تضيق الأرض على بعضنا ولا تكاد تتسع، يصير الصدر ضيّقا حرجا وكأنه ينفد من أقطار السماوات، ولم يكن هذا الضيق الذي يختلج الصدور ويطوي بُعد الأرض ذهابا وإيابا من قلة إيمان أو تدبدب انتساب إلى عظمة هذا الدين وحصنه الحصين، وإنّما طبيعة المواجهة وأدبيات المدافعة، والتقاء الصفوف وتمايز خطوط تماسها بين من نعتقد فيهم لزوم عتبة الحق وغيرهم ممن حاد عن سبيله، كلّها أمور تلزم الغيور بضيق وقدرة دثارها.
ولا شك أن هذا له سوالف مثال واعتبار، إذ هو من جنس ما حصل من ومع الأشراف الأوائل، رعيل القرآن وفضل الصحبة المطلق، وهم يفزعون إلى السؤال الاستعجالي بمعية القائد والرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، وقد ترادف الضرب وقوي الحصار وتغوّل الكفر وتصوّل الباطل وكان السواد لأهله يوم الخندق، مصداقا لقوله جل جلاله “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب”.
ولا شك أنه سؤال لم يصدر ولا كان له أن يصدر عن قلوب متضجرة، أو ذوات صلتها بالله تدوربين الضعف والانقطاع، وقد علمنا أن السائلين المستشرفين لميقات النصر المستعجلين له هم نخبة من خلق الله تمشي على هدى من الله ورسوله.
إنه سؤال يشخص حجم المحنة ويصوّر ذوق البأساء ودرجة الضراء، ولقد أبلغ القرآن الكريم في تصوير هذه الحادثة التي طارت من هولها القلوب المنيبة المتوكلة الصادقة في إيمانها حتى بلغت الحناجر وأدخل الزلزال النفسي أصحابه أتون ما عبر عنه بظن الظنون بالله العزيز الحكيم مصداقا لقوله تعالى:”إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا“.
ولا شك أن العود إلى هذه اللحظات الساخنة من تاريخ الأمة هو عود وسوق محمود، من جهة قدرته على فتح آفاق المقارنة بين ضيق اليوم وقدرة الأمس، ثم العطف على هذه المقارنة باستخلاص الدروس والعبر وما آلت إليه الأمور في ذلك الماضي التليد من ملمح ومنعطف انقلبت فيه الهزيمة إلى انتصار عمّر في الأرض طويلا، وعاشت في كنفه الإنسانيةمظهر الحضارة، وتذوّقت في حضنه البشرية المعاني السامية للعدل والرفق والإحسان والتحرر المستبدل لوجهة الاستعباد من استبداد العباد إلى عبودية رب العباد.
إنّها لحظات ومحطات حري بنا أن نسوق الأجيال في وجهتها وصوبها ليقفوا على أن الجواب الرباني في كل مرة من تلك اللحظات والمحطات على ذلك السؤال الاستعجالي متى ما حصل لم يطل ولم تبعد به الشقة وإنّما كان ميلاده واستهلال صوته مفصولا ومرهونا بإيجاد شروطه وتحقق ضوابطه، وقد كان يومها بل في كل يوم وحين جوابا واضحا صريحا منطوقا لا لبس فيه ولا غموض يتنفس استدراكه القرب القريب مصداقا لقوله جل جلاله “ألا إن نصر الله قريب”.
كما أنه ليس بالجواب المنقطع المخصوص بزمانه المحصور في أهله الأوائل، وإنّما هو حق وتفضل يتأتى لمن حقق واجباته عدلا واستطاع أن يقيم بيئة ومناخا صحيحا سليما لاستقبال بشارته المرهونة بشرط الجزاء الوفاق على نحو مشروط مطرد القواعد مستمد من قوله تعالى: “إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”.
ولا جرم أن هذا العود أوبالأحرى هذا السوق من شأنه أن يجعل أجيالنا تقف على أسباب الهزيمة بشتى أنواعها ودركاتها، كما يجعلها صائبة منصفة في تنزيل لوازم اللوموالتسخط ونسبته إلى أسبابه الحقيقية وأهله الحقيقيين، وتلك ولا ريب بداية السير ومستهل الرمي الصائب، فإن التجارب والأمثلة التاريخية أشّرت في غير ما مرة على مسلّمة أن الصحة الحضارية والتمكين التاريخي يضيعان ويصيران أثرا بعد عين عندما يفقد المكوّن البشري بوصلة التحرك ونور الهدي المُعين على السعيوالإدلاج ليلا، وما أحلك ظلمة ليالينا وما أطول أيام غاسقنا وما أترف شروره المعاصرة؟!
