أثر العناية بالقرآن بالكريم في بلورة الملكات لدى المتعلّمين

03 مارس 2022 18:24

هوية بريس – ذ. عمر خويا

عظّم الله تعالى القرآن الكريم فأقسم به تارة كما في مستهلّ سورة يس والدّخان والزّخرف وق والطور، وتارة ببيان جلال قدره في آيات كثيرة كما في مفتتح سورة البقرة وآل عمران والأعراف ويونس وهود ويوسف والرّعد، وتارة أخرى بذكر أسمائه وصفاته وكونه منهاج الحياة ودستور جميع النّاس يهديهم إلى طريق الرّشاد، وأيّد به رسولا هو خير البشر يطبّقه في حياته ويوجّه المخاطبين به إلى أحكامه بقوله وعمله وحاله، وجعله مصدر خير كثير لا ينقطع إلى يوم القيامة، فأمرهم أن يأخذوه بقوّة ويعملوا بما فيه فهو منجاة لهم في الدّنيا والآخرة. ولنا أن نشهد كيف يبعث هذا الكتاب الحياة في النّاس كيفما كانوا وأينما حلّوا بما أعطاه الله تعالى من صفات، تفيد بالقطع أنّه سبيل النّجاح في المعاش الذي نسارع الزّمن لتحصيل ملذّاته، وسبيل الفلاح في الآخرة التي كثيرا ما نغفل عنها لهجرنا لألفاظه ورسومه فضلا عن درره ومعانيه.

