أفكار في أوكار: «تحولات الجحش الذهبي»
ذ. أنس بوابرين
هوية بريس – الثلاثاء 22 دجنبر 2015
يشهد التاريخ والواقع والخبر، أن العلماني كانت له دوما صورتان ؛صورة هي التي تبدو في مرآة الفكر، وتطل من الشاشات، وتلوح في المؤتمرات، والندوات، ونوادي الحوارات، وصورة هي التي يراها من بصره الله بنور الوحي، وهي هاتيك الأفكار المارقة، التي تخر من أبراج متهاوية، تتلقفها شاشات متهالكة، مادتها نزق، أفكار في أوكار، وظلمات تموج برغم زيف الأنوار، عقول هي بالمواخير أشبه، تلك العقول الوثنية التي تستوطنها أفكار اللاهوتية التانتية واليكوشية، التي تختزن في ماخورها -أقصد ذاكرتها- مغامرات الجحش الذهبي، وذلك كل ما وجدناه بعد إحصاء ممتلكات العلماني الهمجي.
لقد كان العلماني تاريخا وحاضرا، يلقي بسهام مسمومة في مجتمعنا الآمن الذي يعيش فيه الناس إخوانا أحرارا، في ظل دين يرعى لكل ذي حق حقه، وتحت سلطان يحبهم ويحبونه، ولغة سامية بها نزل أجل كتاب وأعظمه.
وبعيدا عن التأصيل والمنهج العلمي الذي لا يليق إلا بمن يحمل فكرا عميقا، أقول: ألا أخرص الله لسانا يلمزك سيدي يا رسول الله! أويلمز رسالة الهدى التي إذا قرأها المنصفون صلوا عليك وسلموا تسليما، وإذا سمعها القندس وخلانه، تعرف في وجههم المنكر، يكادون يسطون بالذين يتلونها عليهم.. وتستمر مغامرة الجحش الذهبي ليسب المغاربة -على بكرة أبيهم – مسبة لم يجرؤ أحد على قول مثلها لهم، أيقال لكم يا بني الدين والوطن (إن إسلامكم سبب تخلفكم)!، أترضون أن يقال لكم بوقاحة: ( إن العقل المغربي كان مختلا) !؟، ألا أبلغ ذاك الأبله أن المغاربة سادة، أمة وقادة.
كأنك بعــرة في إست كبش***مدلدلة وذاك الكبش يمشي
هل هي ملامح التعبئة النفسية للانقلاب على الدين والوطن، بدعوى حرية المعتقد وحرية الفكر؟، كيف يقال: إن الأنظمة القائمة استعملت الدين لتعويض الشرعية المفتقدة! أليست إمارة المؤمنين قائمة على أصل الدين؟، أليس المغاربة يبايعون على السمع والطاعة امتثالا لأوامر الدين؟ قل للأبله :إن الشرعية متعمقة في جذور التاريخ، خلفا عن سلف، كانت طاعة وطواعية وتكون، ملك يحب شعبه وشعب يحب ملكه، فليزدد المتهوكون غيظا إلى غيظهم، فما في هذا البلد شرعية فقدت إلا عقل هذا المخبول. وبعنجهية تستمر (مغامرة الجحش الذهبي)، ليلمز أكبر مؤسسة دينية في المغرب وهي المجلس الأعلى الذي يرأسه أمير المؤمنين، لأنه اكتشف-بزعمه- أن هذا المجلس (وهو مؤسسة الأكابر من العلماء)، يفكر بتفكير القرون الوسطى كذا قال.. فبمن يستقوي من يهين الدولة ودينها ومؤسساتها؟ ويسب المغاربة سبا لم يسمعوا مثله زمنا من الأزمان؟ ألم يجد أبرهة من يصده عن هذه الغثائية! ويمينا برَّة، أشعر بأشد من الغثيان وأنا أسمع ذاك الصوت الذي شُكلت مقاطعه في قمامة يونان، وماكنت لأسمع لولا الضرورة، ولابأس عند الضرورات أن يؤتى الكنيف! فإذا لاح المعتوه في شاشة هتف في نفسي خاطر أن هذا الماثل لو قال للعفونة: “يا أنا”، صدق ورب الكعبة، أتراه كيف يستأسد بكهنة الفتن وصناعها ليشوش على دين ودولة، يقول: (إن الهوية الوطنية ينبغي أن تقوم على الانتماء إلى الأرض)، ألا أبلغ ذاك القندس أن المغاربة لا يبايعون أرضا بل يبايعون ملكا يسوس أمورهم، لأنهم يتعالون عن المعاني الترابية إلى معاني الكرامة بحق، وأما اللئيم فهو ساع ليبقي للظلمات تاريخا، يغيظه أن الحضارة قامت يوم أشرقت شمس الإسلام سراجا منيرا، فلله درك يا ابن العاص، ولله درك يا ابن نافع، ولا در لمن لا كرامة له.
