أول انتفاضة مغربية في سبيل القدس سنة 1929م
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
كتب الأستاذ الشهير محمد الفاسي -رحمه الله- هذا البحث، ونشره في مجلة دعوة الحق، عدد:5 السنة 22 شوال 1401-غشت 1981، ولأهميته ارتأيت إعادة نشره.
كتب سيادته:
“ليس من الصدف أن يكون المغرب ملكا وحكومة وشعبا من المناضلين المخلصين لقضية القدس، فذلك نابع من تشبثهم بالأخوة الإسلامية منذ دخل الإسلام أرضهم وآمنوا به وعملوا على نشره، وظلوا في كل أطوار تاريخهم يغارون عليه ويضحون في سبيله بكل عزيز، وما مواقفهم لصالح الإسلام والمسلمين بالأندلس وإفريقيا بخافية.
وبالنسبة للقدس بالذات فقد ثارت ثائرتهم على احتلال الصليبيين له، وبمجرد ما تزعم صلاح الدين حركة مقاومتهم، هبّ المغاربة وإن بعدت الشقة للإسهام في حرب التحرير، ومن المواقف المجيدة في تاريخ هذا التضامن الإسلامي مشاركتهم في حرب تحرير مصر من احتلال بونابرت لها.
أما اليوم فمنذ أن أعلن عهد بلفور الذي قضى بتمكين الصهيونيين من فلسطين والمغرب يتتبع باهتمام كبير حركة المقاومة التي يقوم بها أهل فلسطين ضد الغاصب الصهيوني، بل كان المغاربة أول من هبّ لنصرة فلسطين، مما تجلى في الحركة التي تزعمها ثلة من شباب فاس سنة 1929، وهذا ما أريد أن أتكلم عنه باختصار.
كان ذلك في صيف السنة المذكورة، وقد كنت طالبا بباريس، ورجعت لمسقط رأسي لقضاء العطلة وأنا مضطر لاستعمال ضمير المتكلم لأنني كنت المثير لهذه الحركة، وذلك أني رأيت يوما في الصفحة الأولى من الجريدة الفرنسية التي بدأت تصدر بفاس le courrier de fes، صورة لمسجد سيدنا عمر رضي الله عنه بالقدس مع خبر يقول أن اليهود بموافقة الأنجليز هدموا هذا المسجد الذي له في نفوس المسلمين حرمة كبيرة، فاغتظت لهذا النبإ وأخذتني ثورة في نفسي، وقلت لا بد أن أفعل شيئا أمام هذه الإهانة، وفكرت في القيام بكتابة عريضة احتجاج توقع من قبل أكبر عدد ممكن من المواطنين، وتخابرت في هذا الشأن مع الإخوان علال الفاسي وعبد الوهاب الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني رحمهم الله، والحاج الحسن بوعياد أمد الله في عمره، فوافقوا على الفكرة، ودخلنا ضريح جدنا شيخ الإسلام أبي السعود بن عبد القادر الفاسي، وطلعنا لصقلبية سيدي عبد الوهاب -وهي في اصطلاحنا حجرة من جملة عدة حجر تكون كل واحدة لأحد النجباء من أبناء العائلة الفاسية من طلبة القرويين يتخذها لتحضير دروسه-، فحررنا العريضة وكتبها سيدي عبد الوهاب رحمه الله بخطه الجميل وهو الذي خط أيضا بقلمه خمس عشرة سنة بعد هذا عريضة المطالبة بالاستقلال.
وقد عبرنا في هذه الوثيقة الأولى من نوعها عن سخط أهل فاس على هذا العمل الشنيع، وعما أصابهم من ألم نفساني عميق، وحملنا مسؤولية هذا التعدي على مقدساتنا لإنكلترا ولليهود الصهاينة، وخرجنا بخمستنا نجوب المدينة ونقف عند تجارها وصناعها، ونشرح لهم المقصود، ونحمسهم ونطلب منهم التوقيع، وكل من خاطبناه تسارع إلى الإجابة، وهكذا لم يبق من أسواق المدينة من لم نجمع تواقيع أصحابه، وظللنا هكذا النهار كله وإدارة الحماية في غفلة عنا.