  • فهو الكتاب« الٓمٓ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ »[البقرة: 1-2] ولا كتاب يقاربه أو يشبهه لأنّه منزل من الله تعالى ولا يلحقه التّحريف ولا تبلغ غوره الأفهام، ولا يستطيع الجنّ والإنس مجتمعون ولا غيرهما أن يأتوا بمثله، ناطق باسمه ومتضمّن لمنهجه الواضح الذي به تسمو الحياة وتصلح. إنّه كتاب ينبض بالحياة دوما، ويحيي من تمسّكوا به ويُشيع البركة فيهم أفرادا وجماعات، حرّك أمّة فحوّلها من الحضيض إلى القمّة، وحرّك العقول فانبجست منها العلوم التي ضاقت بكتبها الرّفوف والخزانات الضّخام.
  • وهو الذّكر «إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ ‌وَإِنَّا ‌لَهُۥ ‌لَحَٰفِظُونَ »[الحجر: 9] لأنّه تذكير للعالمين بنعم ربّهم عليهم وأعظمها نعمة القرآن الكريم منهج الحياة والذي به تتقوّم، وهي نعمة للتّدبّر والاعتبار، وذكر لهم ورفعة وشرف إن هم اتّبعوا ما جاء به من أحكام وتوجيهات، وصلة بينهم وبين ربّهم إن هم أداموا قراءته فغذّوا أرواحهم كما يغذّون أجسادهم فتبدوا لهم الحياة على ما فيها من بلاء قطعة من السّعادة التي تتبعها سعادة كبرى في الأخرة.
  • وهو التّنزيل«‌وَإِنَّهُۥ ‌لَتَنزِيلُ ‌رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ »[الشعراء: 192-195] لأنّ المنزِّل هو الله تعالى العليّ الكبير، العالم بما يُصلح حال المنزل إليهم في كلّ زمان وعلى اختلاف أحوالهم وألوانهم وأمكنتهم، فلا يتسرّب الشّكّ إلى عاقل أنّه رحمة وهداية للعالمين. ولا يقولنّ قائل أنّه من صنع مخلوق لأنّ التّحدّي بالإتيان بمثله قائم أبد الدّهر.
  • وهو الفرقان «تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا »[الفرقان: 1] جاء مفرَّقا ليربّي الأمّة على مهل فتقيم أحكامه بالتّدرّج. وأُنزل مفرِّقا بين سبيل الهدى وسبيل الضّلال فلا يدّعينّ أحد أنّه ليس على بيّنة من الأمر فيما يختاره سبيلا في حياته.
  • وهو النّور «يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ ‌وَأَنزَلۡنَآ ‌إِلَيۡكُمۡ ‌نُورٗا مُّبِينٗا » [النساء: 174] ومقابل النّور الظّلمات، والقلوب لمّا تلفّها الظّلمة تضلّ؛ فتتّبع ما تمليه عليها شهواتها وأهواؤها، والأهواء طرائق شتّى، فمنها ما يسير وراء الوهم والخرافة، ومنها ما يسلك سبيل الشّهوات والملذّات فيغرق في بحرها، ومنها ما يتمسّك بالتّقاليد والعادات ولو كانت قبيحة، هنالك يضيع الحقّ ويتأذّى أصحابه، وسيرة الأنبياء والرّسل عليهم السّلام خير دليل. وجاء القرآن الكريم ليبيّن أنّ هذه السّبل غيّ وأتى بالبديل: نور إذا نفذ إلى القلب والنّفس أشرقت أنوارها وانقشعت غيوم الظّلمات عنها فتبدّى الانسجام بين العقل والشّعور والرّوح والجسد، فترى الحقّ حقّا وتهبّ لاتّباعه، وترى الباطل باطلا فتسارع لاجتنابه. وإذا نفذ إلى المجتمع هداه سبل السّلام بين مكوّناته وبينه وبين غيره من أجزاء الكون الأخرى. ولا غرابة أن نجد أنّ الأمم أغلبها إذا دخلها نور الإسلام بالفتح استوطن أرضها وصار برغم كيد الكائدين الدّين المختار لدى عموم السّكّان.
