أي أجندة وراء إقحام العامية في مناهج التربية والتعليم في المغرب؟
هوية بريس – بلال التليدي
مع الدخول السياسي الجديد، تفجر الجدل اللغوي القيمي مرة أخرى في المغرب، وذلك على خلفية إخراج مقررات مدرسية لمادة اللغة العربية، تم حشو عدد من المفردات والتراكيب العامية بها، وإدماج غير ملائم للتربية الجنسية، فضلا عن إقحام مضامين غير تربوية في المنهاج الدراسي للناشئة.
وزارة التربية الوطنية في المغرب فتحت ورش تعديل وتغيير المناهج الدراسية بشكل تجاوزت فيه منهجية تحرير الكتاب المدرسي التي أقرت زمن وزير التربية الوطنية الأسبق عبد الله ساعف، والتي كانت تخضع لتنافس دور النشر على تأليف الكتاب المدرسي، وفق المعايير التي تضعها الوزارة، ويتم اختيار ثلاث كتب منها، ترجحهم لجنة المصادقة التي تعينها الوزارة المعنية، بعد أن تعطي للجان التأليف مهلة كافية لإنتاج هذه الوثائق التربوية.
وزارة رشيد المختار، وبعدها وزارة السيد سعيد أمزازي، “التفت” على منهجية تحرير الكتاب المدرسي، بمنهجية ملتبسة، منحت فيها الحق لدور النشر التي فازت في السابق، بتحمل مسؤولية تعديل المقررات الدراسية التي أنتجتها، ومنحت مديرية المناهج حق المصادقة على هذه الكتب المعدلة، دون أن تخضع لمبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص.
في الظاهر تبدو الأمور من غير خلفية سياسية، ففي نهاية المطاف، الأمر يتعلق بدار نشر، وليس بسياسة دولة، والاتهام الذي قد يوجه لمديرية المناهج التي صادقت على هذه المقررات، يمكن أن يفسر بميولات إيديولوجية لبعض أعضائها.
لكن، هل الأمر يتوقف عند هذه الحدود؟
بدءا، لا يمكن فصل هذه الموضوع عن المسار الذي قطعته بعض النخب في التمهيد لإقحام العامية في المقررات الدراسية، فقد سبق لنور الدين عيوش أن نظم مؤتمرا “دوليا” لهذا الخصوص، وانتهت مخرجاته إلى أن أزمة التعثر في التحصيل الدراسي، ترجع إلى تدريس الأطفال باللغة الفصحى، وأن “الحل السحري” يكمن في تعليمهم بالعامية، واستثمر بعض الجهد في إنتاج “قواميس” للدارجة المغربية !! كما سبق لعدد من المجلات الأسبوعية المعروفة بميولها الفرنكفوني (مجلة نيشان على سبيل المثال) أن دشنت الكتابة بالدارجة العامية بدل اللغة العربية، وتابعتها بعض الصحف، فضلا عن الإذاعات الخاصة، وقنوات القطب بالعمومي، التي احتالت على دفاتر التحملات، بتأويل غريب، أدخل الدارجة العامية ضمن مسمى اللغة العربية، وتحولت العامية إلى اللغة الأولى للإشهار باقتران مع اللغة الفرنسية.
المفارقة أن تتبع هذا المسار، يفيد بأن إقحام العامية في المقررات الدراسية ليس شيئا طارئا، وإنما هي سياسة مخطط لها أخذت مداها في الزمن، وفق رؤية متدرجة، لكن، في المقابل، لا وجود في السياسة الحكومية لأي مقتضى برنامجي، يشير إلى إدماج الدارجة أو حتى تعريبها، بل بالعكس، انتقد كاتب الدولة في التعليم العالي السيد خالد الصمدي مؤخرا في تدوينة على الفايسبوك الازدواجية اللغوية، وإقحام العامية في التعليم، معتبرا ذلك من ملامح الفوضى اللغوية.
يبدو التناقض كبيرا بين سياسة حكومة يعبر برنامجها الحكومي على عكس ما يجري، وسياسية جارية تعاكس تماما ما ورد في البرنامج الحكومي وما ورد في الرؤية الاستراتيجية.