وتواعدنا على المضي في العمل في الغد حيث تلاقينا بضريح سيدي عبد القادر الفاسي وكان المركز الذي ننطلق منه، وفعلا كملنا عملنا في اليوم الموالي ورجعنا آخر العشية لمنازلنا راضين مبتهجين بنجاح هذه المبادرة الوطنية الأولى التي لم يكن لأهل فاس إذ ذاك عهد بمثلها.
وفي اليوم الثالث ما أن تم جمعنا في الصباح بالزاوية الفاسية حتى فوجئنا بثلاثة من مقدمي الحومات واحد مكلف بي وبابن عمي سيدي عبد الوهاب لسكنانا بحي واحد، والثاني مكلف بسيدي علال، والثالث بسيدي محمد بن الحسن الوزاني، أما أخونا الحاج الحسن أبو عياد فلم يكن للباشا عليه سلطة، لأنه كان حماية انجليزية كما كان يقال.
فطلب منا المقدمون أن نصحبهم عند الباشا ابن البغدادي، ومن المعلوم أن مدينة فاس كانت تتمتع بشبه استقلال داخلي حيث كان لها نظام خاص فلا شرطة فرنسية ولا مراكز لها وإنما الأمر بيد الباشا ومقدمي الحومة والعسة، ثم كان لها مجلس بلدي منتخب، لأن الحماية وجدت الأمر على هذه الحالة فلم تجرأ على تغييره إلى أن قمنا بالمطالبة بالاستقلال سنة 1944، مما تبعته المظاهرات العنيفة المعروفة، فعند ذلك احتلوا المدينة وجعلوا مركزا للشرطة بفندق النجارين وآخر بباب أبي الجنود.
فلما رأيت أن الأمر يتعلق بالعريضة وكانت بين يدي سارعت إلى أخينا سيدي عبد الوهاب وكلفته بأخذها لتصويرها بالملاح حيث كان المصور الوحيد الموجود إذ ذاك بفاس، وهو المواطن اليهودي أبو حصيرة ولا يزال ولده أو حفيده مصورا بفاس إلى الآن، ثم توجهنا نحن الثلاثة عبد ربه وسيدي علال وابن الحسن الوزاني إلى دار أبي علي حيث مقر حكم الباشا وهو منذ أيام الباشا أبي علي الروسي في عصر المولى إسماعيل محل باشوية فاس، فمثلنا أمام الباشا ابن البغدادي وقد كان رجلا حازما مستقيما إلا أن له سمعة سيئة بما قام به من العسف ضد حركتنا الوطنية ورجالها، فقابلنا باحترام وأدخلنا إلى الحجرة التي كان يجلس في وسطها على زربية متواضعة فوق حصير على خلاف عادته مع الذين يقدمون له إذ كان يجلسهم في باب العتبة على الأرض، فقال لنا عندكم “ازميم”، أريد أن تدفعوه لي، فتصديت له قائلا: أنه تعبير أهل فاس عما قام به اليهود في القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد هدم هؤلاء الصهيونيون مسجد سيدنا عمر، فما زدنا على استنكار هذا العمل الشنيع، فقال: أين القوة التي تواجهون بها هذا الصنيع؟ فأجابه سيدي علال رحمه الله بقولة لم يدرك لها مغزى، حيث قال: “إن قوتنا هي الدم الذي يجري في عروقنا”، فقال: على كل حال أنا لا يهمني إلا أن تأتوني بالزميم ولن أبرح من مكاني هذا حتى تحضروه، فقلت له: إن العريضة عند الحاج الحسن بوعياد وسنذهب عنده ونطلبها منه فإن أعطانا إياها أتيناك بها، فقال: “أنا لا أعرف الحاج الحسن أبا عياد ولا أعرف إلا إياكم فاذهبوا وأتوني بالزميم”.
فخرجنا من عنده وتوجهنا إلى دار سلعة الحاج العربي أبي عياد وولده السيد أحمد بالديوان حيث وجدنا في انتظارنا الحاج الحسن ودخلنا لحجرة ننتظر رجوع سيدي عبد الوهاب من الملاح بالعريضة وصورتها، وأثناء ذلك حررنا رسالة للباشا نطلب منه فيها أن يدفع العريضة لقنصل إنكلترا بفاس ليرفعها لحكومته.