  • وهو هدى «إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ »[الإسراء: 9] لأنّ الذي أنزله هو الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى؛ هدى الخلائق كلّها إلى حسن السّير في الحياة عملا بمبدأ التّسخير وضمانا للتّوازن البديع الذي بثّه سبحانه فيها. وهدى الإنس والجنّ فدلّهم على ما الصّراط المستقيم الذي يضمن حسن حركتهم الطّوعية في الحياة إلى جانب غيرهم من المخلوقات المسيّرة قهرا. لكن هداية التّوفيق لا تكون إلاّ للذين شاؤوا لنفسهم الهداية بتدبّر آيات القرآن والعمل بما تقتضيه، أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هو المفلحون.
  • وهو الحكيم «يسٓ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡحَكِيمِ »[يس: 1-2] لأنّ آياته مرصوفة رصفا متقنا يمتنع معه وجود خلل أو نقص فيها، بالغة غاية الإحكام في مبانيها ومعانيها، متكاملة في بيان طريق الهداية عقيدة وشريعة فلا يتخلّله نقص أو تقصير أو غموض أو تطرّف. ومن أوتي قراءة تلك الآيات وتدبّرها والعمل بها فقد أوتي الحكمة وأعطي خيرا كثيرا.
  • وهو المبارك «كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ ‌مُبَٰرَكٞ ‌لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ » [ص: 29] والبركة تعني الزّيادة والنّماء، وبركة هذا الكتاب ثابتة في لفظه ومعناه، فقارئه يستفيد وتطمئنّ نفسه، ومتدبّر آياته ينتفع ويقوى عقله ويزيد علمه، والعامل بأوامره ونواهيه يؤتى الحكمة ويسعد في دنياه ويفوز في آخرته؛ فأينما حلّ القرآن حلّت البركة، حتّى إنّ تلك اللّيلة التي نزل فيها القرآن ثبتت بركتها إلى يوم القيامة حيث جعلها الله تعالى ذات قدر إذ هي خير من ألف شهر (سورة القدر).
  • وهو الشّفاء، «قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًىۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُنَادَوۡنَ مِن مَّكَانِۭ بَعِيدٖ » [فصلت: 44]لكن لقلوب المؤمنين فقط، لأنّهم يتعبّدون بتلاوته مصدّقين به فيجد الشّفاء طريقا لأرواحهم فتتحرّر من قيود الشّهوات، ولقلوبهم فتطمئنّ وتزول عنها الهموم، ولكيانهم فيتوازن، ولأبصارهم فترى الحقّ وتتّبعه، ولأجسادهم فتتعافى، لأنّ النّفس إذا تخفّفت من الهموم استراح الجسد. وهو شفاء للعقول أيضا بتوجيهها نحو التّفكّر النّافع المفضي في نهاية المطاف إلى عمران الحياة والقرب من الله تعالى والطّمع في رضاه.
  • وهو الرّوح، «وَكَذَٰلِكَ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ رُوحٗا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِي مَا ٱلۡكِتَٰبُ وَلَا ٱلۡإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ » [الشورى: 52] هو روح تسري كسريان الرّوح في الجسد والنّسغ في النّبات؛ فهو  كالرّبيع يبثّ الحياة في كلّ محلّ يحلّ فيه، وحلوله يكون بالإيمان به وتلاوته والتّفكّر في معانيه والعمل به. انظر لمّا تنزّل كيف أصبح العرب المنسيّون في جوف الصّحراء لبداوتهم وجفائهم وجهلهم سادة العالم، وكيف تحوّل العالم من الجهل إلى العلم، ومن الظّلمات إلى النّور، بل وكيف نشأت حضارة هي أعظم حضارة في تاريخ البشر بما حملته لما بثّته وتبثّه من خير في جميع الأرجاء.[1]

