدعو إلى بناء الإنسان الصالح؟

إن الإنسان هو المشروع الذي ينبغي للأمة أن تستثمر فيه وأن تجعله نقطة البداية في العمل المؤسساتي نظرا لكونه هو الكائن الوحيد الذي يحتل موقعا مركزيا في الوجود ويتحمل مسؤولية الاستخلاف في الأرض ، لكن قد يكون هدفه هو تحقيق الخير أو يكون هدفه تحقيق الشر ،ومن ثم إن تحقيق الأهداف راجع إلى ما قدم لهذا الإنسان من تربية وفكر وسلوك.
صحيح إن للإنسان فاعلية ذاتية ولكن التربية والتوجيه يلعبان دورا مهما، فكل أمة تريد بناء ذوات أبنائها بحسب ما تريد أن تصل إليه وتحققه من أهداف وهذا هو مكمن الخطر، فقد يكون التوجيه والتربية غير سليمين ومن ثم يكون المنتوج تبعا لما قدم له ،كما أنه من المسلم به عند الشعوب التي خرجت من الجهل والفقر والمرض أن المنطلق لبناء الأوطان هو بناء الإنسان ،فكثير من الشعوب خرجت من الحروب ومن الاستعمار والاحتلال منهوكة ولكنها راهنت في النهضة على الاستثمار في الإنسان أولا. وهكذا جعلت من العلم وتربية الإنسان هو المنطلق الأساس لتحقيق الاستقلال في كل شيء، وقد يحضر السؤال المحرج: ما هو النمط الفكري الذي يمكن الاعتماد عليه من أجل تكوين الإنسان الناجح والإيجابي؟ فالغرب سلك منذ أيام عصر النهضة الأوروبية مسلك العلم والمعرفة والاعتماد على الذات ولكن في عالمنا أجاب بعض دعاة التغريب على السؤال السالف أنه لكي ننهض ينبغي الذوبان في الغرب وهو أمر يتناقض مع الشرط الأساسي لقيام النهضة في أي أمة من الأمم وهو مراعاة ذاتية الأمة وضميرها . إن التلكؤَ بين النظريات الاستلابية هو الذي أوصل شعوبنا إلى الحالة التي تعيش عليها حاليا من ذوبان وفقدان للذات والهوية فالنهضة لا يمكن أن تتحقق بتقليد الأمم الأخرى أو سلوك نفس الخطوات لأن القيم والواقع التاريخي والاجتماعي يختلفان. نعم يمكن للإنسان أن يستفيد من كل التجارب الإيجابية التي تساعده على الإقلاع ولكن دون أن يفقد ذاته ولكن الشعوب التي ظلت مقلدة لشعوب أخرى وتسبح في فلكها دون أن تساهم في الإبداع الحضاري محكوم عليها بالدوران في الحلقة المفرغة لأنها فرطت في تربية الإنسان ولم تجعل منه أداة فعالة في الإبداع والإبتكار، فعندما تتحول أراضي شعوب إلى أسواق تجارية لمنتوجات شعوب أخرى فهذا يدل على مدى تخلفها عن مسايرة التحولات العلمية، ولكن لا بد من الإشارة إلى شروط أساسية يتعين وجودها للدخول إلى سبيل النهضة فرفض الوصاية وعدم التبعية واستقلال الذات والإرادة والاستفادة من التجارب المختلفة كل هذه الأمور لا بد من وجودها لكي نمهد لبناء الذات ولكن الأمة التي تطمع في تحقيق أهدافها دون بناء ذوات أبنائها فهي بمثابة طمع إبليس في الجنة.

وقد تفطن الغرب في وقت مبكر إلى البعد المعرفي والعلمي في بناء النهضة وهكذا تأسست فلسفة منهجية في البداية لتستكمل بقيام الفلسفة العلمية ومناهج البحث ،ومن ثم إحداث القطيعة مع التفكير المتافزيقي اليوناني لذلك ظهر المنهج العلمي الذي يعد القاعدة الأساسية لنهضة الغرب المعاصر في حين بقي ثلة من الباحثين من بني جلدتنا يرددون الأفكار المميتة ويقومون بالترويج لها داخل مجتمعاتنا مكرسين بذلك عقلية التبعية.

