د.الريسوني يكتب: إثبات الشهور القمرية بالحسابات الفلكية؟
هوية بريس – د.أحمد الريسوني
من المسائل الفقهية الخلافية الشهيرة: مسألة إثبات هلال شهر رمضان، وكذلك هلال شهر شوال، الدي تثبت به نهاية الصيام وحلول عيد الفطر.
وإذا كانت رؤية الهلال آخر يوم من شعبان ومن رمضان تُثبت الصيام والفطر بلا خلاف، وكذلك تمام الثلاثين من سعبان ومن رمضان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا العدد – أو: أكملوا الثلاثين)[1]، فيبقى السؤال الكبير هو: هل من طريق آخر ممكن لإثبات نهاية الشهر وبداية الشهر سوى الرؤية بالعين؟ وتحديدا: هل يمكن إثبات ذلك بالحساب الفلكي؟
جمهور المتقدمين من فقهائنا لم يقبلوا الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات بدايات الشهور القمرية. وهو رأي سديد إلى حد بعيد. فالحساب الفلكي كان بدائيا، وكان اعتماده عسيرا بعيد المنال، وكان ممتزجا بكثير من الأوهام القائمة على مجرد تخمينات وتوقعات.. فكانت الرؤية المباشرة هي الطريق الأيسر والأضمن والأسلم لعموم الناس.
ومع ذلك وجدنا عند بعض علماء السلف محاولات استشرافية مبكرة للاستفادة من علم الفلك، واعتماده وسيلة لمعرفة نهايات الشهور القمرية وبداياتها..
من ذلك ما نقله الحافظ ابن عبد البر في موسوعته (الاستذكار):
“وقال بن قتيبة في قوله (اقدروا له)[2]: أي قدِّروا الشهر بالمنازل، يعني منازل القمر.
قال أبو عمر: قد كان بعض كبار التابعين – فيما ذَكر محمد بن سيرين – ذهب في هذا الباب إلى اعتباره (أي الهلال) بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب.
قال بن سيرين: كان أفضلَ له لو لم يفعل.
قال أبو عمر: قيل إنه مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير والله أعلم. وكان مطرف من جِلَّة تابعي البصرة، العلماء الفضلاء الحُلماء.
وقد حكى ابن سُريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر، ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلةَ وغم عليه، جاز له أن يعتقد الصوم ويُبيِّــته، ويجزئه”[3].
على أن كلامي الآن ليس مع الفقهاء المتقدمين، فهؤلاء موقفهم في محله، بحسب وسائل وقته. وإنما كلامي عن بعض المعاصرين، الذي ما زالوا يرفضون الاعتماد على الحساب الفلكي، رغم الدقة العلمية البالغة، التي أصبح عليها اليوم.
والذين يرفضون الأخذ بالحساب الفلكي لا يشككون في دقته ونتائجه القطعية، وإنما يرون أن السُّنة النبوية قد عينت الرؤية البصرية وسيلةً لإثبات الهلال، فهي بذلك وسيلتنا الشرعية، لا نحيد عنها إلى غيرها..
وزاد بعضهم فاستدلوا بحديث الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّـا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب..)، معتبرين أنه يدل على نفي الحساب، ولذلك لا ينبغي أن نعتمده..[4]
ومكمن الغلط في رفض الحساب والاستدلال بهذا بالحديث، سببان:
السبب الأول: اعتبارهم مشاهدة الهلال ورؤيته، مقصودةً ومتعينة بذاتها في الشرع، والحالُ أنها وسيلة للإثبات لا غير. ولذلك وجدنا العلماء يزيدون فيها ويشترطون لها ما يجعلها تحقق مقصودها بأمان. فمنهم من اشترط استفاضة الرؤية أو استفاضة نقلها، ومنهم من اشترط عدلين اثنين، ومنهم من اشترط العدلين في هلال شوال دون هلال رمضان. ومنهم من اشترطهما في حال الصحو دون حال الغيم.. فدل هذا على أن رؤية الهلال مسألة تراعى فيها وفي الأخذ بها مختلف الأحوال المؤثرة في الإثبات والتصديق، اللذَين هما مناط ما يُقبل منها وما لا يقبل، وما يشترط فيها وما لا يشترط.