وليس الالتفات بهذا الاستفهام أو التعجب هو التفات نرمي من خلاله إلى النفخ في رماد الإغراق أو الزيادة في منسوب التوهينوالتيئيس، وإنّما هو التفات لا نملك بعد الإقرار بوجود معالم ظلامه وشرور غاسقه، اللهمّ دعوة المكوّن البشري للأمة من الثبات في وجه هذا الظلام ومدافعة وطاويطه، إذ يُعد الثبات والعض بالنواجذ على عرى الإيمان عربون نصر ومقدمة تمكين يستعجل بزوغ فجر صادق، ربما لا نملك اليوم مقومات العيش تحت أشعته النورانية الكاشفة، ذلك أنه من العبث أن تنتصر أمة ما انتصارا لا تملك مؤهلات حمل لوائه طويلا، إذ كل القرائن اليوم تمشي في اتجاه عجزنا عن المحافظة عليه لدقائق معدودات، بل تمشي في رجحان فقده قبل وهم تذوقه وعيش نتائجه الطيبة المباركة.
ولذلك كان منشود الثبات ومجرد تحقيق أمل وبغية الوقوف بغير كر أو فر في وجه هذا الظلام، هو التزام مسؤول، وواجب يتحرك بحكمة في صوب نوال الحق المنشود والمعلّق بوعد الله تحقيقا وتخبيرا من جنس ذلك المتواتر القطعي المقدس الذي مفاده قول الحق جل في علاه “والعاقبة للمتقين” وقوله تعالى “ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لمنصورون”، وقوله سبحانه “وإن جندنا لهم الغالبون”، ووعده جل جلاله “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض”.
إنها آيات ووعود سماوية تحيل بالمنطوق والتوكيد على كُنه ذلك السؤال الاستعجالي وعلاقته التلازمية بتلك الإجابة المسعفة والرافعة للحرج والمبددة لما خالج ولا يزال يخالج الناس حتى يومنا هذا، ويدفعهم ليظنوا بالله الظنون، كما أنها آيات لم تستضمر أو تُكني أو تلمح إلى مشروط العاقبة ومناط تحقق النصر والغلبة والاستخلاف في الأرض، فكلها ثمرات جاءت مقيّدة بالتقوى والتصريح بالنسبة إلى الرب وشهر الإيمان وإعلان شعائر العمل الصالح، وهي صفات مانعة من شأنها أن تضعنا على نسيج واحد من المكانة والاعتبار الفردي ابتداء في مواجهة قساوة ذلك الظلام وأهله وصُنّاعه ومريديه من المفسدين باسم الإصلاح في دائرة الضلال المبين وفقدان الشعور بذوق التلبس به وبصلادة الدفاع المستميت عن أركانهمصداقا لقوله تعالى:”وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون”.
وهؤلاء شردمة قليلون ولكن عملهم الدؤوب المسترسل لا يزال يصنع ذلك الظلام ويركم بعضه على بعض، بل يغمس في بحر شبهاته وأمواج شهواته الكثير من الضحايا والهلكى من جنس ونوع من إذا أخرجوا يد الاستصراخ والاستنصار لا يكادون يتلمسون نورا، بله لا يكادون يرون هذه اليد المُخْرجة، “ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور”.
إن تدبير أزمتنا تتلخص في عيش الظلام بإيمان راسخ وثبات مبهر قوي ومدافعة أهله بالحسنى، ومسابقتهم إلى نواصي الناس لملئها بإسلام الوحي وعقيدته الصافية النقية، ومن ثم ربط الناس بربهم وتوثيق علاقتهم به في سياق واحد لا إقعاد فيه ولا اعوجاج، وتلك ولا شك رسالة المصلحين من العلماء والدعاة والخطباء والأدباء والشعراء والسياسيين إن جاز العطف بهم في هذا الخصوص.
إنها رسالة تنقية المناخ من الشوائب وتطهير النفوس وإخراج كيرها والزيادة في حجم ماء فطرتها فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث.
إنها رسالة صناعة المناخ والبيئة البالغة نصاب استقبال ضوء النهار وعودة الحياة والصحة والعافية لهذه الأمة الموصولة بالله.
إنها رسالة يجب ألا تستعجل إسفار النهار على غفلة ونوم عميق ومرض عضال مستشر ومستوعب لكياننا البشري على اختلاف مستوياته، وكلها أمور تأباها حركة النهار ومعاشيته وشروط النصر ومقتضياته.
إنها رسالة تعيد الاعتبار إلى قضية تحوير الأسماء وتحرير المصطلحات في أذهان الأجيال حتى لا تُصاب بعمى الألوان فيختلط عندها الفساد والإفساد بالصلاح والإصلاح، والفاسد المفسد بالصالح المصلح، فتخوّن الأمناء، وتستأمن الخونة، وتكذب الصادقين وتصدق الكاذبين.
إنها رسالة تناور من أجل وضع أو إعادة الوهج إلى مفهوم القدوة وإدراجها في مشروع التربية والتخليق، ولا شك أنها حاجة صارت تبعد وتحيد عن قبلة الأجيال ومهوى نفوسهم في ظل إعلام ظلامي بئيس يقدم ويمرر مشاريع الفساد وأسماء المفسدين باسم الصلاح وأسماء المصلحين.
سلمت يداك أستاذنا بوقنطار.