أحقية اليهود بأرض فلسطين!
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
في هذا المقال، أتعرض لشبهة شنيعة ومؤلمة، تكاد تكون مستفزة لولا أنني اعتدت على انتشار هذه الأفكار المغلوطة. ولكن ما يضاعف من الأسى ويزيد من ضرورة الرد هو أن قائلين هذه الشبهة ليسوا أشخاصا غرباء عن ديننا أو ثقافتنا، بل هم مسلمون يتكلمون بلساننا ويستدلون بالقرآن الكريم، ويثيرون الشبهة أمام جمع من الناس دون أن يدركوا حجم الخطر الذي تحمله كلماتهم.
هذا الأمر يتطلب منا وقفة حازمة من منطلق علمي وشرعي، حيث إن السكوت على مثل هذه الأفكار قد يؤدي إلى تفشيها وتضخيمها مع مرور الوقت، كما رأينا في شُبَه أخرى بدأت صغيرة، ثم كبرت واستحكمت في عقول كثير من الناس.
تستند هذه الشبهة إلى قوله تعالى في سورة المائدة: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}، والمراد بالقوم هنا هم بنو إسرائيل. وبناء على فهم مجتزأ، يستنتج أصحاب هذه الشبهة أن الأرض المقدسة التي هي فلسطين كتبها الله لبني إسرائيل، وبذلك فهم ليسوا مغتصبين لهذه الأرض بل هم قوم عادوا إلى أرضهم الموعودة، التي كانت لهم قبل مجيء الإسلام والبعثة المحمدية. وفي نظرهم، يجب على المسلمين أن يعترفوا بهذا الحق التاريخي.
هذا الاستنتاج السطحي والمجتزأ يذكرني بمن يستدل بقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} دون أن يتم الآية التي توضح المقصود. فالله تعالى لم يذم الصلاة نفسها، بل ذم من يتهاون في أدائها ويغفل عنها؛ {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}. وهذا تمامًا ما يحدث في هذه الشبهة، حيث يكتفي أصحابها بجزء من الآية دون استيعاب كامل لسياقها القرآني. فالله سبحانه وتعالى لم يمنح هذه الأرض لبني إسرائيل بصورة مطلقة وأبدية، بل كانت الأرض المقدسة مكتوبة لهم بشروط، منها طاعتهم لله والتزامهم أوامره.
عندما نعود إلى سياق الآية الكريمة، نرى أن بني إسرائيل رفضوا الامتثال لأمر الله بدخول الأرض، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا}. بسبب عصيانهم ورفضهم لأمر الله، جاء التحريم الإلهي بمنعهم من دخول الأرض المقدسة، فكتب الله عليهم التيه في الصحراء لمدة أربعين سنة، يقول تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ}.
وهنا يتضح جلياً أن الأرض التي كتبها الله لهم كانت مشروطة بطاعتهم لأوامر الله. وقد بيّن ابن عباس رضي الله عنه هذا المعنى حين قال: “كانت الأرض المقدسة هبة من الله عز وجل، ثم حرمها عليهم بسبب عصيانهم”. ومن هنا ندرك أن كتابة الأرض لبني إسرائيل لم تكن وعداً أبدياً أو ثابتاً لا يتغير، بل كانت مشروطة بالالتزام والطاعة. والشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف، فإذا تخلف الشرط تخلف المشروط، ولهذا استحقوا المنع والتحريم، وصدق عليهم وعيد الله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}، فاستكبروا على أمر الله ووقعوا في الخسران المبين.
وتحريم الأرض المقدسة الذي لحق قوم موسى جرّاء معصيتهم هو تحريم كوني، وليس تحريما دينيا شرعيا كتحريم الزنا مثلا وتحريم الخمر. ومن خصائص التحريم الكوني أنه يقع ومشيئة الله فيها نافذة بخلاف التحريم الديني أو الشرعي؛ فإنه قد يلتزمه المكلف وقد يتنكب عنه كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
وفعلاً وقع ما قدره الله كوناً ومُنع قوم موسى عليه السلام دخول الأرض المقدسة، وتاهوا في الفلاة أربعين سنة، ولما أدرك الموت موسى عليه السلام وهو بعيد عن الأرض المقدسة سأل اللَّهَ «أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ» كما جاء في الصحيحين.
وبعد انتهاء فترة التيه، جاء يوشع بن نون، الذي دخل الأرض المقدسة مع قومه بعد أن تحقق شرط الطاعة. هذا يوضح أن كتابة الأرض لبني إسرائيل لم تكن كتابة أزلية دائمة، بل كانت مشروطة بدخولهم الأرض وطاعتهم لله. ولقد فسر بعض المفسرين مثل السدي رحمه الله “قوله تعالى: } كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ{ أي أمركم بدخولها”، وعن قتادة رحمه الله أنه قال: “أمروا بها كما أمروا بالصلاة”، ولحاق الآية يشهد لهذا التفسير، فلو استجاب قوم موسى لأمر الله ودخلوا الأرض المقدسة وقاتلوا الوثنيين الذين كانوا يقيمون فيها، لنصرهم الله عز وجل، ولاستحقوا المكوث فيها، وأن تكون لهم أرضا وسكنا في عصر موسى ووجوده، ولكن لم يفعلوا، فوعد الله لهم كان مشروطا بالطاعة، ومن لا طاعة له لله، لا وعد له منه، يقول الله عز وجل {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} [البقرة: 124]، فعهْد الله ووعده لا يناله الظالم بنص الآية الكريمة، التي جاءت لتؤسس لقاعدة كلية وهي: لا عهد من الله لمن ظلم ، وكيف ينال الظالم عهد الله ووعده والله عز وجل حرم الظلم على نفسه، وهو السيد رب العالمين، وجعل الظلم بين عباده محرما، فلا جرم أن الظالم بعيد كل البعد عن استحقاق وعد الله وعهده.
وهذا الكيان الصهيوني الذي يحتل أرض فلسطين اليوم هو كيان ظالم غاصب، ارتكب أفظع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. فكيف يُعقل بعد هذا الظلم أن يمنحهم الله الأرض المقدسة؟ بل إن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. فالأرض لا تُورث إلا لمن كان صالحاً، فأي عمل صالح قام به هذا الكيان الصهيوني بعد تلك المفاسد المذكورة حتى يستحقوا أن يورثهم الله الأرض المقدسة؟
والأعجب من ذلك هو أن يأتي من يزعم الإسلام، ويستدل لمشروعية هذا الظلم والقتل بنص قرآني مفصول عن سياقه، وينسب الظلم بوقاحة مخزية إلى الله سبحانه تعالى، بدعوى حق العودة إلى الأرض المقدسة التي كتب الله لبني إسرائيل، ويتجاهل النصوص الشرعية القطعية المحكمة، والتي دلت على أن جميع الشرائع السماوية قد نسخت بشريعة الإسلام وهيمنت عليها }وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ [آل عمران:85]، فلم يعد هناك حق ديني لليهود أو النصارى إلا إذا أقر به الإسلام، هكذا أراد الرب العدل سبحانه، ولا معقب لحكمه، وأن ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام لزم كل يهودي ونصراني من أهل الكتاب أن يتبعه عليه الصلاة والسلام كما دل عليه الحديث الحسن المرفوع: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي».
وفي الختام، أذكّر بكلام المجاهد العظيم محمد البشير الإبراهيمي، الذي قال عن قضية فلسطين:
“إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا. فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة، إنا إذاً لخاسرون”.