أزمة العربية.. الانهيار من الداخل
هوية بريس – عبد الكريم الحاج الطاهر
اللغة مرآة الأمة ، عاكسة لشخصيتها، قوية كانت أو ضعيفة، ولسان حالها ناطق بأفراحها أوأرزائها ، ومعيار قوي يقاس به مدى متانتها أو رخاوتها ، وبرهان ساطع إن على سلامتها أو اعتلالها ،ورواية تقص من أنبائها ،وحينما يتعلق الأمر بالعربية فهي تعاني اليوم من أزمة ، ولم يعد هذا محل جدال، فقد طالها الوهن وعلاها الذبول ، وهذه الأزمة ، على مستوى المنظومة اللغوية ، تختزل أزمة أخرى عامة وعارمة نخرت وما فتئت تنخر الأمة ، ولن يكون ذلك إلا مؤشرا يدعو إلى القلق، ويستدعي مزيدا من السهاد والأرق، ويمنحنا شرعية السؤال : ما هي الملابسات والأسباب التي آلت بها ، أي بالعربية ، إلى هذا الوضع المَهُول؟
أولا : تحليل نمطي قاصر
يقول فرانثيسكودي غويا إي لوثيينتيس في كتابه الثاني (أهواء): ” إن رقاد الفكر يولد الممسوخ ” ، وقد راقني ما قاله أحد الكتاب ، وكأني به يزكي ما ذهب إليه هذا الأخير، بضرورة : ” أن نخرج من الامتثالية الفكرية ، ولا بأس بقليل من الاستفزاز لتحريك المياه الراكدة ونتحاشى الخطاب العربي العقيم المكرور …” ولا يسعنا – ونحن نبحث في أسباب الأزمة التي تتردى فيها العربية – إلا أن نشايعه ونرتاض له ، ومن ثم فإننا نحبذ الرفع من سقف الجرأة ضد التحليل الكلاسيكي النمطي القاصر ، حيث يسافر بنا الخيال الجامح – وبانسياب فاضح -إلى خارج الحدود ، ولا سيما إلى الضفة الشمالية للمتوسط اعتقادا منا أنها ” الجو الذي منه خرجت البوادر ، والعش الذي فيه درجت ” ، دون الأبه بما يعج به ” البيت الداخلي ” من نقص وتقصير، وهذا من شأنه أن يفاقم الأزمة بدل حلها ، وبصراحة جريئة نقول ، إن ما بتنا نعاني منه هو صنف من أصناف ” الجبرية السياسية ” أو ما أسماه مالك بن نبي ” القابلية للاستعمار” ، يقول – رحمه الله – : ” إن الاستعمار قد جاء إلى العالم الإسلامي نتيجة مرض أساسي عندنا هو القابلية للاستعمار..” ، قابلية للاستعماراستمرأنا فيها كل ضروب الاستعباد ، وتعايشنا فيها مع كل أصناف الاستبداد والاستغفال ، بل وقدمنا للمستبد كل قرابين الولاء ، وأصبحنا كدودة الأرض التي لا تنشط إلا في حمأة الطين ، وتضيق ذرعا بالنور والهواء.. ، وكان من تداعيات ذلك أن علقنا كل المآسي (وضمنها أزمة العربية) على شماعة الأعداء للتهرب من تحمل المسؤولية ، ودخلنا – بالتالي- في دوامة من التواكل والتثاقل والخمول.!