ويعتبر التعليم هو الإطار الأساسي لبناء الإنسان فبرامجه وفلسفته ينبغي أن تهدف إلى بناء الإنسان الذي يشعر بانتمائه إلى أمته وحضارته وتاريخه وقيمه ويتأسس مشروع التعليم على جواب عن السؤال من نحن؟ حتى يمكن وضع الإطار الذي يحدد خياراتنا ولذلك ان التعليم ينبغي أن يكون بعيداً عن المناكفات السياسية والحاجز الوحيد الذي لا يمكن تخطيه هو ذاتية الأمة وكينونتها ومن ثم إن التعليم هو الإطار الذي يستثمر فيه الوعي التاريخي الذي يحافظ على عنوان الأمة وهويتها ولا يمكن لأي مشروع نهضوي أن ينجح إلا إذا كان هناك تعليم ناجح، إن الشعوب التي نجحت في مشروع نهضتها استندت على التعليم لأنه هو الوعاء الذي يتلقى فيه الإنسان أسباب النجاح. فهل تعكس برامج التعليم بناء الإنسان الذي يعد مقدمة لبناء الوطن؟ وما النتائج التي توصلنا إليها أثناء مسيرتنا التعليمية منذ فجر الاستقلال إلى اليوم؟ وهل بنينا ذلك الإنسان المعتز بانتمائه إلى أمته وحضارته؟ أم بنينا ذلك الإنسان الفاقد للعنوان التائه في البحث عن ذاته هل يجدها أم لا يجدها؟ هل بنينا ذلك الإنسان المعتمد على ذاته في كل شيء؟ هل بنينا ذلك الإنسان الذي يريد أن يهيأ له كل شيء؟ هل بنينا ذلك الإنسان الذي يهدف إلى تحقيق المنافع المادية؟ أم الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق القيم والمثل؟ هل ربينا ذلك الإنسان المستقيم الذي يقوم بواجبه على أكمل وجه في مختلف مجالات الحياة؟ وهل ربينا أطفالنا على أن لا يأخذوا شيئاً لا يستحقونه وأن لا يصلوا إلى هدف دون أن يبذلوا مجهوداً؟ وانطلاقاً من هذه التساؤلات ينبغي التأكيد أن برامج التعليم ينبغي أن تتأسس على جواب السؤال السالف من نحن؟ وأي إنسان نسعى لبنائه؟ هل الإنسان الذي نريد تهيئته وتربيته حيوان كما تذهب إلى ذلك منظومة التفكير الغربي؟ أم الإنسان الذي نريد تنشئته وتربيته هو مخلوق وكائن متميز له مواصفات تخصه وتميزه عن بقية الموجودات؟ وبالواضح هل الإنسان الذي نريد بنائه هو ذلك الإنسان الذي قدمت صورته الثقافة الغربية؟ أم الإنسان الذي صورته الرؤية الإسلامية؟ وكيف نجعل من هذا الإنسان الذي نتحدث عنه يحقق مشروعاً في حياته؟ وهل هناك تناسق بين طبيعة الإنسان وأهدافه التي يريد أن يحققها؟ إذن لابد من رؤية واضحة لهذا الإنسان لأن البشرية لا تستجيب لمنهج مقروء أو مسموع وإنما تستجيب لمنهج حي متحرك وواقعي مجسد في حياة جماعة بشرية مترجم إلى واقع تراه العين وتلمسه اليد وتلاحظ آثاره العقول .لان النظرية التربوية تسعى جاهدة لنقل الانسان من الواقع الذي تسوده التجاوزات والاختلالات والذي لا يمكن ان يستمر لانه لا يحمل عناصر الاستمرارية والبقاء الى واقع اكثر تجسيدا للايجابية واكثر انسجاما مع طبيعة الانسان. ولذلك ان بناء الانسان ينبغي ان يجسد في واقع حركي في ذاتية انسان يعيش على الارض ولابد ان يلامس هذا المنهج الحياة العامة للامة وكذلك الافراد والجماعات ،لكن هناك تساؤل: ما العلاقة بين المنهج والهدف في بناء صياغة الانسان؟

ان النظرية الغربية في التربية اخذت خصوصيتها من المجتمع الذي نشأت فيه. وعادة ما يربطون بين الاهداف والوسائل. فما هو محتوى النظرية التربوية الغربية؟ لقد انطلقت في نظرتها من حيوانية الانسان ولذلك كان هدفها هو تكوين الانسان المادي النفعي وكيف يمكن ان يكون مواطنا صالحا؟. اما النظرية الاسلامية فهي تنطلق من منطلق اخر وتنظر الى الانسان على انه مخلوق مكرم وليس بحيوان على الاطلاق. ويحتل موقعا مركزيا في الوجود. ولذلك ان مضمون النظرية التربوية الاسلامية يختلف عن الرؤية الغربية في المحتوى والوسائل والاهداف.