وإذن فالمدار والمناط هو قوة الإثبات ورجحانه.
السبب الثاني: هو تفكيكهم الأدلةَ وعدمُ التشبيك بينها، وإعمال بعضها أو جزئها، وإهمال غيره..
فمَنِ استدلوا بحديث (إنَّـا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب..)، وقالوا: إنه يقتضي نفيَ العمل بالحساب، لم يسألوا أنفسهم: وهل الحديث يقتضي أيضا نفي الكتابة وعدمَ صحة العمل بها؟ وهل هو نفي عام أو خاص؟ وهل هو مؤبد أو مؤفت؟
ذلك أن تقْويلهم الحديثَ عدمَ مشروعية العمل بالحساب، يستلزم ضرورةً تقويلَه عدمَ مشروعية العمل بالكتابة.. ولكن اللازم باطل قطعا ويقينا، فالملزوم كذلك ولا بد.
ثم نقول: هل وصف الأمية وعدمِ الكتابة والحساب خاص بالعرب، أم هو وصف لجميع المسلمين؟ وإذا قلنا إنه خاص بالعرب، وهو الصواب بلا ريب، فالعرب قد أصبحوا – ومنذ عصر الصحابة – أقلية بين المسلمين..!
ثم هل وصف الأمية وعدمِ الكتابة والحساب وصف آنـيٌّ، وتقرير أمر واقع، أم هو وصف مؤبد، وتكليف شرعي تجب المحافظة عليه!؟
الجواب على الأسئلة كلها واضح لا غبار عليه، كما يشهد بذلك التاريخ والواقع، بتطابق وتواتر.. فلا أطيل.
ومن وجه آخر، نجد كذلك تفكيكهم للأدلة الشرعية، إعمالا لبعضها دون بعض، بدل الجمع بينها، وإعمالِ كل منها في موضعه اللائق به..
وذلك أن الأدلة الشرعية نوعان:
-نوع لتقرير الأحكام والتكاليف كما هي في الشرع، وتلك هي الأدلة التشريعية.
-ونوع لتحقيق الأحكام والتحقق منها في الواقع العملي، وتلك هي الأدلة التنفيذية.
ولأهمية هذه المسألة، أترك بيانها للإمام شهاب الدين القرافي..
قال رحمه الله في فروقه:
“الفرق السادس عشر: بين قاعدة أدلة مشروعية الأحكام، وبين قاعدة أدلة وقوع الأحكام.
فأدلة مشروعية الأحكام محصورة شرعا، تتوقف على الشارع، وهي نحو العشرين.
وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدالة على وقوع الأحكام، أي وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها.
فأدلة مشروعيتها: الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، والبراءة الأصلية، وإجماع المدينة، وإجماع أهل الكوفة على رأي، والاستحسان، والاستصحاب، والعصمة، والأخذ بالأخف، وفعل الصحابي، وفعل أبي بكر وعمر، وفعل الخلفاء الأربعة، وإجماعهم، والإجماع السكوتي، وإجماعٌ لا قائل بالفرق فيه، وقياسُ لا فارق، ونحوُ ذلك مما قرر في أصول الفقه. وهي نحو العشرين، يتوقف كل واحد منها على مَدرك شرعي يدل على أن ذلك الدليلَ نصبه صاحب الشرع لاستنباط الأحكام.
وأما أدلة وقوعها: فهي غير منحصرة.
فالزوال مثلا: دليل مشروعيته سببا لوجوب الظهر عنده، قولُه تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78]. ودليل وقوع الزوال وحصولِـه في العالم: الآلاتُ الدالة عليه وغيرُ الآلات؛ كالأسطرلاب، والميزان، وربع الدائرة، والشكارية، والزرقالية، والبنكام، والرخامة البسيطة، والعيدان المركوزة في الأرض، وجميعِ آلات الظلال، وجميعِ آلات المياه وآلاتِ الطلاب كالطنجهارة وغيرها من آلات الماء، وآلات الزمان، وعدد تنفس الحيوان إذا قدر بقدر الساعات، وغيرِ ذلك من الموضوعات والمخترعات التي لا نهاية لها.