هذه بعض أسماء القرآن وصفاته، وهي تجلّيات لأثر القرآن الكريم في نفوس النّاس وحياتهم، الفردية والاجتماعية، وفي جميع مناحي الحياة، لا ينكرها عاقل ولا يماري فيها طالب حقّ. وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمّا قال: «‌وقد ‌تركت ‌فيكم ‌ما ‌لنتضلوابعدهإناعتصمتمبه،كتابالله»[2]. ولنا أن نستفيد من الحديث الشّريف كيف نخرج من أزماتنا المتلاحقة ومن وضعنا الذي لا يسعد أحدا، وذلك بأن نعود إلى كتاب الله تعالى فنتّخذه مرجعا نلتمس منه الحلول فهو الشّفاء والنّور والعزّة والحياة. وأحسب أنّ إيقاظ الجانب الفطريّ من الملكات لدى المتعلّمين طريقه إعادة الاعتبار لكتاب الله تعالى في مدارسنا وبرامجنا التّعليمية، فنصدق القصد والعمل مع الله تعالى لكي تسلم لنا النّتائج ويتحقّق الشّفاء، فالأمر بيد الله تعالى من قبل ومن بعد، ولعلّ ما أصاب تعليمنا من ركود طويل إنّما هو من أجل أن نعتبر من حالنا ونؤوب إلى طريق الصّواب الذي رسمه لنا القرآن الكريم.

