آيا صوفيا.. هل شُفي “الرجل المريض”؟
هوية بريس – إبراهيم الطالب
لا شك أن التاريخ حلقات مترابطة يحيل بعضها إلى بعض في حركة “تقدمية” لا تتوقف، وهذه الإحالة ليست مجرد زمن أجوف لا يمكن التعبير عنه إلا بالعدّ والحساب، بل هو كتلة دائرية تتدحرج من حلقة زمنية إلى أخرى، لتنتقل بشخوصها وأحداثها وأفكارها ومؤثراتها ومنجزاتها المادية واللامادية، لتصنع تراكما لا يتساقط منه شيء بل يندمج بعد تمايز ويتناسخ ويتناسل في تدحرج نحو مصير معين، هذا المصير يتشكل وفق صور وحقائق ومعطيات مختلفة متنوعة، وتفاعلات بين عناصر مؤثرة ومتأثرة، لتصنع واقعا حاضرا يعتمد على ماض، من أجل صنع مستقبل، سرعان ما يصير هو نفسه حاضرا ثم يغيب لينصهر في ماضٍ جديد يصنع حاضرا متجددا من أجل مستقبل آخر، حركية لا تجعل للزمن وجودا على وجه الحقيقة إلا في ما يتركه على الواقع من شواهد وآثار، تحمل في أعماقها أرقاما يقال هي تواريخ وقعت فيها.
وبهذا يصير التاريخ مجرد أرقام وعدٍّ، لكن ليست أرقاما بكماء ولا خرساء ولا جوفاء، بل كلها تنبض حياة وتُمدّ المطلع عليها بقوة، فالحدث مهما صغر وحقر في وقته، يصبح بتوالي الدهور ذا قيمة لا تتناهى.
فالقِدر من الخزف ليست سوى طينِ يابس أخرس جامد، لكنها حين يطول مكثها النسبي المتحرك دوما، وتنتقل بين تلك الحلقات المذكورةتكتسب القيمة المتعالية، ليس لأن القِدر تغيرت من حال إلى حال، ولكن لِما تحمله معها من دلالات ومعاني وحمولات وشواهد تشكلت فيها بمرور الزمن، حتى صارت تحفة تشيَّد لها المتاحف ويوظف لها الحراس، ويتزايد عليها المهوسون بالتاريخ في المزادات التي تحدد لها أسعارا لا منطق لها، ولا علاقة لها بمظهر المبيع ولا بمادته المصنوع منها.
فاستئناف مَعلمة مثل آيا صوفيا لوظيفتها التي كانت تقوم بها، قبل تغول العلمانية الغربية في بلاد آل عثمان، ليس مجرد تغيير وظيفي لمبنى تاريخي، من متحف إلى مسجد بل هو، كتلة من حجارة كل جزء منها مهما تصاغر في جِرمه، لا تكفي فيه أموال الدنيا لشرائه، ولا تكفي فيه الكتب لتقييد شواهده ودروسه وعبره ودلالاته الحضارية، كل جانب منه يشهد على جزء من الزمن اختزل ملايين المعلومات تماما كما تختزل في تضاعيفها الشرائح الإلكترونية بلايين المعلومات الرقمية.
فآيا صوفيا ليست كنيسة أصبحت مسجدا ثم متحفا ثم مسجدا مرة أخرى؛ هي “إسلامبول” بعد أن كانت القسطنطينية، هي الفتح والفاتح “أبو الفتح” المذكوران في حديث: “فلنِعم الأمير أميرها ولنِعم الجيش ذلك الجيش”، هي السؤدد والنصر، هي الحضارة والمدنية، هي تمدد الإسلام في أوربا بعد الفتح.
آيا صوفيا، هي ستة قرون من الحضارة الإسلامية، هي ياقوتة تيجان كل ملوك آل عثمان.
آيا صوفيا هي مؤشر الزمن وعقرب ساعته، الذي بدونه لن يستطيع العالم معرفة الوقت، هي الشاهد على النصر في الحروب الصليبية، فصارت مسجدا، هي الشاهد أيضا على الهزيمة أمام الصليبيين والعلمانيين فصارت متحفا، وهي اليوم شاهد على شفاء “الرجل المريض” و”نهضة” من فراش الضعف الذي استغله السراق الإرهابيون، فعندما أصبحت مسجدا عامرا مرة أخرى، وصدحت بالآذان فذلك دليل بُرْءِ الرجل المريض، فهل قام اليوم ليسترد ما اختلسه اللصوص في بدايات قرن المؤامرات قرن التوحش “الأبيض” الذي يشهد على حقيقة التمدن والحضارة الغربية.
