أخلاق الإنسان في زمن “فيروس كورونا المستجد”
هوية بريس – حسن المرابطي
إن المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، بل حتى القنوات الفضائية وجميع وسائل التواصل الحديثة، لعبت دورا مهما في نقل مختلف وجهات النظر المتعلقة بالوباء العالمي أو الجائحة كما سمتها منظمة الصحة العالمية. وعند النظر في تفاصيل وجهات النظر المعروضة نجد أنها تصل إلى حد التعارض والتناقض، ذلك أن هناك من يعتبرها نوع من المؤامرة أو نوع من الحرب البيولوجيا، حتى وصل الأمر ببعضهم وصفها بنوع من الوباء المزيف الذي يراد من خلاله تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية لجهة معينة، في المقابل، نجد من يتعامل معها باهتمام دون الالتفات الى مثل هذه الأصوات، لأن علم البشر لم يصل بعد لخوض مثل هذه الحروب أو بالأحرى اختراع فيروسات بهذه الدرجة. كل هذا جعل بعض المتابعين في حيرة من أمرهم، وتائهين بين الانصات للجهات الرسمية وأهل الاختصاص أو لبعض المحللين السياسيين المؤمنين بنظرية المؤامرة الناتجة عن صراع أقوياء العالم.
وبهذه المناسبة، لا أملك شخصيا إلا تسجيل أسفي وحزني لما آل إليها حال الأمة الإسلامية، حتى صرنا نقتات على موائد غيرنا (العلمية، الفكرية، الفلسفية، ….) ولا نملك قرار أنفسنا، بل ما يحز في النفس هو أن العالم اليوم في أشد الحاجة إلى المسلمين، ذلك أن أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بيد أن انحطاطهم شكل خسارة كبيرة كما قرر أبو الحسن الندوي في كتابه الشهير “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، وليس غريبا على من يعلم أن الدين الإسلامي دين أخلاق بامتياز، حتى صار عند الفيلسوف طه عبد الرحمن القول بأن أخص شيء يتميز به الإنسان هو الأخلاقية وليس العقلانية. وبهذا يكون الفعل الحضاري اليوم مفتقرا إلى أسمى القيم، ما جعل منه عالما بئيسا، بل غارقا في الجهل والظلم، نازلا إلى درك البهيمية، بل أضل.
وعليه، فإن واجب المسلم اليوم هو محاولة إصلاح نفسه قبل غيره، حتى إن تحقق له ذلك تيسر عليه نشر القيم الأخلاقية لإنقاذ الإنسان المعاصر. أما واجب الوقت هو العمل على حماية كل فرد معرض للفيروس لاسيما الذي لا يملك مناعة قوية، ما يعني الالتزام بالإرشادات الصادرة عن الجهات المختصة، على رأسها رئاسة الدولة والحكومة.
إن تأمل ما ابتدأنا به حديثنا لا يخرج عن الجزم بأن الإنسان المعاصر أكثر فقدا للأخلاق من غيره، وهذا ما يظهر جليا من خلال تبادل الاتهام بخصوص من نشر فيروس كورونا في المدينة الصينية أول أمر، حيث لم يتورع من بدأ في اتهام الغير إرسال تهمه، بل وجد الأكاديمي الذي يؤكد ذلك من خلال التحليل السياسي، بل حتى من بعض المشتغلين في مجال الطب والفيروسات، ناهيك عن جانب مهم من الإعلام بمختلف أنواعه، والذي تسابق لنشر هذه الاتهامات دون أي حرج. وبهذه المناسبة نورد حكمة ذهبية للشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه: “الرأي عندي أن المأساة خُلقية، لا علمية”.
لذا، إن الأخلاق التي فُقدت لم تقتصر على السياسي فقط، بل شملت حتى المثقف والأكاديمي والإعلامي وغيره، وهذه النتيجة كانت متوقعة بعد أن استحكمت آلية فصل قطاعات الحياة عن الدين، والتي أطلق عليها الفيلسوف طه عبد الرحمن “الدُّنيانية”، ولعل أشد الفصل خطرا من تلك الفصول هو فصل الأخلاق عن الدين، وسماه الفيلسوف طه ب “الدهرانية”، وهذا لا يعني التقليل من شأن فصل السياسة عن الدين “العَلمانية” ولا فصل العلم عن الدين “العِلمانية” أو أي صورة أخرى من الفصل والتي تندرج جميعها ضمن “الدنيانية”.