إنّ الكتاب بتلك المواصفات الذي ذكرنا آنفا جدير بأن يحظى باهتمام العامّة والخاصّة من المجتمعات الإسلامية، لأنّه الرّوح والحياة لها. وقد تنبّه المسلمون قديما إلى هذا الأمر منذ بداية نزول الوحي فعكفوا عليه قراءة وفهما وحفظا، فكان جزءا أساسيا من حياتهم اليومية. ومن ذلك الاهتمام انبثقت وتبلورت العلوم الإسلامية التي امتدّ بريقها إلى اليوم، وهو مستمرّ إلى يوم القيامة باستمرار رسالة القرآن. وفطنوا إلى أنّ شخصية الفرد تتشكّل منذ طفولته المبكّرة فسارعوا إلى تعويدهم تعلّم القرآن تلاوة وحفظا حتّى ينشؤوا عليه ويتّسموا بسمته. وسارت الأمّة على هذا النّحو فصار عندها قاعدة إلى أن حلّت ببلدانها آفة الاحتلال الأوروبي لأراضيها وعقولها، فأسّس لتعليم (عصري) بعيد يسلخ المتعلّم المسلم من هويّته ومرجعيّته، ويكوّنه في ثياب المتحضّر ليكونتابعالهوخادمالمصالحه من حيث يشعر أو لا يشعر، فبرزت بعد جلاء المحتلّ فئات من المثّقفين أوتيت السّلطة والمال، تدافع بخبث وباستماتة عن مشروع التّحديث بما يمليه عليها الآخر وهو الذي تؤمن به، ففشلت منذ عقود وإلى اليوم فيما تدعوا إليه ظاهرا فشلا ذريعا كما وقع في قطاع التّعليم ببلادنا، وهي لم تزل تكسو سياستها الفاشلة بثياب مرصّعة لعلّها تفلح في تركيع المجتمع للنّمط الغربي والسّير في ركبه تابعا؛ وهي بذلك تتجاهل أنّ وصفاتها نشاز، لأنّها نابتة من أرض غريبة لا توائم خصوصيات المجتمع الذي تشرّب الإسلام دينا منذ قرون.

إنّ تلاوة القرآن الكريم وحفظه تعودان على التّلميذ والطّالب المسلم بآثار تربويّة وتعليمية جمّة نختار منها نموذجا:

  • القدرة على تجويد القراءة والكتابة منذ سنّ مبكّرة باكتساب الفصاحة في النّطق وإخراج الحروف من مخارجها ومعرفة رسمها؛ وبيان ذلك يأتي من خلال تعريف القراءة بأنّها: «عملية تفكير معقّدة [..] تتضمّن عمليّتين متّصلتين هما: العملية الأولى ميكانيكية، ويقصد بها رؤية القارئ للتّراكيب والكلمات والحروف المكتوبة عن طريق الجهاز البصري والنّطق بها بواسطة جهاز النّطق، والعملية الثّانية (عقلية): يتمّ خلالها تفسير المعنى، وتشمل الفهم الصّريح (المباشر) والفهم الضّمني (غير المباشر أو فهم ما بين السّطور) والاستنتاج والتّذوّق والاستمتاع والتّحليل ونقد المادّة المقروءة وإبداء الرّأي فيها»[3]. والطّفل إذا ما تعلّم تلاوة القرآن الكريم وحفظه باكرا، وصاحبه هذا التّعلّم خلال مساره التّعليمي بحيث يكون مادّة أساسية في برنامجه الدّراسي بعيدا عن الحسابات السّياسية الضّيّقة، وتولّى تعليمه من يحسن ذلك بحاله ومقاله، فإنّه سيتمكّن غالبا من اكتساب مهارة القراءة بالمواصفات المذكورة. فالقرآن الكريم ميسّر للذّكر والفهم، بديع في تركيب حروف لفظه و جمله وأساليبه ومعانيه، لذلك مقرئه وقارئه سيتمثّل قول الله تعالى: «‌وَرَتِّلِ ‌ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا » [المزمل: 4]. وبالتالي يتمكّن المتعلّم من مهارة قراءة اللّغة العربية والنّطق السّليم لها ورسم كلماتها لكثرة معاينتها والتّعامل معها، لأنّ من صحّت قراءته صحّت في الغالب كتابته وإملاؤه، ويكتسب رصيدا لغويّا ومعرفيا مهمّا، بل إنّه سيسير في طريق تملّك ناصية قراءة اللّغات عموما، لأنّ المهارات المذكورة في التّعريف مشتركة بين جميع اللّغات، وهي (النّظر السّليم للرّموز – النّطق السّليم لها – تفسير معناها الظّاهر – فهم ما توحي به الرموز من معان غير ظاهرة –التّحليل- الاستنتاج  – التّذوّق – النّقد – إبداء الرّأي) ونضيف لها: مهارات الاستماع والإنصات والحفظ والتّذكّر، وهي أجزاء إذا ما تآلفت فإنها تشكّل مهارة القراءة لديه. ونحن اليوم في نظامنا التّعليمي نروم من المتعلّمين التّمكّن من هذه الكفايات فلا ندرك هذا المرام بالشّكل المطلوب في أغلب الأحوال.
  • تحفيز الدّافع للتّعلّم، وهو عامل أساس في عملية التّحصيل ومحاربة الهدر المدرسي، لأنّ غيابه يولّد كسلا وتبلّدا مصطنعا لدى المتعلّم يُثنيانه عن أداء واجباته وتطوير مهاراته ذاتيا في هذا المجال. وفي المقابل تذكي قوّة الدّافعيّة مهارات: الحيوية والاهتمام وقوّة التّركيز والفهم والتّذكّر والمشاركة والنّقد وإبداء الرّأي وتوسيع الاطلاع والسّعي إلى تطوير الذّات.. ويؤثّر القرآن الكريم تلاوة وحفظا وتدبّرا على تشكيل وتحفيز الدّافعية لدى المتعلّمين، إذ إنّ عدم القدرة على القراءة والكتابة في المراحل الأولى من المسار التّعليمي يفقد المتعلّم الثّقة بنفسه فتضطرب شخصيته وينكمش الدّافع الفطريّ لديه للاطّلاع؛ ومن هنا تبدأ المشاكل النّفسية في البروز وتتعقّد كلّما كبُر، لأنّ القراءة والكتابة من التّعلّمات الأساسية التي يقوم عليها غيرها، وبضعفها يضعف كلّ ما يليها. وأشرنا في النّقطة السّابقة إلى أنّ الاعتناء بتلاوة القرآن الكريم وحفظه يكشف هذا العائق ويؤهّل المتعلّم باكرا، بما يكسبه إيّاه من ملكات لتحصيل العلوم بشتّى أنواعها تحصيلا مبنيّا على قوّة الثّقة بالنّفس. فضلا عن كون آيات كثيرة منه تحثّ على طلب العلم والاجتهاد فيه من أجل كشف أسرار الكون وإدراك عظمة الخالق من ورائها، وكلّ ذلك من أجل وظيفة العبادة التي خُلق الإنسان من أجلها[4].