ومؤكد أن ضلوع هؤلاء في تأجيج هذه الأزمة واضح وجلي ، ولكن ما لا ينبغي إغفاله البتة ، وينبغي أن نكون على يقين منه ، أن التطاول على اللغة من جانبهم ليس إلا ” ثمرة مرة ” أو ” باكورة خبيثة ” لشجرة خبيثة تتمثل في كرهنا للغتنا الأم ، وهي المطية التي ركبها الأعداء فصالوا وجالوا وعلوا وبغوا ، فلم يكن ليفلحوا في مسعاهم هذا لو أنهم آنسوا فينا مثقال ذرة من الحب لهذه اللغة ، وعطفا على هذا نخلص إلى القول : إنه- وللسير في طريق انفكاك هاته الأزمة- فالأمل معقود على تفعيل مجموعة من التدابير الإجرائية ويبقى أهمها تبديد هذه ” الوحشة ” وهذه ” المجافاة ” والتأسيس لعهد من “الألفة ” و” المصافاة ” ، وهذا خط أحمرفاصل ، كان ، ووارد جدا أن يكون، قوة ردع تقلص هامش حريتهم وتكبح جماحهم ، وتحد من تماديهم ، وهذه خطوة أولى على الطريق ،ونقطة بدء حاسمة ، مهمة واستراتيجية ، كما أنها مطلب ديموقراطي ، والمطالب لا تنال بالأماني ولكن تؤخذ ” غلابا ” ، وقبل ذلك لابد من مبادرة ، و ” المبادرة ” هي العادة الأولى ضمن ” عادات النجاح السبع ” كما يحددها د. أيمن أسعد عبده في كتابه : ” التغيير من الداخل ، تأملات في عادات النجاح السبع ” ، ولنكن أول المبادرين لإرساء دعائم هذه المصافاة ولنكن نحن التغيير الذي نريده في الناس حيال اللغة العربية ولنبدأ بأنفسنا ، فالنفس محور التغيير، وبغير هذه الحماسة ،وهذا الحسم والوضوح وهذا الإقدام ، فلن تحتسب لنا صفة المبادرين ، ولا منقبة المتغيرين ، المغيرين.
ثانيا : النفس محور التغيير
جاء في محكم التنزيل : ” إن الله لا يغيرما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم “.
يقول صاحب ” الظلال ” رحمه الله في معرض تفسيره لهذه الآية : “وواضح..أن مشيئة الله في تغيير حال قوم إنما تجري وتنفذ من خلال حركة هؤلاء القوم أنفسهم ، وتغيير اتجاهها وسلوكها تغييرا شعوريا وعمليا.فإذاغير القوم ما بأنفسهم اتجاها وعملا غير الله حالهم وفق ما غيروا هم من أنفسهم”.
وفي شأن العربية وعلى نفس منوال الآية لكن بتنويع سياقي نقول : إن الله لا يغيرما بالعربية من أزمة حتى نغير ما بأنفسنا من مواقف متشنجة حيالها..، فالبدار ، البدار إلى هذا التغيير…
يقول أرسطو: ” لكي نحرك العالم..علينا أولا أن نحرك أنفسنا ” ، وفي نفس السياق يقول المهاتما غاندي (الرجل الذي كان بحجم أمة) ، يقول : ” كن أنتَ التغيير الذي تريده في العالم ” ، فالتغيير نحو الأفضل نقلة نوعية نروم منها تحرير العربية من شرنقة التخلف ، وهذا رهين بتبديد ذلك الجفاء ، وهذا بدوره يحتاج إلى طموح قوي ، والطموح ” لهيب الحياة وروح الظفر ” ، أجل هذا التبديد يحتاج إلى عزيمة قوية لاملالة فيها ولا فترة بغاية حلحلة النفس عساها تتخلص من كل الشوائب العالقة ، التي تعكر صفو العلاقة بينها وبين لغتها،والتدشين لمراجعة دقيقة وصارمة وحاسمة لمواقفها من اللغة ،وهذا في جوهره ورش ضخم لتحقيقه ” نقترح ” اقتفاء الخطوات الآتية :
أولا : مراجعة عملية لموقفنا من العربية للانتقال من الجفاء إلى الوصال والإئتلاف.
ثانيا : السعي الحثيث لتعلمها (إلى حد الحذاقة) والتعرف عليها معرفة كاملة إن كان ذلك ممكنا وميسرا.
ثالثا : الصدع والجهر بما تعلمناه فلا جدوى ولا حصاد لما يبقى حبيس الصدور، والزحف به حتى يغمركل الناس ، وتحبيبه إليهم في قوالب مغرية ، والرصد للأخطاء المرتكبة على جميع الأصعدة (البيت ، الشارع ، الفضاءات العمومية…) ، والعمل على تصحيحها بأساليب سلسة ولينة وفي حدود ما هو بالامكان ولنحذر التنفير.
رابعا : الإسهام في إحياء تراثها ونشره.