وبعد مضي ساعتين أو ثلاثة كلموني من منزل عمي رحمه الله يقولون إن سيدي عبد الوهاب يطلب قدرا من المال فقلت لهم: “ابعثوه له بواسطة الخادم الطاهر حجيرة رحمه الله على بغلة حتى يتم ذلك بالسرعة المطلوبة، ويقول لسيدي عبد الوهاب إننا ننتظره بفندق أبي عياد بالديوان”.
وبعد مدة حضر سيدي عبد الوهاب، فقصدنا دار أبي علي نحن الأربعة باستثناء الحاج الحسن طبعا، فوجدنا الباشا ملّ الانتظار، وذهب لمنزله بقنطرة أبي رؤس، وقال لنا المخازنية: إنه ينتظركم بداره، فطلعنا لقنطرة أبي رؤس، وقلنا للأعوان أن يخبروا الباشا أننا جئنا بالعريضة، فخرج إلينا اثنان أو ثلاثةً من أعوانه الصغار، وقالوا: يطلب منكم الباشا أن تعطوه الزميم، فأجبناهم لا يمكن أن ندفعه إلا ليده، فدخلوا ورجعوا بالإذن لنا بالدخول عليه مع العلم أنه لم يلج من أهل فاس أحد منهم هذا المنزل، وأن الباشا ابن البغدادي لم يستضف قط فرنسيا واحدا.
فلما دخلنا المنزل وجدناه جالسا فوق ما نسميه السداري في حجرة متواضعة لا يزينها إلا حيطي من الملف “على طريقة البدو”، فجلسنا على يمينه وشماله وقرأنا عليه الرسالة التي نطلب منه فيها أن يدفع العريضة الموقعة من قبل مئات من السكان من أهل فاس لقنصل إنكلترا، وشرحنا في كتابنا هذا ما دفعنا للقيام بهذا العمل الذي يمس بعواطفنا الدينية، والذي يعبر عن تضامننا مع إخواننا المسلمين من أهل فلسطين وتلاحمنا معهم في سبيل القدس، فأخذ منا الكتاب والعريضة وجعلهما تحت الطليق وهو زربية مصنوعة بأوروبا كانت تجعل جوف السداري والمطربات وقد لاحظت في عينيه تأثرا كبيرا وهو يسمع تهديم مسجد سيدنا عمر رضي الله عنه، ومن المعلوم أن ذلك الخبر كان موضوعا ولكنه كان داعيا لقيامنا بهذه الانتفاضة.
وقد كان لنا من هذا العمل تجربة لمدى بلوغ الوعي الوطني الإسلامي من مواطنينا مما شجعنا سنة بعد ذلك على القيام بالمظاهرات والاحتجاجات والتجمعات في المساجد لذكر اسم الله اللطيف ضد ما سمي بالظهير البربري، وتلك قصة أخرى.
أما عريضة 1929، فقد أخذت صورتها معي إلى باريس بعد انتهاء العطلة الصيفية، ووافق أن زار باريس مفتي فلسطين السيد أمين الحسيني رحمه الله، فأقمنا له حفلة في فندق لوتيسيا وتكلمت إذ ذاك باسم طلبة إفريقيا الشمالية وتكلمت على العريضة وعلى المساعدات المادية التي كنا جمعناها للفلسطينيين بعد الاحتجاج الذي قمنا به، وكان لذلك أثر عميق في نفس الزعيم الفلسطيني وفي نفوس إخواننا طلبة المشرق.
هذه الصفحة المشرقة من تشبث المغاربة بالتضامن الإسلامي مع إخواننا في المشرق، وفي كل بقعة من بلاد الإسلام تبعتها صفحات أخرى سجلت كفاح المغرب وملكيه، في سبيل تحرير المغرب والقدس الشريف، حقق الله تعالى انعتاقه، وتمتع الوطن الفلسطيني بأجمعه بحريته واستقلاله”.