أسنى المقالات في تقويم فتوى المقاولات
هوية بريس – أبو المواهب الروداني
بينما أهل الإسلام يتلمسون سبيلهم ويرسمون معالم طريقهم في كسب الاستقلال الفكري والمعرفي في شأن وضع المصطلحات وتفسير الظواهر والأحداث التاريخية وكل مايجب عليهم أن يتولوا أمر بيانه وإظهار حقيقة أمره وفق عقيدتهم وما تفرع عنها من معارف فقهية وأصولية وشرعية لغةٍ وشرعية إنسانيةٍ، وما في حكم ذلك، فوجئوا بهاجس تغلغل الهيومانية ذات اللون الغربي المميز بمركزية الإنسان بإطلاق في شأنهم الفقهي تأصيلا وتعليلا، وذلك بواسطة قناة المقاصد الشرعية وجسر رعاية المصالح ودرء المفاسد من غير احتفال بالحقائق التي تحدد بها هذه الأسس وتفسر بها عند أهل هذه الملة وهو ماتجده عند العلمانيين صارخًا أسود الصورة قاتم اللون والحال.
وتغلغل هذه اللوثة الغربية في عقول من يخوضون في الشأن الفقهي وأمر الفتوى قد يكون حاصلا من سبيل الاحتكاك بثقافة الغرب المسيطرة بمزاج نفسي معد لقبولها من غير التفات إلى خيرها وثمراتها، ويتأكد ذلك بتكرار مايكون عنها من مبادئ فلسفية -مثل الإنسانية تخدم بكل شيء وما أشبهه، فهو يجعل الإنسان مركز كل شيء- على الآذان والأسماع بلا ملل.
ويخشى أن تكون من آثار هذا الحال فتوى تحليل الربا للسكن اتكالا على رغبة سوغت بدعوى الحاجة المنزلة منزلة الضرورة وباختيار للجويني في “الغياثي”، وما جرى مجرى هذه الفتوى مما هو من جنسها.
كما لايبعد من هذا الشأن ماجنح إليه من يرى أن مايسمى عند أربابه بقروض المقاولات الصغرى مباح، لأنه رأيٌ كُسرت به معالم كثيرة فقهية يهتدي بها أرباب النظر الفقهي باطراد، واتفاق، ومن ذلك:
أولا: جعل المناط المنصوص عليه أساس الحكم في موضوعه كما هو مبين في مسالك العلة، ولايطلب استنباط علة أخرى على الإطلاق في ذلك مادام النص قد تقرر به ماذُكر، والذي جاء في تعليل هذا الحكم عند أربابه –الإباحة- هو أنه لاربح في هذه المعاملة، وهو ماليس المناط المنصوص عليه في هذا الموضوع، وهو ما لايعني الفقيه أمره وُجد أو عدم لأن المنصوص عليه علة في هذا الموضوع هو المنفعة “كلُّ قرض جرّ نفعًا…”، ولايخفى مافي هذا من التبديل ومن تخطي مايعتبر انتهاكه خطيرًا، وهو احترام المناط المنصوص عليه وجعله بمثابة الحكم الشرعي الثابت بالنص ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [سورة النور آية 61]، وهذا الانتهاك أعظم خطرًا من هذا الحكم الإباحي نفسه لأنه يهدم أصلا مجمعًا عليه، والحكم دونه مرتبة لأنه فرع فقط، وهدمه ليس كهدم الأصل إطلاقا، وإن كان الكل عظيما شأنه.
وإذا علم هذا تقرر به أن هذا الضرب من الفتاوى الخلل الأعظم فيها هو كونها من الصنف الذي تهدم به المعالم الفقهية التي عليها مدار النظر عند علماء الشريعة في بناء الأحكام.
وكونها تصرف فيها الأنظار عما يجب اعتباره إلى ما سواه مما يوقع في الزيغ والضلالة في النظر، وهذا الانتهاك نموذج لذلك.
ولا يبعد هذا التصرف دالا على غلبة القول العرفي -الربح- على عقل صاحبه دون المعنى الشرعي -المنفعة- وأهل هذا الحال من أهل الفقه كثيرون، وهو حال يقضي بالبعد عن التكوين الفقهي المطلوب.