والآن نمرإلى جولة في رحاب التاريخ البشري وليس العربي وحسب، جولة نبتغي منها الوقوق على مجموعة من المواقف الشامخة من اللغة الأم ،مواقف باتت لدى هذه الأجيال(طلائع البعث اللغوي) ” قاعدة مطردة ” انتقلت من جيل إلى آخر ، وهي لعدد من الفعاليات على اختلاف مشاربها وأوطانها ، حفزها حب اللغة الأم ، وأغراها الشوق إلى التغييرواسترجاع المجد التليد ، وها نحن نسوقها ، كنماذج حية ،هي طبعا غيض من فيض ولكن في طياتها مجموعة من العبروالغاية المبتغاة : محاولة استقرائها بهدف الاحتذاء بها.
ثالثا: في رحاب التاريخ
*النموذج الأول:
رُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرَّ بقوم يرمون ، فاستقبح رميهم .. فقال : ” ما أسوأ رميكم ” ، فقالوا :” نحن قوم متعلمين ” (بجر كلمة متعلمين).. فقال عمر : ” ” للحنكم أشد عليَّ من فساد رميكم “.. وهذا إنما حصل من الموالي والمتعربين ولصعوبة تمييزهم أحوال المثنى والجمع في النطق .. كما يصعب ذلك على كثير منا الآن.
*النموذج الثاني:
يقال إن ابنة أبي الأسود الدؤلي(يلقب ملك النحو16ق ﻫ /69ﻫ) جاءت إلى والدها في ليلة قمراء صافية تقول: ما أجملُ السماء يا أبتي.. برفع حرف اللام في (أجمل) فقال لها نجومها المتلألئة أو قمرها المنير.. قالت ما أردت أن أسأل عن شيء جميل فيها.. ولكني أردت التعجب من صفاء السماء.قال لابنته : وا بنتاه.. إذا أردت أن تتعجبي فافتحي فاك وقولي.. (ما أجملَ) بفتح حرف اللام.وفي صباح اليوم التالي ذهب أبو الأسود الدؤلي إلى سيدنا علي رضي الله عنه وطلب منه السماح له بوضع قواعد أساسية تعين على ضبط الألفاظ.. فكتب سيدنا علي رضي الله عنه ورقة في النحو وقال لأبي الأسود الدؤلي (أنحُ) نحوها ـ أي سر على هداها ـ ومن تلك اللحظة أصبح هذا العلم يسمى بـ (علم النحو).
*النموذج الثالث:
يقول د.محمود فهمي حجازي في مقال له تحت عنوان : ” العربية في العصر الأموي ” (المصدر: الشبكة العنكبوتية) : ” كان سادة البيت الأموي يرسلون أبناءهم إلى البادية لينشئوا في جو عربي بدوي وحتى يدرجوا على استخدام العربية على النحو الذي كان معروفا عند البدو ، وكان سادة البيت الأموي يفزعون أشد الفزع عند ملاحظاتهم لبعض الأخطاء اللغوية عند الناشئة من أبنائهم ، فقد كانوا يعتزون بالعربية في صورتها البدوية اعتزازهم بأصلهم البدوي .وأقبل كثير من الأعاجم على العربية لا لمجرد التعبير بها تعبيرا يفي بمطالب الحياة اليومية ، بل كي يرتفع في المجتمع ” ، وقد كان الشاعر ” زياد الأعجم ” خير نموذج لهذا، علما – وكما أشار د محمود فهمي حجازي – إلى ذلك في موضع آخر من المقال – أن العربية كانت هي اللغة الرسمية قولا وعملا في جميع مناحي الحياة الأموية.
*النموذج الرابع:
يقول سيديوأحد المؤرخين الفرنسيين المولود بباريس سنة 1808م في كتاب له اسمه (خلاصة تاريخ العرب) : ” إن العباسيين رتبوا خمسة عشر ألف دينار لمدرسة يتعلم بها مجانا ستة آلاف تلميذ من الفقراء والأغنياء ، وأنشأوا مراكزللتعليم الحر رخصوا الدخول فيها لمن أراد ، فانتشرت اللغة العربية في سائر جهات آسيا ،حتى تكلموا بها بدلا عن لغتهم واعتاد المأمون ومن اقتدى به بعده حضور الدروس العامة التي يلقيها المدرسون ” (اللغة العربية بين الماضي والحاضر2 دعوة الحق العدد 45: الموقع الإلكتروني).
