أزمة التعليم بين التعاقد المشؤوم والمناهج الاستلابية
هوية بريس – عمر اعراب
إن الحديث عن أزمة التعليم هو الحديث عن أحد أعراض تخلفنا وانحطاطنا الذي نعيشه في وقتنا الحالي، ومعالجة هذه الأزمة يأتي عن طريق تشخيصها والكشف عن عناصرها، ويعد قطاع التعليم من القطاعات التي تشملها مؤشرات التنمية والرقي في المقاييس الدولية، وفي المغرب يعاني هذا القطاع من أزمة كبرى باتت تشغل الرأي العام الشعبي بالبلاد وتعيق أي مشروع تنموي، ويمكننا تقسيم هذه الأزمة إلى أزمة التلميذ وأزمة الأستاذ وهما المكونان الرئيسان في مجال التربية والتعليم.
المناهج الدراسية الاستلابية (أزمة التلميذ)
إن أول داء يعاني منه قطاع التعليم منذ تأسيس الدولة المغربية الحديثة عام 1956م هو طبيعة المناهج الدراسية السلبية التي لم يُستفتى الشعب المغربي في شأنها بل فرضت عليه قسرا من طرف النخبة السياسية بعد الجلاء العسكري للاستعمار الفرنسي، فكانت اللغة الفرنسية (لغة المحتل) هي لغة المناهج التعليمية، والتي كانت حكرا على فئة معينة من الشعب وهي نفسها فئة النخبة المسيطرة وما يرتبط بها، لذا كان أول اختبار أمام الشعب المغربي وممثلوه هو تعريب المواد الدراسية وجعل اللغة العربية هي لغة التعليم والتدريس.
فبدأ بالتالي مسار تعريب المواد الدراسية الذي تعرض لعراقيل كثيرة وضعها أنصار الفرانكفونية الذين يستحوذون على مراكز صنع القرار السياسي ويرتبطون ارتباطا وثيقا مع المصالح الفرنسية، وفي نفس الوقت شنت حرب شعواء على اللغة العربية والهوية الإسلامية التي يسير الشعب المغربي نحو استردادها، مما أعاق مسيرة التعريب وجعله مقتصرا على المواد الأدبية بينما تخضع المواد العلمية للهيمنة الفرنسية لاسيما في مرحلة التعليم العالي، فصارت الأمور على هذا الشكل المتناقض والمعوج مما أولد أزمة جديدة وهي مشكل الازدواج اللغوي.
ومع صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين عام 1999م والذي جاء بالإصلاح المزعوم، تفاقمت مشاكل القطاع التعليمي وتغولت ظاهرة الازدواج اللغوي لتشمل جميع المراحل التعليمية بدءًا من التعليم الأولي ما قبل الابتدائي، التي ستخلق لدى التلميذ المغربي البسيط مشاكل لغوية لا يستطيع على إثرها مواكبة تعلم لغته الأم بكل أريحية وبشكل سليم، فاللغة الفرنسية الأجنبية تزاحمه طيلة حياته الدراسية وتشكل له هاجسا، لتأتي بعد هذا قوانين جديدة كالقانون الإطار الذي يرسخ سطوة الفرانكفونية وهيمنة لغتها الفرنسية التي ستتمدد على باقي المراحل التعليمية.
فقد كان من الطبيعي أن تبقى اللغة الفرنسية مقصورة على حالها كمادة من المواد التعليمية في مجال تدريس اللغات، لكنها تحولت بشكل فج وعلى إثر الهيمنة الخارجية إلى إحدى لغات التدريس التي تحتكر المواد العلمية والتطبيقية، فتمنع بذلك التلميذ من تشكيل الفكر الذاتي وتحقيق الإبداع والنمو المعرفي، فالإنسان في النهاية لا يبدع خارج لغته.
ولم تكن اللغة العربية هي المستهدفة فقط في هذا السياق بل حتى اللغة الأمازيغية التي ادعى الكثير منهم نصرتها وتاجروا بشأنها، إذ إن الهيمنة الفرنسية لم تسمح لها بالظهور حتى، وصارت لغة الفرنسي الأجنبي (المستعمر) تحتكر تدريس العلوم وتمتد إلى قطاعات أخرى كالإعلام والصحة والتجارة والمالية، لتكرس تبعية البلاد لفرنسا التي ادعت أنها منحتنا استقلالا.
وقد جاء هذا كله في إطار الحرب الفكرية على هوية الشعب المغربي المسلم، حيث تم استهداف أيضا مادة التربية الإسلامية من طرف الطبقة العلمانية والليبرالية، واستطاعوا تحجيم مساحتها من المناهج التعليمية سعيا منهم في الأخير إلى إلغائها، وذلك استكمالا لمشروع علمنة التعليم وتعميق الاستلاب الثقافي والحضاري للمغاربة ووضع البلد تحت الهيمنة المطلقة لفرنسا والغرب.
