أيها الحيران قد جاء رمضان
هوية بريس – ذ.عبد الرزاق المصلوحي
جاءني متغير الحال، مضطرب البال، مشوش الذهن، حزين القلب، فاقدا الأمل، قد سيطرت عليه الهموم والأحزان، فاغتالت جذوة الأمل داخل وجدانه.
فبادرني قائلا: يا صاحبي الوحيد: قد أحاطت بي الأسقام، إحاطة الدملج باليد، وحلت بداري الأدواء والآلام، فضاقت بي الأرض بما رحبت، حتى ضاقت بي نفسي، فسرت لا أدري، أين أسير وأنا الأسير، أسير الهموم والغموم، أسير الدنيا والبلوى. كم من ناصح أمين، قد تكلم بلا جدوى، وكم من قريب وصديق أشار علي بدواء، فما نفعني في شيء، حتى صرت أعد نفسي من الموتى، بل أتلمس كل لحظة سبيلا لأكون من الموتى، لأرتاح من هذه البلوى.
فقلت له يا صديقي الحبيب: أبشر ولا تحزن، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له الدواء. فنبي الله يعقوب عليه السلام، فقد بصره حزنا وكمدا، لفراق فلذة كبد يوسف عليه السلام، لكن نور اليقين لم يغب عن قلبه، فما أن شم ريح يوسف عليه السلام، وقد كان بعيد بعيدا عنه بمسافات، حتى انتفض سليما، وتحركت قواه نشيطا، فارتد بصيرا بقميص يوسف. فكذاك كل إنسان حيران، وكل امرئ تائه، لا بد من فجره أن يتنفس، ليتنفس معه الأمل، ولا بد لريحه أن تتحرك، لتنفتح له نافذة نور، يخرج به من ظلمات التيه والحيرة.
يا صاحبي الوحيد: فقط تضغضغ سمعي بمثل هذه الكلمات، وتحاول التخفيف من ادوائي، فربيع قلبي لم يزهر قط، وشمس روح لم تشرق بتاتا، وريح يوسف الطيبة لم تتجه نحوي، لأظل في دوامة الحيرة، وحيرة التيه. وما تقوله كلام في كلام، فمني إليك السلام.
لا يا صاحبي الحبيب: دواؤك مقبل مع ضيف كريم، فيه الشفاء والخير العميم، فيه الدواء لكل كرب عظيم، ضيف يجعل الفضاء نورا وهاجا، وتفتح له السماء ابتهاجا، والأرض تزينت، كأني بها عروسا فوق رأسها التاج، وشياطين التيه والحيرة تربط تصفد، كما تربط النعاج، ضيف أيامه ولياليه شلالات عذبة رتاج، تفتح لك آمالا طيبة مباركة.
ضيف يا صاحبي الحبيب، يعيش معك أياما وأيام، حتى يساعدك في الخروج من كهف ذاتك، وضيق نفسك، ويعينك في الوقوف على هموم قلبك وغموم روحك. إلى عالم الأمل، وعدم اليأس، “يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ” ضيف يأخذ بيديك إلى عالم السعادة والخير والسرور، إلى عالم الانشراح والفرح والحبور، إلى عالم الجمال والبشر والنور، بعيد عن المعيشة الضنكة، والحياة التعيسة، بعيد عن هموم الماديات، وأحزان العلاقات، وروتين الأجواء المملات، بعيد عن شاطئ المشاكل والأحزان، وبحر الظلمات المدلهمات.
ضيف إذا أتى، أتى الخير في ركابه، أومضت بوارق الأنس بقدومه، وتوهجت الدنيا ببزوغ فجره، واستبشرت القلوب بطلعته. فترى الأرواح الكئيبة من جداوله الرحيمة الندية تنهل، والنفوس الحزينة من مياهه العذبة الصافية ترتوي. فهيا أسرع، و“ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”.
يا صاحبي الوحيد: أي ضيف هذا الذي، يحمل شفائي، عنده اجد دوائي؟ فقد شغفت إلى التعرف عليه، فمن يكون؟ وكم تدوم ضيافته عندنا؟
يا صاحبي الحبيب: إنه شهر رمضان الأعظم، فيه أنزل القرآن باسم ربك الأكرم. فأكرم به من ضيف كريم، وأنعم به زائر رحيم، تتنزل معه الرحمات والبشريات. فمن عاش لرمضان ولم يتطهر، فمتى يتطهر، ومن أتاه رمضان ولم يتداوى، فمتى يتداوى، ومن جاءه رمضان ولم يتغير، فقل لي متى سيتغير.
إذا الروض أمسى مجدبا في ربيعه …..ففي أي حين يستنير ويخصب
في رمضان كؤوس الرحمة متوالية، وفواكه الرضى والمغفرة متتالية، ومقامات السير إلى الله مفتوحة رضية، وطرق الشياطين مقطوعة دنية، ورياحين الجنان مقبلة بهية، فعجل السير والخطى، وقل:”وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ“. فالبدار البدار بالقوم قبل ارتحالهم، واللحاق اللحاق بالركب، فقد تحركت قوافلهم. قد ظلوا طول النهار في إمساك صيام، عن حلو شرب ولذيذ طعام، حتى إذا جن عليهم الليل، قد اصطفوا للسجود والقيام، ولسان حالهم يقول: افلا أكون عبدا شكورا.
ها أنت يا صاحبي في رمضان، ترفرف روحك بين الساجدين الراكعين، بين الذاكرين القارئين للقرآن الكريم، كلام رب العالمين، بين الصائمين الصابرين على الجوع والعطش، المتعطشين المحتسبين الثواب عند سيدهم ومولاهم رب العالمين.
ها أنت الآن في رمضان، ينقلب ليلك إلى محراب السجد الركع، من يغسلون أمراضهم بدموع التعبد والتضرع، لله رب العالمين، قد جفاهم النوم، فجافوه:”تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ”.
ها أنت في رمضان، يصير جوعك إحساسا جميلا بآلام الجائعين البائسين، ويصبح عطشك شعورا بشدة العطش يوم الدين، فتهفو نفسك شوقا لربك الكريم، الذي من أجله فقط تركت الملذات والشهوات.
ها انت في رمضان، تستشعر القرب وتعيش الأنس، القرب ممن وسعت رحمته وقدرته وعظمته كل شيء، فكيف لا تسع مرضك واحزانك. وتعيش الأنس ممن أحاطك بنعمه الغزيرة، وشملك بعطاياه الكثيرة، فكيف تفقد الأمل الأمل؟ والأمل في الله لا ينقطع أبدا. وكيف يضعف يقينك في الله، واليقين في قلب المؤمن لا يغيب أبدا. فالله تعالى قريب قريب:” وإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”
آه يا صاحبي الوحيد: كم كنت غافلا عن هذا الضيف، وتائها عن هذا الباب، فشكرا جزيلا لك، فكأني بروحي تتنفس، من جديد بروح جديد، وكأنني قد وهبت حياة جديدة، ذهب معها الألم والسقم، وزال المرض والحزن، فشكرا جزيلا مرة ثانية.
نعم صديق الحبيب: الباب دوما مفتوح والضيف معنا شهرا كاملا، فماذا تنتظر، فهيا: “اسْجُدْ وَاقْتَرِب“.
سلا في: الأحد 29 شعبان 1445 موافق 10 مارس 2024