أرقامٌ في سِجِلِّ المَوتى!

أرقامٌ في سِجِلِّ المَوتى!
هوية بريس – كمال الدين رحموني
لستُ أدري كيف جالَ في خاطري هذا العنوان، وأنا أُمعِـنُ النَّظر في مخلوقات من النّاس المنشورين على واجهات المقاهي، وفضاءات الملاهي، ومِنصّات الموازين، ومهرجانات الشواطئ. هي عيِّناتٌ وكَوْماتٌ بَشريَّةٌ تتمايز أشكالُها وأحجامُها “إذا رأيتَهم تُعجِبُك أجسامُهم” فإذا اقتربت منهم “تسمع لقولهم كأنهم خُشُبُ مُسَنَّدَة”، تتعالى ضحاكتهم، وتَلْفِظُ ألسنتُهم من سَقَط الكلام ما يُقزّز النفس، أمّا لغوُ القول من مَروِيّاتٍ ممجوجة، وقصص مذمومة، فحدّث ولا حرج، سُحناتهم تشي بأنهم على شيء، وقد يكون منهم نُخَبٌ ذَوو مهن راقية، لكنَّ التَّوقَّع يَخيبُ حين تحاول الاقتراب من اهتماماتهم ومفاهيمهم لطبيعة الوجود الإنساني أصلا.
أما مستوى الوعي بقضايا أمَّتهم فتلك قصةٌ أخرى، فلا شُعورَ بوحدة الانتماء، فهم كشاةٍ قاصية، تخلَّفت عن القطيع، فإذا بها أمام ذئب مفترس، والافتراسُ شكلٌ ومعنى وأخطرُه فُقدانُ الوعي بطبيعة الوجود والحياة والمآل. حين أتفرَّسُ وجوه هذه العيِّنة من الناسِ فقراءِ المشاعر، عديمي الإحساس بالآخر الأصيل الذي يجوع ويُباد بالليل والنهار، أُدرِك أنّ إسباغ صفة الموت لا ظُلمَ فيه ولا شَطَطَ، فلماذا جُرِّدت هذه المخلوقات من مشاعرها الإنسانية ؟ ولماذا سُلِخت من هُوِيَّتها الحضارية؟ ولماذا غدا نعيقُ مزمار وآلة يُلهبها؟ ولماذا كُرةُ قَدَم تسلُب شعورَها فتغدُوَ كالحمقاء ؟ ولماذا تُوزَنُ في موازين العام فيطمئنَّ الفاعلُ أنّ هذه المخلوقاتِ البشريَّةَ لازالت طَيٍّعةً كَحَمَلٍ وَديعٍ في قطيع يُساق بسلاسة، فيُطأطيء الرأس لاهيا بخُضرة عشب يانع سرعان ما يَصَفَرُّ فيصبح حُطامًا ، راضيًا غيرَ آبِهٍ بمن حوله، مادامت الغرائزُ تقوده، والشهواتُ تَسوسُه، فيَلهثُ وراءها ضاربًا بِعُرْض الحائط شيئًا اسمُه القيمُ والالتزامُ بوحدة الانتماء للأمة. إنّ الفقرَ الذي ألمّ بهذه العيّنة من الناس جَرّدَها من لذَّة التفكير والتأمُّل، فلا هَمَّ ولا اهتمامَ، ولا حِرْصَ إلا على مَلذّات الحياة، فصارت -بوعي أو بغيره- في مَصافّ مَنْ نَعَتَهُم الباري بقوله تعالى: *ولتَجِدَنَّهمُ أحرَصَ النّاسّ على حياةٍ* كيف ما كانت من الوَضاعة والبَذاءة والفُحش والشَّراهة والذّلّ(المُهِمّ بْغيت نْعيشْ ونَنْشَطْ وصافي). هذا المفهوم الكسيح الذي هو بمثابة الرَّحى التي تطحَن كلَّ اهتمام بالآخر. و من أجل تَجنُّب التعميم والتَّجَنّي أسوقُ واحدًا من مؤشرات القياس لطبيعة هذه العيّنة من النّاس، بخصوص مُعاناة فئة واعية من شعبٍ أعزلَ يتعرّض للإبادة الجماعية، ومُصادرة الحق في الوجود، والإمعان في التجويع ومنع قطرة حليب وماء. قضية شعب مسلم يتعرّض للقتل والتشريد ليل نهار سنتين تقريبا، فكيف يمكن اختبارُ إنسانية فئة عريضة من الشعب المغربي، لازالت في عِداد الموتى رغم سريان الدِّماء في العروق، ودقّات نبضات القلب التي تخفق باستمرار، فهل هذه حياة أم موت؟ باعتبار القرآن هذه العيّنة لا تملك من الحياة إلا الاسم،ومن العنوان إلا الرَّسم، فهي معدودة في سِجِلِّ مَنْ سَبَقَنا إلى دار البقاء، فمَنْ فقد هُوِيَّتـه، وغاب اهتمامُه بمن يُقاسِمه الدِّين والحضارة، هو يقينا فاقدٌ لمعنى الحياة. أعجَبُ ويضيق صدري، وأقف حائرا أمام ظواهر بشرية لا تُثيرُها مشاهدُالقتل والتعذيب والألم، ولا تَقُضُّ مَضاجَعها مَشاهدُ الدَّمار والموت والتَّجويع، ولاتُقلِقُها جُثَثُ الشُّهَداء المُتناثِرَةُ على الطُّرقات، ولا تَهُزُّ مشاعرَها أجسادٌ غدت هياكلَ عَظْميةً، فَقُلْ لي بربّك: هل هذه مخلوقاتٌ حيَّةٌ أم بينها وبين الحياة كما بين السماء والأرض؟ وهل مكتوبٌ على جبينها أنّ معنى الحياة حين يمشي الإنسان ويأكل الطعام في الأسواق والطُّرُقات، فيصبح مَـحْصِيًّا كائنًا حيًّا؟ نَعَم بمُعطيات الإحصاء الأخير هي حيَّة، إنّما بمُعطى الكتاب العزيز هي على النقيض، فإذن فلتَبْحثْ لها عن طبيعة أخرى غيرِ الحياة، فلعلّها تجدُ لها موئلا هنيًّا معها، وصدق الرَّبُّ الكريم في قوله سبحانه * ولقدْ ذَرَأنا لجَهنَّم كثيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَآ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلْأَنْعَٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْغَٰفِلُونَ* الأعراف
هذا توصيف الذي خلق فسوّى، وقدّر فهدى .
أذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل عليه أعرابيٌّ فقال أتُقبّـلون الصِّبيان؟فما نُقَبّـلهم، فجاء الرَّدُّ النَّبويُّ الكافي الشّافي: *أوَأملِكُ أنْ نَزَعَ اللهُ مـنْ قَلبِكَ الرَّحمَة َ* فَمَن نزع اللهُ الرحمةَ من قبله مِمَّن لا يُقبِّل صَبيًّا فكيف هي قلوب مَنْ لا يستشعر قَلبُه رحمةًنحو إخوانه من بني جلدته وعقيدته، ولو بالاهتمام والسُّؤال والتَّعاطف؟ فهل يَحِقُّ له أن يَعُدَّ نفسَه في الأحياء؟ ولو أنه أمْعَنَ النَّظَر، لَوَجَدَ اسمَه في سجِلِّ الموتى، فإما أن ينتفضَ ويستعيدَ حياتَـه من جديد، وإما أن يَركَنَ إلى مَنَ سبَقَه من أهل القُبور



