أحمد الشبي: الأمازيغية بين الحقوق والعقوق
هوية بريس – بقلم الشيخ الفقيه أحمد بن محمد الشبي الأزاريفي السوسي -رحمه الله-
سبق أن كتبنا أن نضال ثلة من الأمازيغ هو عن لا شيء، لأن لغتهم موجودة -سلفا- يتحدثون بها في كل وقت ولا يزالون. ولم يأت أحد يوما -كما يتوهمون- لتعريب ألسنتهم، أو طمس ثقافتهم، غير أن “مناضليهم الأشاوس” زعموا ذلك، وصدقوه، وصاروا يناطحونها -أوهاما- باستمرار
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ** وصدق ما يعتاده من توهم
وذلك غير حاصل بالمرة -لا في الماضي ولا في الحاضر-. وقد اعترف أحدهم بهذه الحقيقة في لحظة صحو ويقظة فقال:
إن الشعوب الإسلامية العجمية إن كانت قد عاملت العربية باحترام لارتباطها بالدين، فإنها لم تعتبرها أبدا بديلا عن لغاتها العربية الأصلية، ولا فهمت أن من شروط الإيمان تعريب الألسن، وإبادة اللغات، ولهذا السبب لم تتعرب الشعوب الإسلامية وحافظت على لغاتها حتى اليوم، واستمر قائلا وهو لا يزال في حالة صحوه النادر: {إن السلطة السياسية في دولة الخلافة منذ العباسيين لم تكن أبدا تخطط من أجل محو لغات الشعوب المختلفة بقدر ما كانت تستعملها} كتاب الأمازيغية في خطاب الإسلام السياسي -ص 10- أحمد عصيد.
فإذا كان الإسلام في أوج قوته وفتوته، وفي عز بسط سلطانه وسيطرته، لم يسع إلى تعريب أحد، أو سلخ هويته، باعتراف دهاقين الأمازيغية أنفسهم فمتى حصل ذلك إذن؟! وما بالكم أطلتم العويل والنواح خوفا من التعريب والإسلام دين مقصوص الجناح، مخذول من الأبناء، مرمي -عن قوس واحدة- من الأعداء.
إن الوهم الذي تمكن فيكم – مؤخرا -وغذته وساوس من هنا وهناك- هو الذي جركم إلى الوقوف في مجابهة ومواجهة مع اللغة العربية، ومحاولة حصارها، وصرف الناس عنها، والهجوم المستمر عليها، والاستماتة في تغييبها، والتقليل من شأنها وقدرها، وإشغالها بمعارك جانبية وهامشية، واتهامها الباطل بأنها وراء ظلم ” الأمازيغية ” وهضم حقوقها.
إذا أضيف إلى ذلك إهمال الدولة لأمرها، ونفض يدها من شجونها وخذلان أربابها، ندرك مدى غربتها بين أهلها، ما جعلها منكمشة منزوية صامتة وذلك هو ما قوَّى جانب الفرنسية الموجودة الآن بقوة، والتي صارت هي اللغة الرسمية الفعلية في المغرب، والتي تجاوزت كل اللغات الوطنية قدرا ووجودا وموقعا، وتمكنت من كل محاور المجتمع، ومفاصل الدولة، وأصبحت هي المهيمنة على البرامج، والمكتوبات الرسمية ووصفات دواء الطبيب، ولغة الإشهار، وواجهات المحلات، ولوائح المطاعم والفنادق.
وهي عنوان الوجاهة والتمدن، وهي المفتاح السحري لأسواق العمل، وهي لغة المجتمعات المخملية، وتخاطب أبناء الذوات، وأصحاب البذلات هي -باختصار- السيدة الشقراء المدللة في كل لقاء وبأي مكان.
وطبعا – الأمازيغيون المناضلون لا يضايقهم ذلك، ولا يثير مخاوفهم على لغتهم وهويتهم، مادام ليس تعريبا. بل إن صدق حدسي فإنهم حين ينهون مراسيم دفن العربية، سيزوجون لغتهم بتلك السيدة الغامضة الساحرة التي فتنت أفئدة المغاربة، وسلبت لهم ألسنتهم، ويمنحون لها الصدر والرئاسة من منطلق ” السيدات أولا “.
وفي سبيل ذلك سعت الأمازيغية -في عقوق واضح فادح- إلى الانفكاك التام، والانفصال عن اللغة العربية، وكل ما يمت إليها بصلة. وقد تجلى ذلك في جملة أمور:
الأول: حين اختارت أن تشتط بعيدا، وأن تكتب حروفها ” #بتيفناغ ” بدلا عن الحرف العربي، رغم أن عددا هائلا من اللغات كتبت بالحرف العربي أوصلها أحد الباحثين إلى ثمانين لغة، بل إن هناك لغات حضارية عريقة كالفارسية والأردية والتركية -قبل مجيء أتاتورك المشؤوم- وغيرها لا زالت تكتب بالحرف العربي.