إن السياسي الذي يحب السلطة إلى درجة التسلط على غيره، لأن حب الملكية عنده بلغ مبلغا جعل منه يرى الأحقية في امتلاك ما لا يمتلك، لم يعد يقبل منافسته، بل حتى عدم الانصياع له أو الالتزام بتعليماته، الشيء الذي جعل منه يسلك خطوات الشيطان لتحقيق تسلطه، بل وصل به الأمر إلى بث كل ما يُشعر الإنسان بضرورة عبودية القائم بالأمر في العالم (حسب ما يتوهمه السياسي المستبد عالميا). وفي هذه الأحوال، لا يمكن تسجيل الاستغراب عندما نرى من يريد “إيهامنا”، أنه باستطاعته التحكم في العالم، من خلال أبحاثه العلمية التي تستطيع خلق فيروسات في منتهى الصغر، ذلك أن منهجهم هو استغلال أدنى المشاكل لبث الخوف والهلع، حتى يتهيأ لهم الأمر في قبول كل الإجراءات غير المعهودة، بل حتى التي لم تخطر على بالنا يوما ما. ولا يزال السياسي المتسيد يستثمر الخوف الذي استولى بالجميع، مدعما في تسيده هذا بالعالم والمثقف اللذين فرقا العلم عن الدين ( وهذا الفصل يعرف أيضا فصلا للأخلاق، لأن الدين أخلاق كله، تأمل الحديث الشريف: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، حيث نجحوا في إيهام الرأي العام أنهم يقومن بتسخير الكائنات، إن خلقا للمرض أو قتلا له.
إن فصل العلم عن الدين عمل على خلق أفعال في غاية القبح، ولن يشك أحد في ما أدى إليه العلم الحديث من أخطار وتهديدات لم تشهد الإنسانية نظيرا، سواء تلك التي لها أحدثت تلوثا شاملا، ولا التي أدت إلى حروب مدمرة، ولا التغييرات والعبث الذي عرفته المواد الطبيعية، حتى انقلب مقصودهم إلى نقيضه، بل بعض الأحيان، من شدة نكرانهم للقيم الفطرية، يعتقدون الخير فيما هو شر لا جدال فيه.
وعليه، فإن العالم بأمس الحاجة إلى منقذ، لاسيما أن مظاهر الفساد لم تقتصر على بعض المجالات فقط، بل دخلت إلى أغلبها، إن لم نقل جميعها، ذلك أن المثقف أو العالم الذي يُرجى منه التغيير والإصلاح، أمسى ألعوبة في يد السياسي المستبد، حيث صارت الأبحاث العلمية تخدم القوى العظمى، أو قل، النظام السياسي العالمي المتسيد. وبهذا، فإن الانقاذ سيكون بالرجوع إلى الدين ووصله بكل مجالات الحياة لتجاوز كل الآثار التي نتجت عن هذا الفصل، يقول الفيلسوف طه عبد الرحمن : “لا عاصم اليوم من طوفان العولمة إلا سفينة الوحي الإلهي”.
وعلى سبيل الختم وجب القول: أن الوقت لم يعد يطيق الاستمرار على ما نحن عليه، لأن:
ميثاق الإشهاد، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ، تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وميثاق الائتمان، قال تعالى: إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا،لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.
يقتضيان منا جميعا الاجتهاد في تنزيلهما، حتى نستطيع الاشتغال على علم يحقق المنفعة مع الابتعاد على العلم الضار الذي لا يتقيد بشيء ولا يتوقف، حتى يُتقى شره، لنكون بذلك حققنا ما دعت إليه الآية الكريمة، قال الله تعالى: “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ “.
كما وجب التنبيه إلى الطريقة المثلى في التعامل مع أغلب المستجدات التي لم نتمكن بأنفسنا التحقق من مضمونها نتيجة افتقارنا الأدوات اللازمة لذلك، ومن ضمنها بعض المعطيات التي تردنا بخصوص فيروس كورونا المستجد. وبهذا، فإن القاعدة الأجدر اتباعها هي مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حدَّثَكم أَهلُ الْكتابِ فلا تصدِّقوهم ولا تُكذِّبوهم فإمَّا أن يحدِّثوكم بحقٍّ فتُكذِّبوهُ وإمَّا أن يحدِّثوكم بباطلٍ فتصدِّقوهُ، والحديث الشريف حتى إن كان يقصد ما كان يتناقله أهل الكتاب من نصوص كتبهم، إلا أن هذه القاعدة نرى صلاحها في عصرنا مع المستجدات لغلبة الظن فيما ينتجه الغير، وهذا لا يمنع من وجوب اتخاذ كل التدابير والاجراءات التي تصدرها السلطات الوطنية والمختصة.
وأخيرا أحببت أن أنقل بعض الكلمات للفيلسوف طه عبد الرحمن، لاسيما بعد أن كثر الحديث عن العقاب والابتلاء بخصوص فيروس كورونا: ” معاذ الله أن يخلوا انتقامه بالكلية من الخير، فمهما بدا من الشر في شيء، فلا بد وأن في باطنه خيرا بوجه من الوجوه؛ فقد نظنه، من جانبنا، شرا، وليس هو كذلك في نفس الأمر؛ فلا يبدو أن في عالم الملك شرا خالصا لا نتفة من باطن الخير فيه، بل لا يبدو أن فيه خيرا خالصا لا شائبة من ظاهر الشر فيه، لأن هذا العالم مجال ابتلاء للإنسان بعدوه المبين، ولا ابتلاء بغير أن يُلبِس هذا العدو الخير بالشر والأمانة بالخيانة، إيقاعا للإنسان في شراكه، حتى يبوء، مثله، بغضب الله.” من كتاب “دين الحياء”.