*النموذج الخامس:
هذه مبادرة من المبادرات التي لاقت نجاحا منقطع النظير ، مبادرة (تحدي القراءة العربي) وهي أكبر مبادرة ل ” رفع الوعي بأهمية اللغة العربية وإعادة إحياء عادة القراءة لدى الطلبة العرب، وتكريسها أسلوب حياة وخلق أجيال مثقفة ” ، ومن أهم أهدافها : ” تنمية مهارات اللغة العربية وتحسينها لتمكين الطلاب من التعبير بلغتهم بفصاحة وطلاقة ” ، وقد أرسى قواعدها سنة 2015الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي …، وجدير بالإشارة أن التلميذة المغربية ” مريم أمجون ” قد شرفت المغرب بفوزها بجائزة هذه المبادرة في دورتها الثالثة سنة (2018) ، وقد صرحت ، في أكثر من مناسبة ، بأن المرشحين متساوون في كل شيء ، ولكنها تتفوق عليهم في شيء واحد يتمثل في فصاحتها وسلامة نطقها للعربية الفصحى ، وهذا منتهى االآمال.
*النموذج السادس:
هنا تحكي لنا قصاصات الأنباء الواردة من القارة العجوز أنه في إحدى قمم المجموعة الأوروبية ، بدأ رجل الأعمال الفرنسي إيرنيست انطوان سيلييه يلقي كلمة مخاطبا الحضور ، وقد اختار لذلك اللغة الإنجليزية ، فأثار هذا التصرف استغراب الرئيس الفرنسي الأسبق الراحل جاك شيراك مما جعله يستشيط غضبا ويغادر القاعة مع وزير ماليته تيري بريتون ووزير خارجيته فيليب دوزت بلازي ، سيما وأن رجل الأعمال أصر على استعمال الإنجليزية بدعوى أنها ” لغة البزنيس “.
ولم يكن هذا الرفض الصارم من شيراك نابع من جهله للغة شكسبير ، وبالتالي من عدم استيعابه لفحوى الخطاب ، فهو يجيد هذه اللغة ، فقد درس في الولايات المتحدة الأمريكية .
ولقد بلغ الدهاء ” اللغوي ” بهذا الرئيس درجة أقصى من ذلك (وهي أقسى علينا نحن أهل الضاد !) ف ” في الأمم المتحدة حيث الحوار باللغة الإنجليزية ، تظاهر بأنه لم يفهم بعض الأسئلة التي وجهت إليه باللغة الإنجليزية ، فقام توني بلير الذي يجيد الفرنسية كأحد أبنائها بالترجمة له ” .
*النموذج السابع:
وإذا كان هذا ” الشموخ اللغوي ” علامة فارقة ميزت طبيعة التعاطي مع اللغة الأم لدى هذا الرئيس (وهو نبراس للآخرين) ، فأبدا ، لم يكن حكرا عليه أو على غيره من المسؤولين ، ولانيشان استحقاق استأثروا به ليوشحوا به صدورهم دون سائرالرعية ،وأكيد أن القوم هناك – قمما وقواعد ، رؤساء ومرؤوسين – على قلب رجل واحد ، وهم في خندق واحد – يتفانون ذبا و ذيادا عن حياض اللغة ، وإليكم بيان ذلك :
إذا كنت في زيارة لإحدى الدول الأوروبية ، وكنت مضطرا للإحتكاك بالمواطن هناك ، وكنت مجبرا لمخاطبته لأي سبب من الأسباب ، فلن يتم ذلك إلا بلغته المحلية ، وإذا اضطرهذا المواطن لاستعمال لغة أخرى غير لغته الأم ، فإنه يتظاهربعدم قدرته على استعمال كلماتها استعمالا صحيحا عساك أن تخلص إلى الإنطباع بأنها لغة ركيكة متخلفة عن ركب الحضارة ، وبالتالي فالأجدر بك هجرانها والإنسلاخ منها …
وانسجاما مع هذا المعطى، واستنادا إلى نفس القصاصات الإخبارية الواردة من ” القارة الخضراء ” وأعني بها أوروبا فإن القوم هناك – سيما في فرنسا وإسبانيا- قد طفقوا يؤسسون لمشروع ضخم يضاهي في أهميته ” الثورة الصناعية ” التي غيرت وجه أوروبا ، ويتعلق الأمر يتنقية اللغة الأم الفرنسية والإسبانية من كل الكلمات والمصطلحات الدخيلة…ومن كل الشوائب التي من شأنها أن تشين اللسان وتجعل الكلام يرك ركة (أوركاكة ) فتعلوه رتابة على مستوى الشكل والمبنى وتتداعى صياغته…
