أوريد: لن تندثر اللغة العربية ما دام القرآن الكريم قائماً
هوية بريس- متابعة
كتب حسن أوريد، المفكر والأديب المغربي، مقالا على صحيفة “عربي بوست”، عنونه بعنوان “هل اللغة العربية مهددة بالاندثار؟”.
وجاء هذا المقال كتفاعل مع مقال نشرته جريدة “ذي إيكونوميست” البريطانية، اعتبرت فيه أن “اللغة العربية مهددة بالاندثار”.
ويخلص أوريد، في مقاله، إلى أنه “لكَم نعى الناعون اللغة العربية، ثم انتفضت وزال “الموت والكفن”، كما في قول المتنبي، لأن لها بيتاً تأوي إليه، وهو القرآن الكريم. ولن تندثر اللغة العربية، ما دام القرآن الكريم قائماً”.
وفيما يلي نص المقال كاملا، كما نشره الدكتور أوريد في “عربي بوست”:
“نشرت مجلة ذي إيكونوميست البريطانية مقالاً في سبتمبر/أيلول الماضي عن اللغة العربية، اعتبرت فيه أن اللغة التي يتخاطب بها نظرياً زهاء 400 مليون شخص، مهددة بالاندثار. واستشهد صاحب المقال بضعف إتقان المتعلمين للّغة العربية، وغلبة الإنجليزية في التخاطب بين الفئات العليا، والتعلم باللغات الأجنبية لدى شرائح واسعة، وتأثر لغة التخاطب بمعجم اللهجات لدى الفئات الأقل تعليماً. بيد أن ما زاد الطين بلة، هو الثورة الرقمية، والميل أحياناً إلى رسم اللغة العربية بحروف لاتينية. ويخلُص صاحب المقال، استناداً إلى شهادات متابعين للموضوع، إلى أن اللغة العربية مهددة بالاندثار.
لا يمكن عملياً أن نأخذ بما ورد في مقال من خلال انطباعات، أو حتى شهادات، ونعتبرَه حقيقة علمية، ولا يمكن في الوقت ذاته أن نضرب به عرض الحائط، إذ تعرف اللغة العربية وضعاً مزدوجاً، أولاً من حيث الشيوع والانتشار عددياً، فلم يسبق أن عرفت اللغة العربية الذيوع الذي عرفته في غضون السنوات الخمسين المنصرمة، بفضل التعليم ووسائل الإعلام، والثورة المعلوماتية، والقنوات التلفازية العربية، حتى من مؤسسات إعلامية غير عربية (بي بي سي، فرانس 24، روسيا اليوم، TRT التركية…) مع ظهور لغة وسيطة تتيح التواصل ما بين مغربي ومشرقي، والمتعلم وغير المتعلم، وهو ما لم يكن متاحاً قبل أجيال إلا للذين يتقنون اللغة العربية الفصيحة أو الفُصحى.
بيد أن هذا التطور واكبه اندحار مستوى اللغة العربية، من حيث احترام قواعد اللغة، وسلامة التعبير، ودقة المصطلح، وهنا مكمن الخطورة أو مربط الفرس، فقلما يتم احترام قواعد اللغة العربية من الشريحة التي من المفترض أن تكون المؤتمنة عليها، وأولها شريحة المتأدبين من الكُتاب والشعراء، إذ هم من يحملون لواء اللغة، وينقلون مشعلها من جيل لجيل، وهم حلقة من سلسلة، تمتد في الزمان والمكان، وقد اعتُبر لفترة أن التطور والحداثة هما تقويض لبناء اللغة، أو تعنيفها، كما في تعبير الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارث. والغالب أن من كانوا يدعون إلى نسف “البيت العتيق”، هم ممن لا يملكون ناصيتها، فيتحايلون على العجز بزعم التطور والثورية. ومن حملة اللغة جمهرة الإعلاميين، ولا يخفى تأثير هذه الشريحة في انتشار اللغة