آيا صوفيا هي الشاهد على الفتح الإسلامي الذي نشر المسلمون بعده العدل والرحمة في أوربا وهي الغلبة المادية الشاهدة على الظلم والتقتيل الذي مارسه المحتل الغربي عندما حاول قتل من أسماه “الرجل المريض” دون رحمة ولا شفقة..
آيا صوفيا هي الشاهد على أن الإسلام لا يموت أبدا، ففي الوقت الذي بدأ الإسلام يضعف في أوربا الغربية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وقبل سقوط غرناطة وحروب الإبادة التي مارستها الحضارة الصليبية، وبعد سقوط قرطبة بأكثر من قرنين، دخل الفاتح مدينة إمبراطور الروم، واشترى آيا صوفيا بحُرِّ ماله، وأوقفها على المسلمين لإقامة التوحيد والصلاة بها، فبدأت مآذن آيا صوفيا، تشق حصون أوروبا الشرقية، فكلما ضعف جانب من الإسلام هناك في الغرب الأوربي قوي جانب منه في شرقها.
لم يستطع الموحدون الصمود طويلاً، حيث انهزموا هزيمة قصمت ظهر الإسلام في الأندلس هناك في معركة العقاب في عام 1212م، فانفرط العقد بعد انفصام سلك نظامه، فتهاوت بعد ذلك معظم الحواضر الإسلامية في الأندلس على أيدي مملكة قشتالة الصليبية، فسقطت قرطبة عام 1236م على يد فرناندو الثالث.
لكن في الوقت الذي سقطت فيه قرطبة بعد أكثر من خمسة قرون من الشموخ الحضاري تحت ظل حكم الإسلام، كانت القوة الإسلامية العثمانية تتصاعد وتكبر، وتتهيأ لتعيد الإسلام إلى أوربا من الشرق، وكأن قدر أوروبا أن تعيش الإسلام فيعرفه أبناؤها رغم كل المؤامرات والدسائس ورغم كل الوحشية التي قابلت بها محاكم التفتيش وقساوستها حضارة الإسلام المجيدة في شبه الجزيرة الإبيرية.
ففِي الوقت الذي كان الصليبيون يقتلون المصلين في مسجد قرطبة ويستولون على تراث المسلمين في إسبانيا، كانت آيا صوفيا قد مَلَّت مسوح الرهبان المتواطئين مع الإقطاع والملوكعلى ظلم النصارىوقهرمساكينهم، فلم يستكمل الصليبيون إسقاط الممالك الإسلامية في الأندلس التي فتحها محمد الداخل وقبله الغافقي وطارق بن زياد، حتى انحنت القسطنطينية لعباد الله يقودهم محمد الفاتح،ففتحت أبوابها للإسلام معلنة من آيا صوفيا شعار الإسلام الخالد: “الله أكبر.. حي على الفلاح.. لا إله إلى الله”.
وللقارئ المستمتع بالتاريخ أن يتأمل في هذه الملاحم والوقائع، فلقد كان فتح القسطنطينية في سنة 1453م، في حين كان آخر الحصون سقوطا هو غرناطة في سنة 1492م، فهل يمكن أن نفهم حزن بابا النصارى، وتهديدات الغرب، وإرعاد روسيا، وغيظ الإمارات وإعلامها وحلفائها، وحنق القساوسة في الكنائس الأرثوذكسية خارج هذا السياق التاريخي؟
لقد سقطت الخلافة على يد الدول الغربية العلمانية التي تستخدم الصليب كما تستخدم المدفع والصاروخ، بتواطؤ مع يهود الدونمة متوارين خلف العلمانية، فعطلوا بعد بضع سنين دَوْر المسجد الكبير، وغيروا وظيفته من مسجد إلى متحف، اليوم ينتصر الحق، وتستقبل آيا صوفيا وجوه المصلين بابتسامة كلها أمل نحو مستقبل يستعيد فيه المسلمون أمجادهم.
