أزمة التنويريين الجدد
هوية بيس – بلال التليدي
قبل أسابيع، تم الإعلان عن تأسيس مركز «تكوين» في العاصمة المصرية القاهرة، وتحركت دينامية إعلامية كثيفة حول مضمون هذا المشروع، وبرز على مستوى التعبيرات الإعلامية رموز محدودة، ركزت رسالتها بشكل أساسي على السنة، وعلى المصادر المرجعية لها، وبالتحديد صحيح البخاري.
الرسالة التي يحاول هذا المشروع توجيهها تبدو مضطربة، فهي من جهة تسعى إلى الإقناع إلى أن المصدر الوحيد لاستلهام مقاصد الإسلام هو القرآن، وأن السنة النبوية، بما ارتبط بها من إشكالات تتعلق بالكم (آلاف الأحاديث) أو بالتدوين (التشكيك في صحة الرواية) أو بمضمون الحديث (تعارض بعض الأحاديث مع القرآن أو مع أحكام العقل) تشوش على مقاصد القرآن وتخلق الالتباس في فهم بيانه. ثم هي من جهة أخرى، تسعى إلى الإقناع بأن منهجية قراءة القرآن (المنهجية التراثية بمختلف حقولها المعرفية) تحتاج إلى مراجعة شاملة، وأن هناك إمكانية لاجتراح منهجية جديدة عقلانية في قراءة النص القرآني، تستفيد من التراكم العلمي التي تحصل في قراءة تفكيك الخطاب وقراءة النص.
من حيث المبدأ، لا يشكل هذا المضمون أو بالأحرى المهمة شيئا جديدا، فعلى مدى العقود الماضية، ظهرت مشاريع عديدة في التعامل مع المصادر المرجعية ونقد التراث والعقل العربيين، فكتب أبو رية «أضواء على السنة النبوية» معتمدا منهج الشك في الرواية والتدوين ونقد المتن، وكتب نصر حامد أبو زيد في نقد النص، وفي التأويل، وانتقد عددا من القواعد التي أصل لها العلماء في مباحث علوم القرآن، وكانت المحصلة من ناحية العلم والمنهج أكثر صلابة من الظاهرة «التكوينية» برموزها ومضامينها ورسائلها.
يمكن أن ندرج ضمن هذه المحاولات أربعة مشاريع أساسية، كان حظها من التراث وعلومه أكثر صلابة علميا قياسا إلى المضمون الذي يبثه اليوم مركز «تكوين» فركز الجابري على نقد العقل العربي، وتحديدا العقل الذي يمتح من النظام المعرفي البياني، والعقل الذي يستمد قواعده ـ إن صح أن تسمي قواعد ـ من النظام العرفاني، فلاحظ الجابري أن أزمة العقل البياني تكمن في ارتهانه إلى المباحث اللغوية، وإلى آلية القياس، ولخص أزمة هذا العقل الذي يبحث معضلات الواقع باستنطاق النص، أنه يجعل في اللغة ودلالاتها وكذلك الإلحاق بالأصل لعلة جامعة حلا للظواهر الاجتماعية، ورسم صورة كاريكاتورية عن استقالة العقل في النظام المعرفي العرفاني.
محاولة أخرى، مهمة أنتجها الدكتور حسن حنفي، تأطرت بهم المثقف العضوي الذي يحاول أن يجعل من التراث أداة للثورة (تثوير التراث لتحقيق الثورة) فاشتغل على أغلب حقول المعرفة الإسلامية، من عقيدة وعلوم قرآن وعلوم حديث وأصول وفقه وغيره، وكانت زبدة قوله أصوليا الدعوة إلى إعادة ترتيب أدلة الأصول، وتغليب المصلحة على النص، تماما كما كان تأصيل نجم الدين الطوفي.
مشروع جورج طرابيشي، تأسس على أنقاض مشروع الجابري، فبدأ في المنطلق ناقدا للجابري، ومحققا لنصوصه وإحالاته، وانتهى إلى نفس مآلته تقريبا في تعليق الشماعة على الثقافة العربية، وأداتها الأساسية العقل العربي، وكانت مشكلته في نقد التراث تجاوز الأطر والقواعد العلمية التي أنتجته، وفارق منهج الجابري، في نقد السنة، وبيان تأثير تضخم نصوصها في تعقيد أزمة العقل العربي.
أما مشروع العروي، فقد كان أضعف من جهة فهم التراث وقواعد إنتاجه، فأفضى به الهوس بتجربة النهضة الأوروبية، وبنظرية هيغيل، إلى القول بضرورة الفطام عن لغة الأم، والقطيعة مع التراث، والدعوة إلى مرحلة انتقالية يتم فيها توطين الليبرالية في الوطن العربي، واعتبر هذه المرحلة الوسيطة ضرورة لإحداث النهضة، ودعا إلى الاستعانة بالدولة-الجهاز الاستبدادي القمعي بالتوصيف الماركسي-للقيام بمهمة «اللبرلة القسرية من فوق».