إضافة إلى أنّه كلّما ازداد اهتمام المتعلّم بالقرآن الكريم كلّما اشتدّ تمسّكه بحبل ربّه سبحانه، فيجعل غايته الكبرى هي السّعي إلى نيل مرضاته، فيصغر في عينه ما دونه من أهداف، خصوصا إذا كانت مرتبطة بالحياة المادية حيث تكثر الأزمات ويتأرجح مؤشّر الحياة بين الرّخاء والشّدّة. وفي واقعنا المغربي بات المتعلّمون يحدّون أقصى أمانيهم من طلب العلم هو الحصول على وظيفة ودخل مادّي قارّ، وهو في الأصل هدف مشروع، لكن أن يتّخذ غاية الغايات هو من مخرجات نظامنا التّعليميّ المعيب، لذلك بتنا نشهد عمليّات انتحار متكرّرة في صفوف خرّيجي مؤسّسات التّعليم العالي كلّما أُحدثت أزمة تضيّق عليهم آمالهم وتأتي على أحلامهم.

  • تحقيق الصّحّة النّفسية لدى المتعلّم، وسبيلها هو تحقيق الأمن النّفسيّ والأسري والاجتماعي، وهي شعور المتعلّم بكونه إنسانا مكرّما داخل جماعته، بتقبّلهم وحبّهم وتقديرهم له، ومعاملته بدفء يشعره بالانتماء الفعّال إلى جماعته بأن يكون له دور فيها (الكفاءة والقدرة على حلّ المشكلات)، وإحساسه الغالب بالسّلامة من أيّ خطر يتهدّد جسده كالاعتداء والجوع أو نفسه كالحرمان من حقوقه[5].لكنّ شعور الإنسان بالأمن ليس بالمطلب الهيّن لكون تقلّبات الدّنيا وبلاءاتها المسترسلة تشعره بالخوف والارتياب، ويظلّ هذا الشّعور ملازما له إلاّ إذا طرأ عليه ما يشعره بالأمان النسبيّ، وأكبر ما يوفّر الأمن للإنسان هو اتّباع شرع الله تعالى والاستمساك بحبله، لأنه وحده القادر على أن ينجيه ويصرف عنه عوادي الزّمان.

فبمجرّد تلاوة المؤمن للقرآن الكريم تتسرّب الطّمأنينة إلى نفسه فتسكن «ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ‌وَتَطۡمَئِنُّ ‌قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ » [الرعد: 28]فالقرآن غذاء الرّوح، والإنسان مركّب من روح وجسد، وإذا كان أغلب اهتمام عموم النّاس هو العناية بأجسادهم فإنهم إن أهملوا أرواحهم تولّدت لديهم حالة اللاّتوازن النّفسي، وهي مصدر الشّعور بالاضطراب والخوف؛ لذلك فحصول التّوازن الّنفسيّ يستلزم الاهتمام بالرّوح كما الجسد،  وهكذا يتحصّل استقرار النّفس فتسكن وتطمئنّ، ويشكّل هذا السّكون الأرضية الأساس لبروز الدّافع لدى المتعلّم. وقد يحدث أن  تُزري ابتلاءات الحياة وأعباؤها بالمؤمن فتلمّ به المصائب ويضيق عليه الحال، وهنا يقدّم القرآن له الدّواء بما توفّره قراءته من طمأنينة، وتدبّره من طاقة عقلية وفكرية وتبصّر سليم للأمور، والعمل به من سعادة بمواجهة السّرّاء بالشّكر والضّرّاء بالصّبر، لأنّ كلّ ذلك من أقدار الله تعالى الواجبُ الإيمان بها. إنّ ملازمة القرآن من قبل المتعلّمين يشعرهم بمعيّة الله تعالى، فينجَون من الوساوس والهموم التيّ تنغّص على الإنسان حياته، ويشرق وجدانهم بأنواره التي تشعرهم بحقيقة انّ ما قدّره الله تعالى عليهم كلّه خير، ويملّكهم الإجابة عن الأسئلة الوجودية التي لا تفتأ تلحّ على النّفس من أجل الإجابة عنها، وإذا ما عجزت أو اضطربت أظلمت الدّنيا أمام عينيها وتغيّرت ألوانها، وتحوّلت الحياة إلى قطعة من الشّقاء يسعى للتّخلّص من عبئها بالإدمان على المخدّرات والأدوية المضادّة للاكتئاب أو اللّجوء إلى الانتحار، قال ربّنا سبحانه: «فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا » [طه: 123-125].

ونحن في واقعنا التّعليمي نلحظ تزايد حالات العنف في صفوف المربّين والمتعلّمين، ونشهد تزايد حالات الإدمان للمخدرات وترويجها في المؤسّسات التّعليمية، ويصرّ المسؤولون على ضرورة فتح قنوات التّواصل مع المتعلّمين عن طريق إنشاء الأندية وتكثيف الأنشطة الموازية وأنشطة التحسيس والتوعية في ظلّ الإكراهات الكثيرة المحيطة بهذا القطاع من شتّى الجوانب. ومع ذلك فهم مصمّمون العزم على تجاهل الدواء الفعّال الماثل أمامنا واستبعاده رغم قلة كلفته وطيب ثماره، وهو القرآن الكريم، قال الله عز وجلّ:«وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا » [الإسراء:82].