بيد أن هذا التناقض ليس وليد اليوم، فقد تم في السنوات القليلة الماضية، إقرار “البكالوريا الفرنسية”، ولم تكن في الأصل جزءا من أي برنامج حكومي، وتم التخفيف من وقع الضغوط على الحكومة، بفكرة مناورة لوزير الدولة عبد الله بها رحمه الله، اقترح فيها فكرة “البكالوريا الدولية” بدل “الباكلوريا الفرنسية”، حتى يوسع ما أرادت فرنسا أن تجعله مدخلا للسيطرة اللغوية والثقافية في المغرب.
والحقيقة أن الوعي بما يجري، لا يتطلب فقط فهم هذا المسار، وإنما يتطلب ضم بعض الحلقات لبعض، والتقاط إشارات أخرى تخص النقد الكثيف الموجه للتعليم في المغرب،والذي أخذ منحيين اثنين، يقودان إلى التمكين للثقافة الفرنكفونية، وإضعاف مقومات الهوية العربية الإسلامية للمغرب.
المنحى الأول، ينتقد على مخرجات التعليم الأساسي، كونه يخرج متعلمين لا يتقنون اللغات، وبالأخص اللغات الأجنبية.
والمنحى الثاني، ينتقد على التعليم كونه يخرج أفواجا من العاطلين، بسبب أن مناهجه لا تقدم الكفايات والتكوينات التي تلائم سوق الشغل.
تتجه المقاربة السائدة لحل المعضلة الأولى، بطرح كفاية إتقان اللغات، وبالخصوص اللغات الأجنبية، بينما تتجه في حلها للمعضلة الثانية، إلى إلغاء الشعب الأدبية، والإبقاء منها فقط على شعب اللغات الأجنبية، وفتح المجال للإجازات المهنية.
التركيب الذي يمكن استخلاصه من هذين المنحنين، أن الأمر سيفضي في النهاية للتمكين للغات الأجنبية، وإضعاف شعب الآداب والدراسات الإسلامية.
طبعا، الأمر لا يمكن اختزاله في مقاربة اقتصادية تقنية، تنظر لمناهج التعليم بمنطق المردودية والنجاعة والفاعلية، وإلا، فكثير من المعايير غير المادية، تكون لها كلفة مادية أكبر، فاليوم تدفع الدول العربية كلفة مالية ضخمة لمواجهة بعض الظواهر القيمية، كما تعاني من إسناد المسؤوليات التدبيرية لعقول تقنية لا تعرف مزاج الجمهور ولا عقلياته، لأن تكوينها في العلوم الإنسانية شبه معدوم.
التحليل الذي نميل إليه، أن الأمر، يتجاوز المقاربة الاقتصادية التقنية لما هو أكبر، مما هو مرتبط بتقاطع مصالح أجندة ثقافية فرنسية تأبى أن تتنازل عن الاحتكار اللغوي والثقافي في المغرب رغم تراجع الطلب على اللغة الفرنسية كلغة بحث علمي، وأجندة سياسية، تقرأ – خطأ-صعود الإسلاميين بأسباب في اللغة والتربية والثقافة ونوع التأويل الديني السائد. ولذلك، تجد النخب التي تخدم مصلحة إضعاف اللغة العربية السند، في الوقت الذي يتأخر فيه إخراج أكاديمية محمد السادس للغة العربية، ويتم فرض اللغة الفرنسية منذ التعليم الأولي، وتستحوذ الفرنسية على لغة الإدارة والإعلام والإشهار والحياة العامة، ويتم النفخ في الدارجة ورفعها لمستوى معياري وهي لا تمتلك هذه الصفة، ويتم أيضا- بعد جهود تجديد الحقل الديني- إسناد تجديد مناهج التعليم الديني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للتحكم في المضامين الدينية التي يكتسبها المتعلمون.
ثمة شك كبير في فعالية هذه السياسة وقدرتها على النجاح، فليست هذه هي المرة الأولى التي تم فيها التمكين للأجندة الفرنسية في اللغة والتربية، فقد سبق أن اعتمدت عدد من البرامج التي كانت تخرج من نفس المشكاة، ومنها ما عرف بشعب المسالك اللغوية، لكنها في الأخير انتهت إلى كما انتهى البرنامج الاستعجالي الذي مولته فرنسا إلى الإخفاق الشامل، وإهدار الأموال التي لحد الآن لم يتم كشف ملابساتها، لتكون الخلاصة، حلقات هذا المسار هو فشل ذريع في إتقان اللغة الفرنسية قبل اللغة العربية!!