التعاقد المهني المشؤوم (أزمة الأستاذ)
أما عن الأزمة الطارئة في الآونة الأخيرة على قطاع التعليم هي أزمة التوظيف بالتعاقد والتي تخص فئة الأساتذة والمدرسين، وقد جاء هذا النوع الجديد من التوظيف إلى قطاع التعليم من أجل ترسيخ ما يعرف بالجهوية عوض المركزية؛ أي أن توظيف الأساتذة سيكون على مستوى الجهوي وتحت إشراف الأكاديميات الجهوية بدلا من المستوى الوطني ووزارة التعليم، وهذا النهج الجديد في التوظيف هو الانتقال من التوظيف العام إلى التوظيف الخاص وبعبارة أخرى هو بداية خصخصة قطاع التعليم!
فالاقتصاد المغربي قبل كل هذا قد نهج في الثمانينات ما يسمى بالتقويم الهيكلي الذي يتجه نحو الليبرالية الحرة، وبالتالي سعت الدولة المغربية نحو الانخراط بقوة في منظومة الاقتصاد العالمي، لتنفذ بعد ذلك تعليمات وإملاءات صندوق النقد الدولي بخصوص تدبير الموارد الاقتصادية، وعلى رأس هذه الإملاءات تشجيع القطاع الخاص على حساب القطاع العام في المجالات الحيوية: التعليم والصحة وخدمات المياه الكهرباء..
وبالتالي كان التعاقد مع مؤسسات تحظى بنوع ما من الاستقلالية كالأكاديميات الجهوية هو الخطوة الأولى في طريق الخصخصة، فكانت شروط التعاقد المجحفة والمنتهكة لعديد من حقوق الأساتذة هو برهان على أسس هذا النهج الجديد من التوظيف الذي يسلب الحقوق والمستحقات ولا يعوض الأضرار، وذلك من أجل القضاء على الوظيفة العمومية في مجال التعليم الذي يتصدر المرتبة الأولى في قائمة التوظيف في القطاع العمومي المغربي.
ومن جهة أخرى فإن هذا يزيد من حجم الأزمة بتهديده لشريحة ضخمة من الأساتذة، ويربك استقرارهم النفسي والاجتماعي مما يزيد التأثير السلبي على المدرسة العمومية التي باتت مهددة أمام شبح نيوليبرالية الذي بدا يخيم على الأجواء، فتطبيق السياسة النيوليبرالية يعني رفع الدولة يدها عن قطاع التعليم وتسليمه لسلطة السوق الرأسمالي المتوحش ليكون في النهاية على شكل سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب ولمن يدفع أكثر، لتقتسمه الشركات الرأسمالية التي لن تتورع في تطبيق قوانينها وشروطها الاحتكارية على الطبقة الشغيلة من أجل مزيدا من الاحتكار والاستعباد.
وهكذا سيتم جعل قطاع التعليم مختبرا لتجارب الخصخصة والنيوليبرالية والتي تستهدف أيضا القطاعات الحيوية الأخرى وخدماتها العمومية، فصندوق النقد الدولي نجح في إدخال المغرب في دوامة الديون، وتواطأت معه نخب الفساد والاستبداد بالبلاد، فشُرع التعاقد كوسيلة لابتلاع القطاع العام من طرف الشركات الأجنبية ومثيلتها المحلية ذات الجشع الرأسمالي الأناني، وعلى المستوى الفردي للأساتذة والمدرسين فإن التعاقد المشؤوم يعد بمثابة كابوس يهدد مسيرتهم المهنية ووضعهم الإجتماعي، ويكرس لهم مزيدا من سلب الحقوق والمستحقات ويغرقهم في عبودية فجة.
وسيتلقى المجتمع المغربي بالغ الضرر في خضم كل هذا؛ كونه سيخسر المدرسة العمومية (المجانية) لصالح المدرسة الخصوصية ذات التكاليف العالية والرسوم الباهضة التي لاتقدر عليها أغلب الأسر المغربية، مما يجعل مجال التعليم يتجه نحو الهاوية ويغرق في أزمة كبرى تتحمل السلطة والدولة المسؤولية الأولى وراءها، فمن جهة هناك استغراق في انتهاج مناهج دراسية استلابية تصادر الهوية وتكرس الهيمنة الفرانكفونية الاستعمارية، ومن جهة ثانية هناك تعاقد مشؤوم يهدد الوظيفة والمدرسة العمومية ويسير نحو الخصخصة ذات الآفاق المأساوية.