هذا بإبجاز مايتعلق بشأن التبديل.
ثانيا: عدم الاستهداء بالحقيقة الشرعية في مجاري بناء هذا الحكم، فلم يذكر حقيقة الربا من تصانيف أهل الفقه حتى يعلم مايجب أن يمضي عليه في ذلك، وهو أمر أصلي لا مفر منه، بل بادر إلى وضع حقيقة للربا ساذجة “الربا معاملة ربحية” تدل على أن واضعها لم يكن على دراية بطريقة وضع المصطلحات الفقهية والتي تُلم أطرافها من الوضع الشرعي مع ضميمة تحقق شروط وزوال منافع لاتتم الحقيقة الفقهية إلا بها.
ثالثا: عدم اعتبار وضع الموضوع –الربا- في النظر الشرعي وهو وضع تشييدي فصار إلى تسويته بغيره مما له وضع آخر مناقض له -التخفيف- في ميزان الشرع، وهذا باب عظيم في الفقه بحيث على طالب الفقه ألا يغفل عنه.
رابعًا: الإحالة على مبهم -الزيادة المغتفرة- تعتوره النسبية، وهو مع بطلانه أصلا أمر مجهول لو فرض أنه مناط فقهي معتبر وهو ما لايخفى فساده عند كل من شدا طرفا من علم الأصول.
خامسًا: الخلط بين فتوى العزيمة والرخصة، فتارة يعلل بالتفاهة فيكون الحكم عزيمة، وتارة يعلل بالضرورة فيكون رخصة، وهذا تخبط، ودليل على ضعف الدراية الفقهية وفقد امتلاك أزمة هذه الصناعة.
سادسًا: التعليل بالتفاهة وهو فرع عن التسوية الفاسدة بين مالهما وضعان مختلفان في ميزان الشرع –اللقطة والربا-.
سابعًا: فتح باب تعليل الربا بدفع الضرر عن الدائن، وهذا باب لو فتح ما عدم وجه ما تقع به هذه الحلية، فالتضخم فوات ربح المال للتاجر الذي يتجر به المأخوذ بالقرض وما شابه ذلك مما يحقق هذه الحلية…
ثامنا: إلحاق حكم القرض هذا ببعض الأحكام الفقهية التي عمل فيها بقاعدة التغليب، وهذا خطأ آخر منهجي، فإن وضع القرض في الشرع مخالف لوضع البيع الذي الغاية منه الكسب بخلاف القرض الذي أصله وغايته الإحسان الذي يمنع أن يكون عنه نفع مطلقا، وبذلك لايوجد في مسائله هذا الاستثناء الذي في باب البيع، ولم يعمل الفقهاء فيه قاعدة التغليب إطلاقا، بل اعتبروا مطلق المنفعة فيه حالا ومآلا أمرا موجبا للتحريم والمنع.
وهذا يوجب علينا مرة أخرى استصحاب وضع الموضوع الفقهي في سائر مباحثه وبناء الأحكام فيه.
فإن قال قائل: يجب أن يترفّع عن مثل هذا النقد لما يتضمنه من نسبة نظر معين إلى الاعتراف بالهيومانية الطاغية في هذا الزمان وأن هذا الضرب من النظر الفقهي جسر لهذه الهيومانية، يقال: إن هذا طافٍ في ذلك؛ وأن هذا إن كان مجرد هاجس يجب أن يبين عدمه بالدليل والبرهان لا بالإنكار المجرد، وإلا فبما يفسر هذا النزوع إلى اعتبار حظوظ الناس مع غير التفات إلى الحدود الموضوعة شرعًا في مواقعها.
هذا كلام موزون بميزان العلم. والحق أن أغلب من سمع الفتاوى المشار إليها ممن عرفنا فيه بقية ورع وتقوى وتلمسا لسبيل النجاة وتنزها عن مواقع الاشتباه والزلل وبراءة من الهوى والغرض خلفت لديه الفتوى حوكا في النفس. وأخشى أن يكون إخواننا تحت ضغط معين يفسر هذا التخبط في منطق فتواهم وهذا التيه عن بديهيات تأصيلية تقعيدية وإن كان لايبررها،