أَيَسُوغُ لِمَن بِيَدِهِ المَفَاتِيحِ أَن يَتَمَنَّى الاِنفِرَاج؟!

01 أغسطس 2025 16:50

هوية بريس – محمد عزت أبوسمرة

ما قام به الشيخ رائد صلاح ورفيقه كمال الخطيب أمام السفارة المصرية في تل أبيب ليس فعلاً رمزيًّا يُقرأ بسطحية الصورة، ولا حركةً احتجاجيةً عاطفية تُقاس بضجيج اللقطات.

إنه موقفٌ مدروس، مُتّكئ على فقه اللحظة، نابع من وعي عميقٍ بهندسة المعابر وموازين الضغط، وخارطة الفاعلين في المشهد.

في السياسة كما في الفقه، لا يُبنى الحكم على الظاهر وحده، بل على قرائن الأحوال، وتراكمات السلوك، وسياقات التوقيت. والشيخان لم يختارا موقع وقفتهما على غفلة، بل وجّها البوصلة إلى أحد مواضع الإمساك بخناق غزة؛ فالمعبر ليس ممرًّا إنسانيًّا مجردًا، بل أداةُ قرارٍ سيادي، يتحوّل حين يشاءُ صانعوه من شريانٍ إلى مشنقة.

حين تُحاصر غزة بالنار والخذلان، لا يبقى في ساحة الفعل إلا من جرّد نفسه من موازين الشعبية والقبول الرسمي، وتخفّف من سكرات الرضا الجمعي، وارتقى إلى مقام الكلمة حين يعزّ قائلها. ففي الوقت الذي تُدار فيه حسابات الإقليم بمنطق التوازنات والتحوّطات، لا بد من رجلين يُعيدان تعريف الحرج، ويرفعان الحجاب عن أعينِ الغافلين.

من عاب على الرجلين فعلهما، فليراجع فقه الولاء والبراءة، قبل أن يفتّش عن ذريعةٍ يسكب بها ماء وجهه السياسي. وليتأمّل كيف أن الكلمة الصادقة حين تخرج من أفواه مَن ذاقوا الأسر والمطاردة والمنع والنبذ، لا تُقرأ كخطأ بروتوكولي، بل تُفهم على حقيقتها:

• طعنة في خاصرة الصمت

• تعرية للخذلان بأكثر الأدوات سلمًا، وأشدّها فضحًا.

الاحتلال يقصف نعم، لكن من يغلق الباب على الجريح من القصف، لا يمكنه أن يدّعي البراءة. وليس معبر رفح آلةً ميكانيكية تُدار تلقائيًّا، بل بوابة سيادية، تتحرّك بقرار سياسي، وقد استُخدمت مرارًا أداةَ ضغط في لحظات التفاوض، أو أداةَ ترويضٍ حين رُفعت الرايات.

فليست مصر بعمقها التاريخي ووجدانها الجمعي هي المقصودة بالعتاب، وإنما الذين صادروا قرارها، واحتكروا نُطقها، وجعلوا دورها في القضية الفلسطينية هامشًا يُدار بالهواتف لا بالهمم. الذين يريدون أن يختبئوا خلف عظمة مصر الحقيقية ليُمرروا بها صمتهم أو تواطؤهم، إنما يُسيئون إلى مصر، لا يحمونها.

وإذا قيل إن مصر قدّمت، فكلنا نعلم أنها فعلت، ولكن المواقف ليست شيكات مؤجلة. العطاء لا يُعفي من واجب اللحظة، والتاريخ لا يُستخدم وثيقة إعفاء من ضريبة الدم. من أحبّ فلسطين حبًّا حقيقيًّا، لا يكتفي بأن يروّج ماضيه، بل يُعيد صياغة حاضره ليكون امتدادًا لذلك المجد، لا نقيضًا له.

وما تزال غزة تختنق، والبوابات تُغلق والشهداء يُنتشلون من بين الركام، ويُمنع عنهم الإسعاف أو النجاة. وفي كل مرة يُفتح فيها المعبر ليومٍ أو اثنين، تُستثمر هذه اللفتة إعلاميًّا كأنها منّة لا واجب. أما حين يُغلق، فالصمت سيد الموقف، كأنما الحياة باتت امتيازًا، لا حقًّا.

ثم تُستأنف فصول التيه، حين يُتهم أهل الداخل الفلسطيني بأنهم أبناء الاحتلال، وكأن الهوية تُصنّع في الجغرافيا، لا تُزرع في النفوس. هؤلاء لم يُختاروا أن يولدوا في قلب السجن، لكنهم رفضوا أن يُصبحوا جزءًا من سياجه. بقوا شوكة في حلق المشروع الصهيوني، وصوتًا للعروبة في بيتٍ تكاد الأسماء فيه تُحرَّف، والأذان فيه يُحاصر. والحركة الإسلامية في الداخل ليست طارئة على النسيج الوطني، ولا عارضة في سياق المقاومة.

بل هي تجربة متجذّرة، جمعت بين العمل المؤسسي والموقف الشرعي، بين الارتباط بالأرض والانفتاح على المشروع الإسلامي، دون تفريط في أيٍّ من الثوابت. لم تتاجر بمآسي الناس، ولم تُبدل خطابها بين موسم وآخر. لذا فإن كلمة رجليها ليست رجّة عاطفية، بل ترجمة متناسقة لموقف متّصل بجذور عميقة.

الوقوف أمام السفارة المصرية ليس تطاولاً على مصر الغالية، بل هو نداء أخلاقي موجّه إلى إرادة القرار فيها، لا إلى روحها التاريخية أو وجدان شعبها. هو جرس إنذار لمن يملك المفتاح، أن فتح الباب لم يعد منّةً بل ضرورة، وأن التلكّؤ فيه يُسهم في الجريمة.

ومن أراد أن يصادر ألسنة المكلومين، فليتأمّل جيدًا:

إن الذين يعيشون في قلب النار لا ينتظرون تصاريح للكلام، ولا يطلبون إذنًا من مجالس الصمت لينطقوا.

موازين العدل لا تُقاس على ميزان الإعلام الرسمي، بل على مدى اقترابها من جرح الأمة. أما غزة فلا تُخطئ البوصلة. تعرف رجالها ولو نطقوا من خلف الأسوار، وتفرّق بين الصادق والثرثار، وبين من يدفع الثمن، ومن يبيع الشعارات. وغزة حين تصرخ، لا تنتظر جوابًا من العابرين، بل من الذين يملكون المفاتيح ويُمسكون الأبواب. فهل يفتحونها؟!

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة