أيها الإقصائيون … لستم منا ولسنا منكم

20 نوفمبر 2025 15:35

أيها الإقصائيون … لستم منا ولسنا منكم

هوية بريس – عبد الإله الرضواني

في زمن تحاول فيه بعض الأصوات النشاز أن تشقّ صفّ المغاربة باسم العرقية والهوية الضيقة، يصبح من الضروري أن يُقال لهم بصراحة لا تحتمل التأويل: أيها الإقصائيون… لستم منا ولسنا منكم.

لم يعرف المغرب عبر قرونه الطويلة أي صراع عرقي حقيقي، ورغم ذلك نعيش اليوم على وقع أصواتٍ هوياتية متشنجة، عروبية متشددة وأمازيغية متطرفة، تسعى بكل جهد إلى شقّ وطنٍ لم يعرف عبر تاريخه لحظة انقسام على أساس العرق أو النسب، بل كان دائمًا فضاءً للتلاحم والتداخل الحضاري. والغريب أن هذا الصراع الذي يُراد فرضه على المغاربة اليوم هو صراعٌ مصطنع لا يملك أي جذور في المجتمع المغربي، ولا أي امتداد في ذاكرة الناس، لأنه يقوم على إعادة اختراع ثنائياتٍ زائفة لا صلة لها بالواقع. فالتطرف الأمازيغي المعاصر، وهو نسخة مؤدلجة لا علاقة لها بالروح التاريخية للأمازيغية، يقوم على انتقاء عناصر من الماضي وتضخيمها بشكل يختزل كل تاريخ المغرب في سردية صراعٍ بين أصحاب الأرض والوافدين، مع تجاهل حقيقة أن الأمازيغ أنفسهم عبر التاريخ لم ينجحوا مثلا في خلق تقليد موحد للغة مكتوبة، ولم يؤسسوا مؤسسات قوية لتطوير لغتهم أو توحيد قواعدها أو تعميمها، رغم امتلاكهم فرصة تاريخية على امتداد امبراطوريات كبرى مثل المرابطين والموحدين والمرينيين. فالتقصير التاريخي في تطوير اللغة الأمازيغية مثلا لم يكن نتيجة قمع أو مؤامرة كما يروّج بعض المتطرفين، بل نتيجة غياب مشروع لغوي–علمي داخلي حقيقي، لأن الدولة المغربية في معظم مراحلها كانت متعددة اللسان ولا ترى في التعدد خطرًا.

ومع ذلك، ومنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، بادرت الدولة المغربية إلى تدارك هذا التقصير عبر خطوات دستورية ومؤسساتية غير مسبوقة، بدءًا بإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تحت الرعاية الملكية مباشرة، مرورًا بتقعيد اللغة الأمازيغية ومعيرتها واختيارحرف تيفيناغ لتدريسها، وصولًا إلى ترسيم الأمازيغية في دستور 2011 باعتبارها إحدى اللغات الرسمية للدولة، وإطلاق برامج واسعة لتدريسها في المدارس وتعميم استخدامها في الإدارات والفضاء العام. وقد تحولت الأمازيغية اليوم إلى لغة رسمية محمية دستوريًا، مع تزايد حضورها في الإعلام، واللافتات العمومية، والمحاكم، والجماعات المحلية، وهو تحول لم تحظَ به أي لغة أصلية في المنطقة المغاربية بهذا المستوى.

وفي المقابل، لا يقلّ الخطاب العروبي المتشدد خطورة؛ إذ يصرّ أصحابه على تصوير المغرب كامتداد عربي خالص، متجاهلين عمق البنية الأمازيغية للمجتمع، ومروّجين لتصور اختزالي يرى التعريب عملية فتح أو استبدال للهوية، بينما الحقيقية الأكاديمية تؤكد أن المغرب عرف تعريبًا تدريجيًا ناعمًا، قائمًا على التفاعل التجاري والديني والعلمي، لا على القطع أو الإلغاء. ومن المعيب أن بعض الخطاب العروبي الاقصائي يحاول طمس مساهمة الأمازيغ في الحضارة الإنسانية بصفة عامة والمغربية خاصة، ويختزل التاريخ في سردية أحادية، كأن الدولة المغربية القديمة كانت مشروعًا عربيًا خالصًا، وكأن الإنجازات الحديثة لم تكن ثمرة تلاحم كل مكوّنات الشعب المغربي؛ هؤلاء يسرقون التاريخ لتوظيفه سياسياً، ويبخسون جهود أمة كاملة كانت ولا تزال تقود تطورها الحضاري بوعي وتضامن.

كلا الخطابين، الأمازيغي والعروبي، يعانيان من العجز نفسه: عجز عن قراءة التاريخ بموضوعية، وعجز أكبر عن تقديم أي رؤية للمستقبل. فكلاهما يهرب من مواجهة التحديات الحقيقية: التعليم المنهار، البحث العلمي المتوقف، الاقتصاد الريعي، ضعف الابتكار، انهيار المنظومة الصحية، بطالة الشباب، الخ…، ويتشبث بماضٍ لا يغيّر شيئًا من واقع اليوم. إن البكاء على ماضٍ لا دخل لنا فيه، وإحياء معارك حول أحداث وقعت قبل قرون، ليس سوى إهدار للطاقة الوطنية وتعطيل لتقدم بلد يحتاج إلى التفكير في 2050 لا في 1050.