وكذلك جميعُ الأسباب والشروط والموانع، لا تتوقف على نصبٍ من جهة الشرع، بل المتوقف سببية السبب وشرطية الشرط ومانعية المانع. أما وقوع هذه الأمور فلا يتوقف على نصبٍ من جهة صاحب الشرع، ولا تنحصر تلك الأدلة في عدد، ولا يمكن القضاء عليها بالتناهي”[5]. انتهى كلام القرافي.
وأنا أعطي لذلك مثالا واضحا من جنس مسألتنا.
وهو أن المسلمين اليوم قد تخلَّوا بالكامل عن اعتماد الأدلة والأمارات/الوسائل، التي وردت في النصوص لتحديد مواقيت الصلوات الخمس، بداية ونهاية. واعتمدوا لذلك أدلة – أو وسائل – جديدة بالكامل أيضا.
لننظر في هذه الأحاديث والآثار الصحيحة[6]:
-عن عطاء بن يسار أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن وقت صلاة الصبح. قال فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد صلى الصبح حين طلع الفجر، ثم صلى الصبح من الغد بعد أن أسفر، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال ها أنذا يا رسول الله. فقال: ما بين هذين وقت.
-وعن نافع مولى عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. ثم كتب: أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا، إلى أن يكون ظل أحدكم مثله. والعصرَ والشمسُ مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس. والمغرب إذا غربت الشمس. والعشاء إذا غاب الشفق، إلى ثلث الليل.
-وعن عبد الله بن رافع – مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم – : أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة، فقال أبو هريرة: أنا أخبرك، صل الظهر إذا كان ظلك مثلك، والعصر إذا كان ظلك مثليك، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء ما بينك وبين ثلث الليل، وصل الصبح بغبش يعني الغلس.
فهل بقي من الفقهاء، أو من المؤذنين، أو من عامة المسلمين، يعتمد هذه الطرق لمعرفة أو قات الصلوات؟
الجواب يعرفه الجميع.. فلا أحد اليوم تقريبا يلتفت إلى شروق أو غروب أو زوال، أو يتحقق من طلوع الفجر الصادق، أو يتأكد من الغسق أو الإسفار، أو يقيس ظله أو ظل الأشياء من حوله.. بل كل الناس ينظرون إلى ساعاتهم وأجهزتهم، بناء على ما حددته الوسائل والحسابات الفلكية..
فلماذا يصرُّ بعض المتفقهة على منع اعتماد الوسائل العلمية الفلكية الحديثة في ضبط الأهلة، ولا يرون لذلك طريقا سوى المشاهدة للهلال، بينما هم يعتمدون تلك الوسائل نفسها – طيلة أيامهم ولياليهم – لضبط أوقات الصلاة، مخالفين بذلك الأحاديثَ والآثار والسنن الصحيحة. كما أنهم يستعملونها في تحديد وقت إمساكهم وإفطارهم عند الصوم، مخالفين ومهمِلين للعلامات المنصوص عليها في القرآن والسنة، كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]..
فكل هذا كان يعتمد كلية على الرؤية البصرية المجردة للعلامات المذكورة..
وأما اليوم فلا رؤية إلا ما تراه حسابات الفلكيين والموقتين..!
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحديث متفق عليه
[2] يقصد الحديث النبوي المتفق عليه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَكر رمضان فقال: لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه. فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له.
[3] الاستذكار 3/278
[4] – هذا القول قديم، وما زال يتردد ويعتمد حتى الآن.. قال الإمام النووي: “ومن قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين “إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا” الحديث. قالوا ولان الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم، لأنه لا يعرف الحساب الا أفراد من الناس في البلدان الكبار؛ فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه فاسد مردود بصرائح الاحاديث السابقة” – المجموع للنووي (6/ 270)
[5] الفروق، المسمى (أنوار البروق في أنواء الفروق)، 1/128 – نشر عالم الكتب بيروت، د ت
[6] انظر: الموطأ للإمام مالك، برواية يحيى الليثي، باب وقوت الصلاة