أزمة البوح والإنصات
هوية بريس – أيوب بولعيون
يجد الإنسان نفسه داخل عالم الثقافة المجتمعية القائمة مغتربا، نكرة، غير قادر على فهم ذاته و استيعاب مكنوناتها وما يفور داخلها من مشاعر وأحاسيس متشظية، ومعاني مفككة متناقضة، متضاربة، ذات في علاقة متوترة وصراع، قلقة مع نفسها والواقع والسياق الاجتماعي والثقافي الحاضن لها، غير قادرة على بناء فعل تواصلي صحي وسليم مع نفسها والعالم الخارجي، وذلك لغياب الآليات والميكانزمات الأساسية لذلك، مقابل حضور المعيقات والحواجز المانعة منذ التنشئة الاجتماعية والسيكولوجية الأولى للفرد، إذ لا يمكن تحقق المشروط بغياب الشرط، و بالتالي فهي ذات تجهل ذاتها، تتخبط في ردات فعل لا تعقلها، تتوارى للظل صامتة، حائرة، خجولة، متنكرة برداء تمويهي داخل حفلة تنكرية بأقنعة مزيفة، مستعارة من قواميس الوجود الهزيل المضطرب لعلاقة الذات بنفسها والآخر، بحيث أضحى الوجود المزيف للذات هو الظل الذي تتفاعل فيها الانوات مُشكلة علاقات معقدة تفتقد للأصالة، لأنها لا تملك آليات خلق وجود حقيقي نابع من التجربة الوجودية، بل العكس تماما، وجود مصطنع خارج من رحم قيم ثقافية نسبية و ممارسات تربوية تنشئوية، فهل من سبيل لوضع مسافة آمنة بين الثقافة و الطبيعة الإنسانية؟ و كيف يمكن خلق علاقة أصيلة بين الذات و محيطها و الخروج بها من عالم التنكر و التخفي إلى عالم من التلقائية و الظهور الحقيقي بما يخدم نماء و جودة و نضج العلاقات الإنسانية؟
إن مشكلتنا التي تجعل من وجودنا يفتقد الأصالة و التلقائية الطبيعية، هي غياب ثقافة البوح والكلام والتعبير عند الشخص كجزء مهم في عملية التواصل و التفاعل مع الحياة بمختلف مواقفها و تجاربها و محطاتها و ما تحمل من تغيرات و منعطفات و منحدرات كثيرة، في مقابل حضور ثقافة الصمت القاتل و الكبت بمفهومه السلبي الهدام، و ذلك نتيجة حتمية لعدة اسباب منها غياب الآذان الصاغية القادرة على استيعاب آدمية الإنسان و صوته الداخلي، و هي مشكلة تربوية بالأساس ضاربة في التربة و البيئة الأولى التي احتضنت الفرد وشكلت ملامح شخصيته، فهي المسؤولة عن التكوين النفسي و الاجتماعي و بناء التصورات و التمثلات و الرؤى و المعاني المكتسبة، المتعلقة بشتى الأمور من سلوكيات، أخلاقيات وعلاقات وقيم ومعايير، وهذا يتم بفضل إكساب و تلقين اللغة من خلال المفاهيم والكلمات التي تُرسخ داخل الحياة اليومية منذ الطفولة، عبر آلية التكرار و الاعادة، فاللغة بما تمتاز به من قدرة على الخلق و إيجاد المعاني داخل بيئة اجتماعية دون أخرى، قادرة على غزل نسيج حياتنا الفردية و الاجتماعية، والشفرة التي تمكننا من قراءة علاقتنا بانفسنا و الآخرين و فهم ما يعتري ذلك من لبس و غموض و إشكالات متشعبة عميقة.