من كلّ ما سبق نستخلص ما يلي:

  • أنّ العودة إلى العناية بالقرآن الكريم هو عودة إلى الأصل الذي انطلقت منه هذه الأمّة كي تنشر تحضّرها على العالم، وليس صوتا نشازا خارجا من بيئة غريبة عنّا.
  • أنّ إعادة الاعتبار لتدريس القرآن الكريم في نظامنا التّعليميّ هو الذي يرسّخ هوّيتنا ويؤكّد انتماءنا الحقيقي، وهو السّبيل الأنجع لإثبات الذّات واكتساب الثّقة بالنّفس.
  • أنّ العودة إلى التّراث التّعليمي والعلميّ لأمّتنا من أجل كشف جذور النّهوض العلمي لدى المسلمين إبّان مرحلة الرّيادة والعطاء الحضاري مطلب مشروع وليس رجعية وبكاء على الأطلال، بل هو دعوة للاستفادة من مقومات نهضة أمّتنا وكشف أسرارها، ثمّ بعد ذلك تحليتها بما استجدّ في ميدان التّربية من رؤى نظريّات، وتزيينها بما نفع من وسائل حديثة وطرائق.
  • ألاّ مرية في أنّ العناية بالقرآن الكريم في نظامنا التّعليميّ من شأنها أن توقظ الملكات الفطرية في المتعلّمين، وتخلق لديه الدّافعية لاكتساب ملكات مكمّلة للفطرية ومقوّية لها، بحسب ميول كلّ واحد واتّجاهاته وقدراته.
  • أنّ ملازمة القرآن لدى المتعلّمين من شأنه أن يوفّر الأمن النّفسي، وهو شرط واجب حصوله حتّى تبرز الملكات وتترسّخ. وهذا يستلزم إحلال القرآن الكريم تلاوة وتدبّرا وحفظا المكانة اللاّئقة به في الرّؤية التّربويّة والتّعليميّة لبلداننا الإسلامية، بالإضافة إلى الحديث النّبويّ الشّريف، فهما مصدري التّشريع للأمّة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1]بعض المعاني مستفادة من مختلف محاور أطروحة بعنوان: رسالة القرآن الكريم من خلال أسمائه وصفاته – دراسة موضوعية تحليلية- ، إعداد الطّالب أحمد سيد عبد الوهاب مجيد الثينجويني، تقدّم بها في جامعة سانت كليمنتس العالمية – كلية الدّراسات الإسلامية، قسم علوم القرآن، تحت إشراف الدكتور أحمد محمد طه الباليساني، 1431ﻫ – 2010م. وهي من منشورات الجامعة في موقع:https://ebook.univeyes.com/91883/pdf

[2]– صحيح مسلم، الإمام مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، القاهرة، 1374ﻫ – 1955م، رقم الحديث:1218، كتاب الحجّ ، باب حجّة النبي صلى الله عليه وسلّم،2/886.

[3]– مقال ” أثر تحفيظ القرآن الكريم في تنمية مهارات القراءة والتّحصيل الدّراسي لدى الطّالبات الموهوبات في دولة الكويت: صورة مقترحة” إعداد: ذ. نورا عبد الله المطيري وذ. بشائر علي الطبيخ، ص20، موقع:  https://fr.scribd.com/document/529620765/nora-bashayer

[4]– أنظر مقال: “أثر حفظ القرآن الكريم في التّحصيل الدّراسي بالمرحلة الجامعية” إعداد سعيد بن فالح المغامسي، مجلة جامعة الملك سعود، م17، العلوم التّربوية والدّراسات الإسلامية (1)، ص87 – 116، 1425ﻫ – 2004م.

[5]– راجع مقال  “القرآنالكريمودورهفيتحقيقالأمنالنّفسي” إعداد ذ. بن السّايح مسعودة (جامعة الأغواط)، مجلّة آفاق للعلوم، جامعة الجلفة، العدد العاشر، يناير 2018م، ص318 – 330. منشور في الموقع: https://www.asjp.cerist.dz/en/article/32826

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M