إذا فسد الأصل فلا لوم على فساد الفرع
هوية بريس – د. أحمد اللويزة
في كل مرة تقوم القيامة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل فضيحة هنا أو هناك، أو فساد هنا وهناك، أو كارثة مسؤول هنا أو هناك.
يعيش الناس زوابع وعواصف تتطاير فيها الكلمات والتنديدات والتنهدات والشجب والاستنكار والاحتجاج والسخرية والصراخ…. وهلم جرا. تعلو الزوبعة أو الرجة أو الضجة سمها ما شئت، ثم تعلوا ولا تزال تعلوا ثم تبدأ في النزول حتى تخفت ثم تختفي، يصمت الناس مدة من الزمن في انتظار قضية أخرى وشكل من أشكال الفساد ليطفوا مرة أخرى، فإما أن يكون جديدا يغرق فيه الناس نقدا وشجبا ووو، وإن لم يكن هناك جديد يرجع إلى الأرشيف المحفوظ، المهم في كل مرة لابد من إشغال الناس كحال صاحب الكيس والفئران، فهو يحركها كل مرة حتى لا تهدأ فتخرق الكيس وتفر هاربة، لابد من إشغال العامة حتى يحصل التنفيس خشية الانفجار، هكذا أرى الأمور وهكذا تظهر لي.
لكن ونحن نستكر فساد مسؤول هنا أو هناك، ونشجب قرارا جائرا هنا وهناك، ونشكو من خرجات هنا وهناك، لابد من التنبيه على أمر مهم للغاية؛ هو أن ما نستنكره من مظاهر الفساد السياسي أو الاقتصادي وهذان غالب ما ينصرف إليه الاستنكار من طرف العموم، إنما هو فساد فرع عن فساد أصل، وهذا الفساد في الأصل لم يسلم منه إلا القليل ممن رحم الله.
إن ما يقع من فساد في مجالات كثيرة في بلاد المسلمين وليس خاصا بالمغرب يقع للأسف من أناس محسوبين على الإسلام؛ دين العدل والحق والكرامة، لكن فساد الدين عند عموم الناس هو سبب كل شر وفساد يقع في الأمة، وهنا أؤكد ان الحديث يهم المسلمين، فلا مجال للمقارنة مع غير المسلمين الذين يسوق البعض عنهم زورا أنهم قوم منضبطون أخلاقيا، سالمون من الفساد في مختلف مجالات الحياة.
وهذا ضرب من الكذب عند البعض ومحض خيال عند بعض آخر، وقد شهد العالم مستوى الفساد الذي مارسه هؤلاء المتخلقون في مجال اللعب واللهو وأقصد (كأس العالم)، حيث مورس الفساد بشكل فج وقبيح في مجال اللعب واللهو، فكيف هو في مجال الجد والمعقول، فذاك أمر لا يعلمه الا الله.
لكن للأسف، ومربط الفرس في هذا المقال أن أشير إلى أن فساد الدين ليس بعده فساد، حتى وإن صلحت الدنيا فلا قيمة لهذا الصلاح إن فسدت الآخرة، وهذا ميزان الإسلام والمسلمين، وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا) فكل مصيبة دون المصيبة في الدين فهي هينة، وكل فساد بعد الدين لابد أن يصلحه الدين، وإلا لن يصلح أبدا إذا فسد الدين عند من يزعمون الإصلاح في بلاد المسلمين.
فما نعيشه اليوم من فساد سواء في قطاع العدل أو التعليم أو الاقتصاد أو الصحة أو الإدارة أو غيرها من مرافق الحياة ومجالاتها فهو حاصل لفساد الدين عند المسلمين للأسف، فمن يستنكر فسادا هنا فهو واقع في فساد آخر هناك، فالعجب كل العجب أن يستنكر فساد القضاء شخص فاسد أخلاقيا، ينشر الإباحية والانحلال، أو يستنكر فساد الإدارة شخص ينشر فساد العقائد وانحرافات الإلحاد… وهذا على سبيل المثال.