في الواقع، المشاريع النقدية للتراث الإعلامي، ولعلومه ومعارفه هي أكبر من أن تحصر في هذه النماذج الأربعة، لكن سوقها هنا جاء فقط بقصد إحداث نوع من المقارنة بين مشاريع الأمس، ومشاريع اليوم. فمع الاشتراك في المضامين والرسائل، أي تحميل النصوص الشرعية، أو القواعد التي جعلها العلماء أصولا للمعرفة الإسلامية، خاصة علم المصطلح وعلم أصول الفقه، الجزء الأكبر من المسؤولية على الجمود الذي يعيشه العالم العربي.
المقارنة، تستدعي عددا من الملاحظات، أولها، أن مشاريع الأمس، مهما كان الاختلاف مع منهجيتها وخلاصاتها، فقد كانت في الجوهر مشاريع بحثية، تم الاشتغال عليها لمدة طويلة، وربما سميت لدى البعض مشاريع العمر البحثية كما هو الأمر بالنسبة للجابري وحسن حنفي، بينما مشاريع اليوم، هي أشبه ما تكون بفقاعات إعلامية، ليس تحتها رائحة العلم ولا الاشتباك مع التراث وقواعده.
الملاحظة الثانية، تتعلق بالخلفية العلمية والمنهجية، فمع وجود تفاوت مهم في الاشتباك مع المادة التراثية بالنسبة إلى مشاريع أمس، فإن كل واحد من حملة المشاريع الأربعة، كان له صناعة ثقيلة في أحد حقول المعرفة، فالجابري، المتخصص في الفلسفة وإيبستمولوجيا العلوم، كان له اشتباك قوي بالمادة التراثية، ويبرز مشروعه نقد العقل العربي، أنه على إحاطة مهمة بعلم الكلام، وعلوم اللغة والبلاغة، وعلم الأصول والمقاصد، وعلم المنطق، وكذلك الأمر بالنسبة لحسن حنفي، مع تفاوت طفيف. والعروي، وإن كان اشتباكه الأول في بدايات كتاباته عن الإيديولوجية العربية والعرب والنقد التاريخي، تميزت بضعف شديد في الارتباط بالتراث، ومادته العلمية، إلا أن صناعته الثقيلة في التاريخ، وأيضا في الفلسفة الغربية، وتملكه ناصية المناهج الغربية مع الوعي بخلفياتها وبشكل خاص خلفيات المستشرقين، يجعل لكتاباته ما يقويها في نقد الإيديولوجية العربية، مع الاختلاف الكبير معه في المسلكيات والخلاصات.
الخلفية العلمية والمنهجية لرموز «تكوين» تبدو ضعيفة هشة، تبرزها الأخطاء الفظيعة التي ترتكب في بعض التعبيرات، سواء في المستوى اللغوي، أو في ضبط قواعد العلوم، أو في حقائق التاريخ المتعلقة بهذه العلوم، هذا فضلا عن عدم تملك أي خلفية منهجية أو فلسفية ثقيلة يمكن أن يكون لها أثر في تبرير الإضافة النوعية في نقد التراث.
يثير البعض الخلفية السياسية، والارتباطات بالسلطة، وربما بجهات خارجية بتواطؤ مع السلطة. في الواقع لا نملك مؤشرات تبين وجود أجندة أو تمويل خارجي ييسر هدف تسويق هذه الأجندة، لكن، في المقابل، لا توجد أي مؤشرات تدل على استقلالية ثقافية لرموز «تكوين» عن السلطة، فالمؤشر الكبير الذي نركن إليه، هو ما يرتبط بطبيعة المثقف العضوي، وهو أنه يكون دائما في الجهة المقابلة للسلطة، أو في أحسن الأحوال على مسافة منها. الثابت بالنسبة لحملة المشاريع السابقة، أن أغلبهم كانوا معارضين للسلطة، أو على مسافة كبيرة منها، بل إن بعضهم صاغ مشروعا يناهض السلطوية، ويؤسس لآليات تغييرها (الكتلة التاريخية كما عند الجابري).
ثمة ملاحظة ثالثة، تتعلق بالتعبير الفكري والإعلامي، فالمشاريع السابقة كانت تعتمد على الكتاب، أو على الدراسات البحثية، التي تأخذ المدى الزمني في الصدور، بسبب الضرورات المنهجية، والاشتغال على المادة التراثية الفسيحة بالأدوات العلمية. لكن، بالنسبة لمشروع «تكوين» فنحن في الواقع أمام صيغة «الوجبات السريعة» و«الشو» الإعلامي الذي يسلط الضوء على الإثارة والاستفزاز، وإرسال أحكام القيم، دون وجود ما يسند الأفكار الصادمة من بحوث رصينة أو حتى اشتباك مقدر مع المادة التراثية.