يتعلم الطفل في بواكير حياته معجما يرى به العالم، و ما يحيط به من مظاهر و ظواهر، يتعلم اللغة لكي يقول ما يجوز أن يقال، و ما تسمح به المعايير الاجتماعية التي شكلتها الأعراف و التقاليد و الأفهام البشرية، كما يتعلمها أيضا لكي يخفي الكثير و يكتم في نفسه ما يمكن أن يتعارض مع هذه المعايير المنتصبة والبيئة الثقافية الحاضنة كمعايير الرجولة و الانوثة و العفة و القوة الحياء…، و ذلك بمسميات كثيرة ( حشومة،عيب، عار…) و غيرها من كلمات مسكوكة، تصنع “الطابو” والممنوع في ذهن الفرد و تجرهُ إلى الانكفاء على ذاته و كبت وقمع ما يراوده من أفكار و مشاعر قوية، و هنا تأتي الحاجة الانسانية الملحة إلى البوح و التنفيس عن الضغوطات(الأفكار و المشاعر المخزنة الحاضرة في اللاوعي ) ، باعتبار البوح حاجة طبيعية فطرية، وعملية تطهير بلغة أرسطو، التي تعيد الإنسان من جديد إلى دينامية الحياة بعد إزاحة الثقل و الضغط عن كاهل النفس. و هنا قد يطرح السائل : لمن نبوح و بأي شيء نبوح؟
إن البوح يشترط وجود ثقافة الأذن، أذن صاغية مستمعة، متفهمة، بعيدة عن منطق الاستقواء و إطلاق الأحكام الصورية الجاهزة، واعتبار كل بوح استهلاكا كلاميا فارغا أو طريقا ملتويا ماكرا للوصول إلى مقاصد خفية أو تزجية للوقت، يحتاج البوح الإنساني لعقلية تستوعب الآخر وجدانيا وفق تجربته الخاصة، وليس عقلية المواعظ الجافة واستعراض الحكم والعبر النظرية. هناك بوح بالمشاكل يحتاج لمستمع خبير قادر على التوجيه و الارشاد و إيجاد الحلول الناجعة بعيدا عن منطق العاطفة و ما يستتبعه من مشاعر الشفقة و الأسى و العطف دون نتيجة ملموسة، في جهة أخرى يوجد بوح لا يحتاج إلا لانسان ناضج متفهم، مُنصت لما يقال له، بعيد عن منطق التحري البوليسي و تفتيش النوايا و الأسئلة العقيمة التي تكبح و تُعيق عملية التواصل الفعال، بعيد عن مقدمات المنطق الحسابي و آليات العرض و الطلب، فالإنسان أكبر و أوسع من وضعه في هذه الخانة و التفكير الضيق، الغير القادر على فهم الظاهرة الإنسانية و تقمص حالة الآخر وفق شروطه الموضوعية و الذاتية الشخصية. إن الآذان التي تعجز عن الإنصات هي آذان عاطلة توحي بكائن شبحي لا يشعر بالآخرين، ضائع لا يفهم نفسه.!
في ذات السياق قد يحتاج البوح بما هو حديث في الشخصي الحميمي إلى شخص تتوفر فيه شروط النزاهة و الوفاء و الأمانة و الصدق، بدءا من أقاربنا و أصدقاءنا مرورا إلى الفضاءات المفتوحة التي اتاحتها وسائل الإعلام السمعي البصري، و إلا كانت النتائج معاكسة لما يرجوه الشخص من بوحه من انفراج و تفريغ سيكولوجي يعيد الإنسان لانسيابية نهر الحياة.
إن البوح المطلوب ههنا، الذي بإمكانه أن يؤدي وظيفة تحرير الإنسان من قيود الصمت القاتل و الضغط النفسي، ليس البوح العشوائي المتهور بكل شيء و لمن هب و دب و كيفما اتفق، فهي حالة من الفوضى و الميوعة و ابتذال المواضيع الحساسة و انتهاك حرمة الإنسان التي أصبحت تؤثث بعض منصات التواصل الاجتماعي كاليوتيوب و الفايسبوك، حيث فسحت المجال أمام الجميع بدون رقابة و تقنين، حتى أضحت سوقا لعرض مواد و سلع رخيصة بلغة سوقية حلايقية فرجوية، تفتقد لأدنى الضوابط الأخلاقية، يكون غرضها الأساسي، خلق الضجة و “البوز” و جلب الجمهور و حصد اللايكات و التعليقات لجني الأموال عبر إثارة العواطف و استجداء القلوب، و كم رأينا من شخصيات تخرج كل حين بفيديوهات يطبعها الحزن و الألم و الشكوى، و مشاركة مشاكل شخصية عابرة مع العموم، حتى يكاد يعتقد المرء أن ذلك أصبح مهنة جديدة ومنحى افتراضي ولده غياب التربية الصحيحة للتعبير و البوح و عدم التشبع بثقافة الستر، ومراعاة التوازن للذات بين عالمها الداخلي الفردي و العالم الخارجي. هذه الحالات الشاذة التي لم تتلقَّ الدعم المناسب الكافي و التربية السليمة، لا يمكن أخذها نماذج للتعلم و التأسي، فالفرق شاسع بين التعاطف الاستهلاكي الجماهيري و بين الإنصات المسؤول و النصح و تقديم المساعدة، فرق بين ثقافة الفضح التي تعيث في الأرض الفساد و بين ثقافة البوح التي تُشيع روح الحياة، وتوطد الروابط الأسرية و الاجتماعية بين الأفراد، و تحفظ من الانهيارات جراء سقوط آليات الدفاع، فالبوح سواء بالكلام أو بآليات أخرى وقاية من الاضطرابات و الانحرافات نحو العنف كطرق بديلة للتنفيس و التفريغ.