لكن أنى يرى الشمس خفاش يلاحظها***والشمس تبهر أبصار الخفافيش
سعدانُ.. أيها القرد فاقد الصورة البهية، والطلعة السَّنية، مالك وللمرأة! إنما تنتدب المرأة رجلا كامل العقل والمروءة، استنار بقبس القرآن، وأما من كان مقيدا بسلاسل الطفولة على حد تعبير مسيو جومار1، فليدافع عن الدمى الوثنية، ومتى ضايقه هذا البلاغ القرآني وأمثاله:{للذكر مثل حظ الأنثيين} فلايُتعب حاله لأنه غير معني، إذ هذه للمسلمين من معشر الآدميين، وأما في مملكة القرود، حيث هو ثَم، فله مثل حظ أنيسة؛ سهم بسهم، فإن عالت المسألة، فللمساواة في عالم “اليكوشية” صور، كما للمسخ صور.. قبح الله المسخ كله. ولكأني بالقرد حيث هو قرد، يستنكف عن مثل هذا التشبيه، فإن القرود مسخت في الزمان والمكان مرة، وعصابة المأفونين تمسخ في كل جغرافية وفي كل تاريخ ألف مرة، وفي كل مرة لا تسلم الجرة. ولعمري من أعار فطرته، وكبس نور عقله، وتجرأ على المقدسات بلا احتشام، أضحى قردا نزِقاً بلا احترام.
إن تلك الأصوات الصاخبة التي تروم تحويل المجتمعات صورا ممسوخة النواميس، منكوسة الأفكار، تنتحر فيها المقدسات والقيم، ليست في النهاية إلا همجية شاخصة، لا يهديها وحي، ولا يردها قلم، لأن الصراع مع نصوص الوحي من لدن تلك العصابة تاريخي نفسي، قائم على المغالبة لا على الفهم ومن ثم التسليم، مع أني أعتقد أن مبدأ التسليم هذا لا فكاك لأحد عنه، فمن مستسلم للنص المعصوم، ومن مستسلم لهوى في النفس معلوم، ومن مستسلم لفكرة أو مذهب أو نحلة، والمحصلة انقياد محتوم، فإما وثاقا بعد يحكم العقل والقلب، وإما ورود على أربح متجر، وأبهى منظر{والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}2 .
عجبا، فلم أر في الشقاء أردى من فئام خلقت في تقويم للجسم والعقل والفكر ما أجمله، وصبغة ما أحسنها، {ومن أحسن من الله صبغة}، ثم لم تفتأ أن اعتراها الضياع، فأضحى رأسمالها لصوصية وجرأة مقيتة، فما أعفنها تلك الجراحات الفكرية التي لا يرجى لها برء إلا بمراهم من ملح مالح على طريقة دبغ الجلود عندنا في مراكش، أو على طريقة أهل فاس أو حتى على طريقة الهنود المتطورة جدا؛ وهي طريقة فعالة لأصحاب الجلود الناعمة التي لا ينفك عنها النتن إلا بإلقاء لعاب الآدميين عليها، تماما كما يفعل كريم النفس بشاشة أو بمجلة أو بجريدة تطل في صفحتها الأولى من سرداب اللائكية المقيتة لتلحد في آية أو تشكك في نص صحيح صريح أو تسعى في تخريب وطن عزيز.. ولله في خلقه شؤون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) انظر جورجي زيدان “بناة النهضة العربية ” ص129.
2) سورة الزمر، آية:33.