ويكفي أن نتأمل تاريخ المغرب لنعلم أن قوته كانت دائمًا في اندماجه الحضاري: المرابطون الأمازيغ استعانوا بالفقهاء والعلماء العرب والأندلسيين، والموحدون الأمازيغ احتضنوا الفلسفة العربية–الأندلسية وازدهرت في عهدهم العلوم، والمرينيون بنوا مدارس تحتضن علماء من كل الأصول، والحركة الوطنية الحديثة جمعت أمازيغًا وعربًا في خندق واحد. بل إن التحالفات القبلية داخل المغرب، طوال قرون، لم تكن يومًا مبنية على العرق، بل على المصالح والموقع الجغرافي والروابط الاقتصادية. هذا التاريخ يثبت أن المغرب لم يكن يومًا بلادًا تُدار بمنطق الأصل والعرق، لأن الهوية المغربية ليست معادلة حسابية بسيطة، بل طبقاتٌ متراكمة من التفاعل الحضاري.

ثم إن هذا الصراع الهوياتي الذي يشغل بعض النخب الافتراضية لا وجود له في حياة الناس. فالمغاربة يعيشون يوميًا في انصهار كامل: يتزاوجون دون سؤال عن الأصل، يدرسون في مدارس واحدة، يصلّون في مساجد واحدة، يتبادلون اللغة اليومية المختلطة، يعيشون الأعراس والجنائز والمواسم والعادات نفسها، ولا يخطر في بال أحدهم أن يفكّر في عرق الآخر. المجتمع المغربي في عمقه لا يعترف بهذه الثنائية المصطنعة، ولا يشعر بها أصلًا، لأنها ليست جزءًا من تجربته الحياتية. إن الهوية الحقيقية لا تُصنع عبر توترات افتراضية، بل عبر حياة يومية مشتركة؛ وهنا تتفوق حكمة الشعب على صخب الإيديولوجيا العنصرية الاقصائية.

إن المغرب لم يُبنَ على أوهام التفوق العرقي، بل تشكّل عبر قرون من التفاعل الحضاري، من السلالة البشرية نفسها التي قاومت، وتزاوجت، وتناوبت على الأرض نفسها، حتى صار الانصهار قدَرًا مشتركًا لا يمكن إنكاره إلا بمنطق العمى الأيديولوجي. من يصرّ على نبش مقابر التاريخ بحثًا عن أصل أنقى أو عرق أرقى لا يفهم أن الماضي ملكٌ للبحث الأكاديمي، لا ساحة لشراء الشرعية أو بناء خطاب الضحية أو البطل؛ فالبكاء على ماضٍ لا دخل لنا فيه ليس سوى مضيعة للوقت وتكرار لأسوأ الأخطاء التي دفعت إليها شعوب أخرى فدفعت ثمنها انقسامًا وتمزقًا. ثم إن من يرفع شعار العرق، سواء بلبوس الأمازيغ أولًا أو العروبة قبل كل شيء، يخون قبل كل شيء حقيقة المغرب نفسه: هذا البلد الذي لم يُغلق يومًا أبوابه أمام التلاقح، والذي أثبت تاريخه أن المغاربة لا ينتظرون تنظيرات اشباه المفكرين على مواقع التواصل الاجتماعي ليعرفوا أنهم شعب واحد. يكفي أن ننظر إلى محطات تاريخية كبرى مثل الجهاد ضد البرتغاليين في الشمال، أو وحدة القبائل تحت راية المرابطين والموحدين، أو مقاومة الاستعمار الفرنسي والإسباني في القرن العشرين؛ لم يسأل أحد يومها جاره عن أصله، ولا خاطبه بلهجة قومية متوحشة، بل كان الانتماء للمغرب وحده هو ما يوحّد الصفوف ويشحن القلوب.

ولذلك كله، ينبغي قول الحقيقة بصوت مرتفع: إن المتطرفين من الجانبين—الأمازيغي والعروبي—لا يدافعون عن هوية، بل يخترعون أعداء وهميين ويُتاجرون بالتوتر ويتهربون من المسؤولية الاجتماعية والتاريخية في بناء المستقبل. المغرب أكبر من قراءات ضيقة للماضي، وأكبر من أي مشروع يريد اختزاله في عرق أو لغة أو سردية واحدة. فبعد كل هذا التاريخ، وكل هذا التراكم، وكل هذا العيش المشترك، تبقى الحقيقة التي يفهمها الناس تلقائيا أكثر مما يفهمها منظّرو الهويات: نحن مغاربة… وفقط.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
16°
الخميس
15°
الجمعة
15°
السبت
16°
أحد

كاريكاتير

حديث الصورة