العربية، وتأثيرها على أصحاب القرار والجماهير العريضة على السواء، وقد أسهمت هذه الشريحة لفترة مع إذاعة بي بي سي البريطانية في نشر اللغة العربية، والحفاظ على سلامتها.. كانت شريحة الإعلاميين حريصة كل الحرص على احترام قواعد اللغة، وحمْل المستمعين على ذلك، أما اليوم فشريحة الإعلاميين هي من ينشر الخطأ (كالقول الجاري: دان، عوض أدان). وسرت في الإعلام ظاهرة الترجمة الحرفية من الإنجليزية غالباً، والفرنسية بدرجة أقل، وبالأخص في الوكالات الإعلامية، وهو الأمر الذي يؤثر على بنية اللغة، حيث يستعصي الفهم على القارئ، وقد يضطر المتلقي ممن يحسن لغة أجنبية أن يرُد النص العربي إلى أصله المترجم عسى أن يتأتّى له الفهم. أما الجامعيون من غير كليات الآداب، فيسود اللحن عندهم، وتستشري الركاكة، والخلط باللهجات، واللغات الأجنبية، بل حتى في الإملاء (فغالباً ما يخطئ المغاربة في رسم الثاء والتاء، كأن يكتب المتعلمون و”بثت” المحكمة، عوض “بتت”، والذال والدال، كما يخلطون “حذا”، و”حدا”، أو الغلط الجاري لدى بعض المصريين بين الذال والزاي، كأن يكتبوا “الإزاعة”، أو الدماء “الذكية”، أو لدى التونسيين فيما يخص حرف الظاء والضاد، كأن يكتبوا نظام “فض” عوض “فظ”، أو خلط العراقيين ما بين الكاف والشين).
ثم يأتي رجال السياسة، ممن يُفترض منهم أن يحملوا اللغة لأنهم القدوة، لكن قلما تجد سياسياً أو قيادياً في العالم العربي يحسن العربية. ويتم التذرع عن هذا التقصير، أو العجز على الأصح، بواجب التبليغ وضرورة التواصل. ولا يُعتبر عدم امتلاك ناصية اللغة العربية من لدن القائد العربي أو السياسي عيباً يزري بصاحبه، كلا!
وتغلب الأخطاء حتى حينما يُقدم كثير من القادة على إلقاء خطب مكتوبة، فيلحنون، ويسيئون للمعنى، ومما يتندر به المهتمون باللغة العربية كيف نطق زعيم بالآية (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) محرفا الذِّكر، بما لا يستطيع أي عفيف أن ينطق به، أو ما سمعته مرة من أمين عام للجامعة العربية: (لقد أضحت بغداد قُبلة بضم القاف، عوضاً عن كسرها). وهذه الأخطاء وما شابهها في خطب السياسيين كالبحر، فحدّث ولا حرج.
لسنا نتحدث عن اللغة بكونها لغة تخاطب فحسب، بل بكونها حاملة ذاكرة ووجدان، ومن ثم روح.
فلئن اندثرت اللغة العربية كما أوحى صاحب المقال، فلسوف يُطوّح ذلك بحامليها، ويرهن أي دور حضاري يمكن أن يضطلعوا به.
يتوجب من وجهة نظري تحديد طبيعة اللغة العربية؛ لأن الحكم على الشيء جزء من تصوره، كما يقول المناطقة.
وأول الأشياء هو التفكير في وضع اللغة العربية، لا بصفتها لغة قومية لأقوام، أو لدول، بل في كونها لغة حضارية، كتب بها العربي وغير العربي. وضع اللغة العربية يختلف عن كثير من اللغات المتداولة؛ لأنها ليست مجرد لغة قومية، ولكن لغة حضارية، ويشبه وضعها وضع الإنجليزية حالياً، أو الصينية. لا مراء أن اللغة العربية لغة قومية لدول عدة، وشرائح عريضة في العالم العربي، ولكن وضعها يتجاوز وضع لغة قومية.
