علَّمُونا في مدارسنا أن سلسلة الحروب الصليبية التي خاضتها أوروبا ضد المسلمين كانت مُتسترة بالدين، وتُخفي أطماعا توسعية واقتصادية تمثِّلُ الأهداف الحقيقية لتلك الحملات.
وبالرغم من أن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحروب الصليبية حقيقة لا يمكن تجاهلها، إلا أن البعد الديني كان واضحا لم يُخفه الأوروبيون أنفسهم، لكننا دائما مدفوعون إلى التبرير للغرب والتعسف في توصيف الصراع واستبعاد عنصر الدين من المعادلة.
الحديث عن البعد الديني للعداء الغربي تجاه المسلمين بات محل سخرية لدى الكثيرين، ممن اعتبروه ضربا من الشطط والغلو ومحاولة لبعث روح العداوات القديمة بين الغرب والإسلام، وتوظيفا للدين في صراعات المصالح الدولية.
لم يكتف فئات من بني جلدتنا بالوقوف صاغرين أمام الغرب والتأكيد على نفي أي منطلقات دينية لديهم، بل صاروا يبررون للغرب ويعتذرون عنه فيما يصدر منه من دلالات حول دور الدين في رسم سياسات الغرب وتوجهاته.
جورج بوش لم يُخْف بعد أحداث 11 سبتمبر بأنه سيخوض حربا صليبية جديدة، لكن الأذناب برروا ذلك بأنها زلة لسان بعد أن راق لهم تراجع بوش عن المقولة وأظهر الأسف حيال النطق بها.
لكن بوش يعيد الكرة بعد ثلاث سنوات عندما وردت الإشارة الجديدة إلى الحرب الصليبية في خطاب لإدارة الحملة الانتخابية لبوش ونائبه تشيني.
عندما ظهرت الحملة الشعواء في دول أوروبا ضد حجاب المسلمات ابتداء بفرنسا ثم بلجيكا والمجر وألمانيا، وجدت هذه الدول من يبرر لها ويدافع عنها، ويدفع عنها تهمة الاضطهاد الديني، بل خرج أحد المنتسبين إلى أهل العلم يفتي بأن فرنسا حرة في اتخاذ تلك الإجراءات.
كان البعد الديني ظاهرا كذلك في العدوان الذي شنته روسيا على الشعب السوري بحجة مواجهة الإرهاب، حيث وصفت الكنيسة الأرثوذكسية الحملة الروسية بأنها حرب مقدسة، وظهر القساوسة وهم يباركون الجنود الروس قبل التوجه إلى سوريا.
المكون الديني في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية يتم تجاهله على الصعيد العربي بصورة كبيرة، وحين يتم تناوله يتندر الكثيرون مؤكدين أنها علاقات مصالح وحسب، معتبرين أن الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل ينطلق من تقاطع المصالح.
الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية بكل منظماتها التي تعمل تحت المظلة الكنسية، كونت ضميرا جماعيا بوجوب الدعم الأمريكي لإسرائيل، استنادا إلى نبوءات توراتية.
الكاتب الأمريكي “هال ليندسي” اكتسب شهرته الواسعة في مطلع السبعينيات من خلال نشر كتابه “كوكب الأرض القديم الرائع”، والذي ركز فيه على التعاليم الإنجيلية المتعلقة بعلامات آخر الزمان، وانتصر لفكرة أن إعلان قيام دولة إسرائيل تُعد تطبيقا لنبوءة إنجيلية تقول بعودة اليهود لإسرائيل، وأن إقامة الهيكل سيقود إلى معركة هرمجدون العالمية بين أتباع المسيح وحلفائهم المؤمنين (اليهود) ضد قوى الشر.
إنه لمن المعلوم أن الإنجيليين يعتقدون بأن قيام دولة لليهود في فلسطين هو علامة ظهور المسيح المخلص الذي سوف يهتدي على يديه اليهود ويتبعونه في قتال قوى الشر (المسلمين)، وذلك انطلاقا من مذهبهم البروتستانتي الذي يؤمن بحرفية العهد القديم والجديد معا.
قام على هذا المعتقد حركات دينية أبرزها الحركة التدبيرية، التي ضمت 40 مليون أمريكي كان منهم الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
الكاتبة الأمريكية “جريس هالسل” التي نشأت في بيت إنجيلي، ذكرت في كتابها “النبوءة والسياسة”، أن رونالد ريجان كان يكره ليبيا لاعتقاده أنها واحدة من أعداء إسرائيل الذين ذكرتهم النبوءات.
وذكرت أن سيدة تدعى “بوبي هرومنس” زوجة طبيب شهير، اشترت منزلا مقابل السفارة الإسرائيلية في كاليفورنيا لتحويله إلى كنيسة يقيم فيها كبار موظفي الدولة الصلاة كل ثلاث ساعات من أجل ملكية إسرائيل كل الأرض من النيل إلى الفرات، وكان من الأسماء التي رأتها المؤلفة في سجل الزائرين: رونالد ريجان.
ليست هذه الكلمات رغبة في إثارة العداء الديني، لكنها طرح لتساؤلات حول دوافع تجاهل المنطلقات الدينية للسياسات الغربية والأمريكية بغض النظر عن مساحتها، بمعنى آخر: لماذا يصر بعضنا على نفي وجود المحرك الديني لدى الغرب؟
ومن باب أولى نتساءل: لماذا نحاول دائما البرهنة على أننا لا ننطلق في علاقاتنا مع الآخرين من خلال الدين؟!
لسنا كغيرنا ممن يتحركون بتفسيرات تلمودية بعيدة عن نهج السماء، إننا إذ ننطلق في علاقاتنا مع الآخرين من تعاليم الإسلام، لن نحمل لهم سوى الخير والعدل والرحمة والسلام.