يمكن للبوح ان يشكل وقاية و علاجا فعالا، يقي الإنسان مما يضره و يهلكه و بمجتمعه، فهو وقاية لكثير من الأمراض الجسدية و الفيزيولوجية التي تنشأ بسبب عدم القدرة على التعبير عن المشاعر و ما يفور داخل بوتقة المجال العاطفي الوجداني، فيؤثر ذلك على باقي ابعاد الشخصية. إن البوح عملية تؤهل الإنسان نحو حياة متوازنة، فها هو الطفل(ة) يحكي لوالديه أو لاخوته أو لجدته أو لأستاذه ما يحزنه و يقلقه و يغضبه و يخيفه و يشتت تفكيره…، يفرغ كل ما في جوفه من ضغط نفسي بدون خوف و بكل اطمئنان، الفتاة تبوح لأمها و أخيها أو والدها بما تعرضت له من اعتداء و ابتزاز جنسي أو عاطفي في الشارع و المدرسة و العمل، من غير خوف أو وصم بالعار، وغيرها من أشكال العنف الجسدي و اللفظي التي تحتاج للتدخل و الإنصات، أو تعترف بمشاعرها المتضاربة و ما يفور بداخلها و بأحلامها و مخاوفها…، الشاب أيضا يفصح و يكشف عن متغيراته الدراماتيكية و مستجداته النفسيه والوجدانية والفيزيولوجية لأقرب الناس إليه بكل عفوية و تلقائية، ويبوح بمشاعره الجنسية المندفعة دون إحساس بالذنب و الندم و الدناءة، الطالب الجامعي وهو يصارع التحديات و المشاكل، نشدانا لحياة كريمة سعيدة، يعترف بظروفه العاطفية الجنسية وأحواله الاقتصادية المتعبة و ظروفه الاجتماعية المقهورة و تطلعاته المستقبلية…، الزوجان مع بعضهما البعض، يبوح كل منهما للآخر بهمومه و ضغوطاته النفسية و تحفظاته، مما يجعل العلاقة قوية مبنية على الحوار و الإنصات و الوضوح، لا على الكبت و التجاهل و الانتقام و نصب المكائد ، والحيران التائه يبوح بأسئلته وشكوكه لرجل أمين، تقي ناصح يقود به إلى طريق الرشد و الهدى…، هكذا يمكن أن يكون البوح للآخرين اختيارا ناجعا للحفاظ على سلامة النفس و العقل و خلق حياة طبيعية بعيدة عن كل مظاهر الهدم و التصدع. كما لا يعني هذا أيضا إخلاء جميع الخصوصيات و الأسرار من مساحة الفرد الداخلية، فمن حق كل إنسان ان يحتفظ في نفسه ما يريد و يشاء، خصوصا إن لم يكن مُدعاة للكشف عنه.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس والمبعوث لإتمام مكارم الأخلاق نموذجا تربويا يقتدى به في ثقافة الأذن، وذلك بالإصغاء لهموم الناس و أحزانهم و مشاكلهم و آهاتهم بحسن الاهتمام و رحابة الصدر دون قمع و إحراج أو إصدار أحكام مسبقة زجرية، بل كان يترك المتحدث يفضفض و يشكو ألمه، و يقابله بكل وجوه الحنو و العطف و الرحمة و هو يأخذ بيده ناصحا مرشدا، فكان عليه السلام يأخذ بعين الاعتبار مشروطية الآخر بعيدا عن منطق الاسقاطات و الأسئلة الجافة، و لنا في سيرته العطرة عدة مواقف و قصص للعبرة، فها هو الشاب المُثقل باضطرام الشهوة في صدره، يقصد النبي يستأذنه في الزنا و ارتكاب أشنع الموبقات التي كان القرآن صريحا في تحريمها، لخطورتها في تخريب الفرد و تفكيك المجتمع، ورغم ذلك كان نبي الرحمة حكيما في الإجابة و الرد بلباقة و حِلم و هدوء، فناداه أن يدنو إليه ليطرح عليه الأسئلة : أتحبه لأمك؟، أفتحبه لابنتك ؟، أفتحبه لأخته؟… إلى آخر الحوار، ليغادر الشاب هذا المجلس التربوي المهيب كارها لهذه الرذيلة و الفاحشة النكراء، و هنا تتجلى أهمية الإنصات و التفهم في التوجيه و الإقناع و علاج المشاكل بعيدا عن منطق التعنيف و اللوم، الذي يؤدي للنفور و تأزم العلاقات وتفاقم الأزمات، بدل إيجاد مخارج لها، و لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الإنصات مصغيا للناس، أصبح المنافقون في زمانه يعيرونه بأنه مجرد ” أذن”، أي أنه يستمع للجميع و يصدقهم على اساس أنه لا يميز بين الصادق و الكاذب و بين الصالح و الطالح، فنزلت الآية الكريمة في سورة التوبة الآية 61( وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ للمؤمنين وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ). لتكون تعزيزا لثقافة الإنصات و الاستماع في الخير و الإصلاح لا في التجسس و الغيبة و الشرور كما هو منتشر في زمن التفاهة و الانحطاط الأخلاقي.