وثاني الأمرين أن اللغة لا توجد في ذاتها، ولكن من خلال مستعمليها. هي تَحيا من خلالهم، وتنبعث بإبداعهم، وتضوي حين يسيئون لها، في المبنى أو ما يسمى عبقرية اللغة، أو حين يثلمون قواعدها. فوضع اللغة العربية لا ينصرف لماضيها، مهما كان مشرقاً، ولا لمعجمها الثاوي في المعاجم، ولا لعدد افتراضي من المتحدثين بها، ولكن بالأساس لواقع الحال، وواقع الحال أن اللغة العربية تظل لغة وجدان، وبدرجة أعلى لغة بيان، مع ما يكتنف ذلك من نقص (لغة صحافة وأدب)، وتَحْسَر أن تكون لغة برهان (أي لغة الفكر)، وليست لغة عرفان (أو علم).
كل لغة تمارس نوعاً من الديكتاتورية، إذ لا يمكن أن نتصرف فيها كما نشاء. نتصرف في ظل قواعد صارمة، رغم ما قد يبدر من عيوب ظاهرة. فلا يُتصور من الإنجليزي مثلاً أن يستغني عن حروف غير منطوقة أو منطوقة بشكل مغاير لما يرِد في الرسم Tough، ولا بنية أفعال الماضي، ولا يبدي الفرنسي استعداداً لإعادة النظر في قواعد الإملاء العسيرة، وغير المنطقية، ولذلك لا يمكن أن نتيح لأنفسنا في دائرة اللغة العربية الحرية المطلقة للتصرف في قواعد اللغة العربية؛ لأن “الديكتاتورية” التي تمارسها اللغة، هي ما يتيح الصلة بين الأجيال في الزمان والتواصل في المكان. هذه “الديكتاتورية” هي ما يجعل قارئاً اليوم باللغة العربية يقرأ “كليلة ودمنة” ويفهمها من غير عنَتٍ، وهي ما يتيح التواصل في أرجاء متباعدة.
ارتأى البعض الاستغناء عن اللغة العربية جملة وتفصيلاً، وهي رؤية تبني على ما جرى في أوروبا من خلال تبني اللغات القومية (أو في الحقيقة لغات محلية أضحت قومية)، وهي مقارنة غير صائبة؛ لأن وضع اللغة العربية هو أشبه ما يكون بلغة الماندرين الصينية، وهي المقارنة الممكنة، وفضلاً عن ذلك فخطر اللهجات أكبر من عيوب واقع اللغة العربية حالياً، إذ من شأنها أن تمحق الصلة بتراث غني، يحمل نسغ حضارة فريدة.
اللغات تتطور، واللغة العربية تطورت عبر التاريخ، من دون أن تجافي عبقريتها. تطورت في المعجم، وتحللت من الوحشي من اللفظ، وتطورت حتى في الرسم، ولا يمكن أن يشمل هذا التطور قواعد النحو والصرف، إذ لو تم ذلك لأتى على قواعد اللغة العربية.
تمارس اللغة إغراءً حين ترتبط بالحياة، ولذلك يتوجب تطوير تدريس اللغة العربية لكي ترتبط بالحياة، في الإعلام والمدرسة، حتى لا تكون مستهجنة ولا مُنفرة، ويتوجب من أجل ذلك تطوير عمل أكاديميات اللغة أو مجالس اللغة التي توقف نشاطها، كما يتوجب كذلك تحيين المعاجم، ولربما تبني التبويب عبر الترتيب الأبجدي للكلمة وليس من مادة الكلمة. ولا يمكن اليوم الارتكان لما كان القدماء يسمونه “المَلَكَة”، ولذلك يتوجب على الأقل في مستوى التعليم ضبط الكلمات بالشكل.
يعرف العالم العربي حملة من أجل الارتقاء باللغة العربية، من خلال جوائز أدبية، أو جمعيات تزعم الدفاع عن اللغة العربية، والطريف أن الجوائز تغلب عليها الذاتية والمحاباة، كما أن القيمين على تلك الجمعيات التي تزعم الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها، يخطئون في اللغة، أو معرفتُهم بها بضاعة مزجاة.
لكَم نعى الناعون اللغة العربية، ثم انتفضت وزال “الموت والكفن”، كما في قول المتنبي، لأن لها بيتاً تأوي إليه، وهو القرآن الكريم. ولن تندثر اللغة العربية، ما دام القرآن الكريم قائماً”.
(انتهى)