*النموذج الثامن:
ونفس الشيء ينسحب على جمهرة الأدباء والمفكرين الإنجليز والأمريكان حتى، فلم يقو هؤلاء على البقاء في معزل وفي منأى عن هذا ” المناخ اللغوي ” الضارب في أعماق الأنفة والإباء ، فإذا تعلق الأمر بإلقاء محاضرة أو إدارة ندوة أو أي نشاط من هذا القبيل ، فلسان الأحلام الذي يلوح متوهجا في الأفق و” لا يبغون عنه حولا ” ،والذي يستلب الأفئدة ويستهوي العقول والألباب ويستأثربالإهتمام هو لغة شكسبيروميلتون وأوستون…وجيمس سلك بكنغهام…
*النموذج التاسع:
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة هي” عجب من العجب “، وهي قصة واقعية ، لكن عند قراءتها ، ونظرا إلى غرابتها يتهيأ لنا أننا إزاء قصة من الأساطير القديمة ، أو قصة من الخيال العلمي ، وقد استقيناها من محاضرة تحت عنوان : ” أيها التائه قف ” للشيخ العلامة المحدث ” أبو إسحاق الحويني ” حفظه الله ، وقد ألقاها في ألمانيا ، يقول الشيخ :
” أنا لقيت رجلا من علماء طجكستان في مكة سنة 1996 ، هذا الرجل كان سنه فوق التسعين ، وكان معه مجموعة من تلاميذه ، وجرى ذكر ما فعله الروس في المسلمين ، كانوا يقتلون علماءهم..، فأنا سألت بعض تلاميذه الذي كان يتكلم ، قلت له إذا كان الروس يقتلون علماء المسلمين كيف نجا هذا ، فسأله هذا السؤال فتكلم الرجل وكان كلامه عجبا من العجب ،هذا الرجل ، يا إخواني ، رضي بالحبس الإختياري ستين سنة ، لم يقبض عليه ولم يوضع في السجن ، كيف ذلك ? لما رأى هذه الهجمة على علماء المسلمين وخشي أن تجف منابع اللغة ، وهي المدخل إلى القرآن والسنة ، عزم بينه وبين نفسه أن يكون جنديا يحمل هم الإسلام ، فكان يتفق مع أهل قرية ما أنه سيدخل هذه القرية يستأجرون له بيتا ويظل فيه شهرا أو شهرين، سنة ، سنتين ، ثلاثة ، أربعة لايخرج من هذا البيت ولا يشعر به أحد ، وبالليل أهل القرية يسربون إليه الأطفال ، يعلمهم العربية ويحفظهم القرآن والسنة ، فإذا قضى مهمته في هذه القرية بعد سنة أو سنتين يتفق مع أهل قرية أخرى ، ويتخذ الليل جملا ويمشي بالليل ويدخل هذه القرية فيحبس نفسه اختيارا في بيت من هذه البيوت ، ويعلم أطفال القرية اللغة والقرآن والسنة ، فإذا قضى مهمته ، ذهب إلى قرية أخرى ، وهكذا قضى ستين سنة من عمره..، لو عندنا مائة من هذا لفتحنا الدنيا ، لأنه كان يحمل هما ، لم ينظر إلى مجده الشخصي ، إنما كان ينظر إلى محنة أمته ، لهذا هان عليه أن يحبس نفسه في حين يستمتع فيه الملايين بالحياة ، ولا يفعل هذا إلا الحب..، الحب هو الذي يفعل هذا ، والحب مركب لا يضل راكبه ، ولا يرى المرء مع الحب مشقة ” صدقت ياشيخ ، وما أبلغ قول ” سمنون المحب ” وهو أحد المجيدين في الكلام عن الحب :
ولو قيل طأ في النار أعلم أنه رضى لك أو مدن لنا من وصالكا
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها سرورا لأني قد خطرت ببـــــالكا