إن الأمة لما تخلت عن الالتزام بالدين كمشروع أمة ومنهاج حياة فلا غرابة إذن من تجدر الفساد وسطوته وبسط سلطته وعدم رهبته، ودليل ذلك أنه في كل مرة تطفو إلى السطح قضية يستنكرها الناس وتمر الأيام وتبقى دار لقمان على حالها في انتظار زوبعة أخرى وهكذا، وخير دليل آخر القضايا (امتحان المحاماة). ومما يؤكد أن فساد الدين هو المصيبة الكبرى التي قلما يستنكرها الناس هو خروج صاحب مشكلة الامتحان خرجة أطم وأشر وأقبح مما وقع في مباراة المحاماة، وقال كلاما دنيئا فيه قدح واستهانة بدين الله وكتابه وشرعه، فأين المستنكرون؟؟؟
لا همَّ لهم إلا دنيا صالحة، وإن فسدت الآخرة لا يهم. وعليه فما دام الحال هو الحال من فساد الدين والأخلاق والقيم، وغياب تعاليم الإسلام الشمولية عن الحياة، فلا أمل في المآل إلا زيادة الأعطال والأعطاب، وفشو مزيد من الظلم والطغيان.
هذا الظلم والطغيان وتجاوز القيم يمارسه كل بحسبه، كان مسؤولا أو مسؤولا عنه، إلا إنسانا يخاف ربه ويخشى لقاءه، ويأخذ بحَكَمَته الدين وشرائعه، ويردعه الوحي وآياته، أما من يعتبر الوحي (نقاشا فارغا) وما أكثر هؤلاء، سواء كانوا في المسؤولية أو لم يكونوا، فمتى يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون به من عدل وشفافية ونزاهة وأداء للحق، ومحاربة للغش والرشوة والمحسوبية والزبونية.
إن المسؤول الذي يمارس الزبونية أو يأخذ الرشوة لا يفعل ذلك إلا بوجود مواطن مستعد ليبحث عن الوساطات ليأخذ حق غيره، أو يقدم رشوة ليسطوا على مكان غيره. وقد لعن الله الراشي والمرتشي، وهنا تظهر المعادلة؛ أنه لا وجود لمسؤول فاسد الا بوجود مواطن فاسد، وأن هذا الفساد يستشري حين لا يكون هناك شرع رادع وعقاب دافع، ولا ترجع النفوس عن غيها مالم يكن لها من الله رادع. ومن أمن العقوبة في الدنيا أو الآخرة أساء الأدب والتصرف، ولم يخف ولم يتعفف.
إن الإسلام ربى جيلا لم تعرف له البشرية مثيلا في الرقابة والنزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، ومعاقبة الجاني مهما كانت منزلته، وكان فيهم الحق والقانون فوق الجميع دون استثناء، ومن أراد شواهد ذلك فليطلبها في مضانها فهي أكثر من أن تحصر، وحسبكم من ذلك قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطت يدها)، وانما كان القوم كذلك لان دينهم كان صالحا وخشيتهم لله كانت بالغة، وهمهم بالآخرة وملاقاة الحكم العدل مؤرقا.
فشتان بين من هذا حاله وبين امة لا هم لها الا ان تعيش على هواها وتحقيق نزواتها، وتلبية رغبات النفس، فلا لوم ان ظهرت اشكال من الفساد ما دام الفساد قد نخر الأصل، الذي هو رقابة الله وخشية لقائه وافراده بالعبودية والاستسلام، يقول العزيز الحكيم في محكم التنزيل {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.
ولهذا ما فشا الفساد العمراني في قوم عاد، والفساد المالي في قوم شعيب، والفساد الأخلاقي في قوم لوط، وانتهاك حرمة الدماء في قوم موسى…، إلا لما فشا الفساد العقدي والإيماني، ولذلك لما جاء الأنبياء إلى هؤلاء كان أول شيء قبل إصلاح مظاهر الفساد الفرعي هو قيامهم بإصلاح أصل الفساد، الذي هو فساد العقيدة والإيمان والارتباط بالله الواحد القهار.
هذه هي سنة الله في خلقه عامة وفي المسلمين خاصة، وإلا فمزيدا من الفساد حتى وإن صرخ الصارخون وشجب الشاجبون واستنكر المستنكرون، ولن يتغير شيء حتى تصلح الأمة ما بينها وبين الله فيصلح الله حالها فيما بينهم، يقول رب العالمين الذي بيده التغيير والتبديل: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ}، تأملوها جيدا، فلا أمن ولا كرامة ولا عدالة اجتماعية إلا بتحقيق تمام التوحيد والانقياد لرب العالمين، وغير ذلك فضياع للأوقات والجهود والطاقات، ولن تجد لسنة الله تبديلا.