تنطلق النظرية التربوية الاسلامية من المبادئ التالية: اولا : العبودية المطلقة لله واستحضار رقابته على ذاتية الانسان.

ثانيا :الاستقامة والانضباط في كل شيء.

ثالثا :القدوة ،فما يريد الانسان قوله يقدمه بفعله وسلوكه اولا.

رابعا: لا تناقض بين الوسائل والاهداف. فالاسلام دين رباني ووسيلته في العمل ينبغي ان تكون ربانية. وهنا يمكن التساؤل اي النظامين المعرفيين يتلائم وطبيعة خلق الانسان.؟ ان النظام الشامل لكل جوانب حياة الانسان هو الذي يتناسب وطبيعة خلقه. ولا ينبغي التركيز على جانب دون اخر. ان النظام القائم على التناسق والاعتدال والتوازن هو المؤهل للتعامل مع طبيعة الانسان التي خلقت اصلا على التوازن كما ينبغي اقامة الانظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية والتعليمية والتربوية المتكاملة على اعادة انشاء الانسان. ثم هل انشأ الانسان حضارة تلائم طبيعته اي هل هذه الحضارة تلائم طبيعة الانسان رغم كونه انشأها ؟.إن الحضارة المعاصرة انشأت دون معرفة الطبيعة الحقيقية لهذا الانسان. فهي لم تنظر الى الانسان في كل ابعاده. لانها انطلقت من النظرة المادية للانسان.

ولذلك تم التركيز على جانب واحد دون بقية الجوانب الاخرى إن الجهل بحقيقة الانسان يترتب عنه تخبط في الحياة البشرية وتظهر اثاره واضحة فالحياة الانسانية لا تستطيع ان تبقى اذا دمرت خصائص الانسان. لقد تم تحويل الانسان الى آلة وحيوان رغم ان الله خلق الانسان ليكون انسانا وليس الة ولا حيوانا. فالانسان خلق وفق نظام معين من الخلق. واراد له الخالق ان يسير وفق قانون معين يتلائم و طبيعة الخلق ،فإذا سلك طريقا اخر مناقضا لطبيعة الخلق فتلك هي التعاسة، ولذلك ان النهضة التي نتحدث عنها ينبغي ان تكون متلائمة وطبيعة خلق الإنسان وليست مناقضة لها. واختلاف النظرة الى الانسان وطبيعته ادى الى الاختلاف حول هدف التربية. فهل هدف التربية هو اعداد المواطن الصالح؟ ام الانسان الصالح ؟

فالتربية الانجليزية مثلا تنشئ الفرد على كثير من السلوك الحميد والصفات الايجابية. ولكن هذا الامر في حدود بريطانيا. ولكن الانجليزي او الانسان الغربي عموما عندما ينتقل الى بلد اجنبي يفاجئك انسان اخر يتصف بكل الصفات المناقضة للتي كان يمارسها داخل حدود بلاده لانه لم يتلق تربية انسانية ولم يكن قط مخلصا لله لان قاعدة تربيته لم تكن قائمة على الاتصال بالله. كما ان تربية الانسان الامريكي تقوم على مصلحة امريكا وليس مصلحة الانسانية. وقد يتعجب المرء عندما يرى الانسان في الغرب يلتزم بالقوانين ولكنه خارج بلاده يتحول الى اداة للنهب والسيطرة. فقد نادت الثورة الفرنسية بالحرية والايخاء والمساواة. ولكن فرنسا تحولت بعد ذلك الى دولة غازية كما نجد الغربيين يلتزمون بالديمقراطية في بلادهم ولكن يدعمون الطغاة والاستبداديين في غير بلادهم. اما منهج التربية الاسلامية فهو منهج متميز متفرد في وسائل واهدافه ولذلك يسعى للاسلام الى تحقيق هدف اشمل واكبر هو اعداد الانسان الصالح من حيث هو انسان لا من حيث هو مواطن، ولذلك ان الانسان المسلم يلتزم بسلوكاته مع كل انواع البشر سواء داخل بلده او خارجه.

وفي الاخير ان الانسان اجمل موجود على الارض. ولذلك ينبغي ان يكون فعله فعلا جميلا حتى يكون هناك انسجام بين جمال الخلق وجمال الفعل.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
9°
19°
الثلاثاء
19°
الأربعاء
19°
الخميس
20°
الجمعة

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M