ولم يكن ذلك نقصا فيها، ولا تنكرا لذاتها، ولا تبعية لغيرها، بل ظلت باقية بفكرها وخصائصها واسمها.
والأمازيغية لو كتبت بالحرف العربي -أعتقد أنها- ستجسر الهوية النفسية بينها وبين العرب في المغرب، ولقربت نفسها أكثر، وتيسر تعلمها واختصرت الطريق البعيد، لكن رغبتها الشديدة في الانفكاك عن العربية أعماها عن هذه الغاية النافعة.
الأمر الثاني: المطاردة الحثيثة لكل لفظ فيه رائحة العربية، واقتلاعه من الكلام، والبحث له عن مرادف في الأمازيغية، والإتيان بدله بكلمات غربية، وبعث القديم منها، أو المستورد من دول الجوار، ليحل محل اللفظ العربي.
حتى أصبحت -وأنا أشْلْحي- لا أعرف كثيرا مما يرطن به الأمازيغ اليوم وأجد صعوبة في فهم ما عنه يتحدثون، ولطالما تسمرت أمام التلفزة الأمازيغية لأفهم ما يقولون فلا أفهم.
إن اللغة العربية -رغم ارتباطها بالمقدس، ووجوب حمايتها من اللحن- تقبلت كثيرا من المفردات الأعجمية، واحتوتها، وامتزجت بها، فلم تضف بذلك ولا تخلصت من الدخيل، ولا نبذته أبدا.
لكن الأمازيغيين امتد عدوانهم اللغوي حتى كلمات الدين الصرفة، التي تتميز بخصوصية، وتحمل مضامين ربانية روحانية سامية، فاستبدلوها بغيرها، وغيروها، وحرموا المسلمين الأمازيغ ما في نطقها من البركة والرحمة واليمن والخير، فمن ذلك قول المسلم لأخيه: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} الذي يترتب عن قوله ثواب وأجر وجزاء وحسنات.
ثم انظر كيف ضاقوا بوجوده، فغيروه وحرفوه إلى كلمة غريبة مشبوهة وهي ”أَزُولْ فْلَّاوْن!”.
فما الذي كسبت الأمازيغية من هذا العدوان اللغوي والاستئصالي الذي ارتكبه مناضلوها؟ إلا سعيهم لإثبات بأسهم وشدتهم في التخلص من العربية بأقصى سرعة، وبدون أي رحمة.
الأمر الثالث:
التنقيص من أعلام أمازيغ، عرفوا العربية ودرسوها، وكتبوا بها، وتمكنوا من أدواتها، أو تكلموا يوما في مدحها وتمجيدها، أو الزهو بالانتماء إليها، لذلك لم يفلت فقيه وأديب مثل محمد المختار السوسي من هجاءهم وهمزهم وغمزهم، رغم أن الرجل قامة علمية، خدم المنطقة السوسية، وأرخ لرجالها وأحداثها وتقاليدها، وخلد كثيرا من عوائدها، وقدم الدروس والمواعظ بالشلحة في الإذاعة، فلم يشفع له ذلك. بل غمسوا فيه ألسنتهم، وتطاولوا على مكانته، لأنه قال، مثلا في المعسول:{ فالحمد لله الذي هدانا حتى صرنا -نحن أبناء إلغ العجم- نذوق حلاوتها {ويقصد العربية} وندرك طلاوتها، ونستشف آدابها، ونخوض أمواج قوافيها حتى لنعد أنفسنا من أبناء يعرب وإن لم نكن إلا أبناء أمازيغ} ج1 ص1. فاتهموه “بشعور عميق بدونية الانتماء الإثنى والعرقي، وأنه لا نكاد نجد نصا يفخر فيه بلغته الأمازيغية، أو يشير من قريب أو بعيد إلى ميزاتها وفضلها ”
وأنه ” كان ينظر إلى هذه اللغة بوصفها لهجة وضيعة “. أحمد عصيد. وغير ذلك من صكوك الاتهام، وألوان الإدانة، وكل ذنب أنه أحب العربية وكتب بها، وأثنى عليها.
هكذا يكشر التطرف الأمازيغي عن أنيابه، ويطارد تاريخا عظيما، ويصمه بكل سوء ويظهر جحودا وعقوقا لا حدود لمداه.