على سبيل الختم، لا بد من نشر الوعي و تكثيف الجهود للتأسيس لثقافتي البوح و الإنصات، ثقافة الإنسان سند لأخيه الإنسان بدل ثقافة الإنسان ذئب لأخيه الإنسان التي ترسم صورا من الصراع و الثأر والانتقام، و بداية التأسيس هذه يجب أن تنطلق من الطفل/ الطفولة، داخل أسرته و مدرسته و محيطه الصغير، بأن نعلمه و نغرس فيه ثقافة البوح والاعتراف بكينونته، وذلك بالإصغاء إليه في كل الحالات باهتمام حتى و إن بدا لنا ذلك غير واضح و مفهوم أو صغير الشأن والقيمة، لكنه عظيم و كبير بالنظر للأثر والعاقبة، وتوفير الدفء العاطفي المناسب، حماية له من أشكال الانحراف و الضياع، والتخلص من بواقي ثقافة التخويف و العقاب و التوبيخ والتحقير التي لا تنتج إلا شخصا هشا، يخاف من النقاش و التفاعل و الاعتراض، الإقدام و الاقتراح، الانتقاد، لا يعترف بفشله و ضعفه و نقصه أمام نفسه، و نفهم أن الصمت لا يعني فقط الأدب و الحكمة و التعقل !، بل هو كلام ممنوع و إيماءات و حركات، بكاء، احتراق، استغاثة…، ما يدعونا لتشجيع الكلام و البوح و التفريغ حتى لا يتحول الصمت إلى لعنة و كارثة نفسرها بأسباب أخرى واهية، فليس كبت المشاعر و الإعراض عن التعبير و طلب المساعدة أو مجرد بوح أو رغبة في التواصل لتجاوز العواقب الوخيمة، دليلا على القوة و الصلابة، بل هو مؤشر على الضعف و الهشاشة وغياب حكمة التدبير الذاتي، وعدم القدرة على الاستماع لفضفضة الآخر تعبير عن العجز و الفشل في التواصل مع الذات و مُصالحتها أو دلالة على مخزون لاشعوري من تمثلاث خاطئة، أو نتيجة لغياب ثقافة الإنصات والاحتضان. إن الأطفال كما يقول الكسندر لوفن، ولدوا أبرياء، بدون كبت أو شعور بالذنب تجاه أحاسيسهم.
لتشييد بنيان صحي سليم يتفق مع الفطرة السوية، وَجب جعل علاقة الإنسان بنفسه محور الاهتمام حتى يتسنى له فهم ذاته و مد أيادي التصالح و التواصل معها و مع الآخرين بشكل أفقي، بعيدا عن منطق التحقير و الجفاء و الاستهزاء و الآذان الصماء، كما أن هذا المبتغى المنشود في حاجة لخلخلة بعض التصورات الثقافية الخاطئة، وإعادة النظر في بعض الأفكار و المعايير و التمثلات التي لم ينزل بها برهان. هكذا يجب أن نقرر جميعا، نهدم جدران الصمت الكئيبة الموحشة و الانسحاق الداخلي الفردي و نبعث ثقافة البوح و الإنصات، و توفير الطرق الناجعة للتفريغ حبا في الإنسان و الحياة التي وهبها الله، لنعيشها بالتيسير لا بالتضييق و إحالتها إلى جحيم.
يقول المحلل النفساني النمساوي سيغموند فرويد : إن حقيقة الإنسان ليس فيما يقوله بل فيما لا يقوله.