إن إعادة الوظيفة الحقيقية لآيا صوفيا بعد 86 عاما، هو حدث عظيم ذو رمزية كبيرة جدا، فيمكن أن نعتبره أهم حدث يشرِّف المسلمين منذ أن غزا نابليون مصر بعد ثورة الأنوار 1789م بتسع سنوات.
في هذا السياق يجب فهم تصريح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية “مورغان أورتيغاس” حين قالت: “خاب أملنا من قرار الحكومة التركية تغيير وضع آيا صوفيا”.
الأمر نفسه بالنسبة لكبير مسؤولي السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “جوزيف بوريل”، عندما قال إن “حُكم مجلس الدولة التركي بإبطال أحد القرارات التاريخية لتركيا الحديثة وقرار الرئيس أردوغان بوضع هذا الأثر تحت إدارة رئاسة الشؤون الدينية مؤسفان”.
فلماذا تحس أمريكا بخيبة الأمل وأوروبا بالأسف؟ ألم تكن آيا صوفيا طيلة 567 عاما مسجدا قبل أن يحوِّله الغرب وأذنابه العلمانيون إلى متحف في أفق أن يعود مرة أخرى كنيسة أرثوذكسية؟
الغرب المتحضر والديمقراطي يؤيد الكيان الصهيوني في مجازره في فلسطين، ويتواطؤ معه على اغتصاب أراضي المسلمين وسرقة أوقافهم ومقدساتهم، ثم يحزن ويأسف لأن دولة تحترم نفسها وشعبها، طبقت قوانينها،واحترمت فصل السلط، وامتثلت “للديمقراطية” كما تفهمها لا كما يمليها الغرب، فألغت قرارا إداريا مستندة على القضاء، ورفعت الاعتداء عن مسجد لعبادة المسلمين الذي تم تحويله ظلما إلى متحف.
أوروبا وأمريكا تغضبان وتأسفان لأن القضاء والإدارة التُّركيين أنصفا ملايين المسلمينالذين ظلوا هموآباؤهم وأجدادهم يصلون في آيا صوفيا قرابة الستة قرون، هكذا عودنا الغرب المتحضر يتواطؤ مع الاستبداد، وينتهك الحرمات ويتألم فقط عندما يمس المسلمين الخير، ثم يتحين الفرصة للانتقام.
ويحلو لي أن أختم بجزء من قصيدة للشاعر الكبير حافظ ابراهيم رحمه الله والتي نظمها حين رأى اسطنبول تحت سلطة دول الحلفاء، بعد أن قطَّعوا أطرافها إرَبا، واحتلوا عاصمة الخلافة الإسلامية،لكنه لم ينشرهاإلا سنة 1932م.
أَيا صوفِيا حانَ التَفَرُّقُ فَاذكُري
عُهودَ كِرامٍ فيكِ صَلّوا وَسَلَّموا
إِذا عُدتِ يَوماً لِلصَليبِ وَأَهلِهِ
وَحَلّى نَواحيكِ المَسيحُ وَمَريَمُ
وَدُقَّت نَواقيسٌ وَقامَ مُزَمِّرٌ
مِنَ الرومِ في مِحرابِهِ يَتَرَنَّمُ
فَلا تُنكِري عَهدَ المَآذِنِ إِنَّهُ
عَلى اللَهِ مِن عَهدِ النَواقيسِ أَكرَمُ
وَكَيفَ يَذِلُّ المُسلِمونَ وَبَينَهُم
كِتابُكَ يُتلى كُلَّ يَومٍ وَيُكرَمُ
نَبِيُّكَ مَحزونٌ وَبَيتُكَ مُطرِقٌ
حَياءً وَأَنصارُ الحَقيقَةِ نُوَّمُ
عَصَينا وَخالَفنا فَعاقَبتَ عادِلاً
وَحَكَّمتَ فينا اليَومَ مَن لَيسَ يَرحَمُ
فالحمد لله إذ جعل آيا صوفِيا بعد التَفَرُّقُ تتذكرعُهودَ كِرامٍ صَلّوا فيهاوَسَلَّموا، والحمد لله الذي أيقظ أنصار الحقيقة النُّوَّم.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.