إسبانيا من الحرب الأهليّة إلى الدّيموقراطية… الدّروس المستفادة
هوية بريس – عادل بنحمزة
عاشت إسبانيا واحدة من أسوأ الحروب الأهلية في العالم، وتحتضن إلى اليوم أكبر عدد من المقابر الجماعية الموثقة التي تفوق 23 ألفاً، تلك المقابر شاهدة على تلك الحرب المدمرة، وقد عاشت البلاد بعد نهايتها في ظل ديكتاتورية عسكرية قاسية بقيادة زعيم القوميين الجنرال فرانكو، لكن إسبانيا مع ذلك عرفت الوصفة السحرية للتخلص من الفقر والتخلف والحروب، وكانت الوصفة باختصار هي الديموقراطية.
الانتقال الديموقراطي في إسبانيا يعتبر إحدى التجارب المدهشة والناجحة في الوقت نفسه، ورغم المحاولة الانقلابية على التجربة بداية الثمانينات من القرن الماضي، فإن توافق القوى السياسية وصدقية المؤسسة الملكية، كانا حاجزاً أمام مشاريع النكوص. إسبانيا أيضاً استطاعت في سياق تدابير الانتقال الديموقراطي أن تستوعب النزعة المناطقية/الجهوية بنفسها الانفصالي، وكان الحل هو تمكين جميع الجهات من حكم ذاتي حقيقي، وحتى عندما تعاظمت النزعة الانفصالية في كتالونيا لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، فقد كان الدستور هو الفيصل وسند الشرعية التي تمثلها الحكومة المركزية في مدريد، فرغم التوترات التي عرفتها منطقة كتالونيا لمناسبة الاستفتاء الشهير الذي أجري من أجل استقلال الإقليم، فإن الدولة نجحت في بسط نفوذها وسيطرتها، بينما لو واجهت دولة أخرى مثل ذلك التحدي، لكانت مقدمة لحرب أهلية جديدة أو الانقسام. يبقى السؤال هو: لماذا نجحت إسبانيا؟ والإجابة ببساطة لأنها تقوم على نظام قوي يتمتع بالشرعية والمشروعية.
مثلت تجربة الانتقال الديموقراطي في إسبانيا أحد النماذج التي استأثرت باهتمام السياسيين والأكاديميين من مختلف دول العالم، وتحولت إلى موضوع بحوث خاصة في علم السياسة والانتقال الديموقراطي، كما تحولت لدى كثير من الفاعلين السياسيين في الدول التي تعرف تعثراً في بناء الديموقراطية، إلى “براديغم” مثالي يسعون إلى تطبيقه في بلدانهم، وقد شكل “الربيع العربي” فرصة أخرى لاستحضار التجربة الإسبانية في سياق المرحلة الانتقالية التي عرفتها كل من تونس ومصر وليبيا، كما أن التجربة الإسبانية كانت ملهمة للتحولات التي عرفتها أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين، وشكلت نموذجاً لتجارب الانتقال في أميركا الجنوبية.
سعى مسلسل الانتقال الديموقراطي في إسبانيا، من جهة إلى تحديث الدولة وهي تتجه نحول المستقبل وإدماجها في أوروبا وتحقيق التنمية الاقتصادية، ومن جهة أخرى إغلاق التاريخ الأسود لإسبانيا متمثلاً في الحرب الأهلية وتركتها التي قسمت البلاد في ظل أربعين سنة من حكم الديكتاتور فرانكو. من زاوية النظر هاته يمكن القول إن الانتقال الديموقراطي شكل مصدراً لشرعية النظام السياسي الإسباني ولتحديث الدولة الإسبانية وللازدهار الذي تعرفه. لقد امتدت التجربة الإسبانية في الانتقال من سنة 1975 تاريخ وفاة فرانكو إلى سنة 1982 التي تحقق فيها التناوب السياسي بعد وصول الحزب الاشتراكي (PSOE) بزعامة فيليبي غونزاليس (1974-1997) إلى الحكم على إثر فوزه بالانتخابات، معلناً عودة الاشتراكيين إلى السلطة بعد غيابهم عنها منذ الجمهورية الإسبانية الثانية، مروراً بسنة 1978 التي اتسمت مفاوضاتها باعتدال جميع الأطراف، وهو ما مكنها من التوافق على الدستور الذي أقر دولة الجهات وقطع مع مخلفات الحرب الأهلية ومرحلة الحكم الديكتاتوري، وبصفة خاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية في 23 شباط (فبراير) 1981 التي أعلنت موت آخر قلاع مقاومة التغيير الديموقراطي من بقايا عهد فرانكو، علماً أن هناك من يتحدث عن محاولات انقلابية غير تلك المحاولة، بل يمكن القول إن التجربة الإسبانية أثبتت نجاحها بصفة كاملة عندما خسر الحزب الاشتراكي انتخابات سنة 1996 التي فاز فيها الحزب الشعبي (PP) المحسوب تقليدياً على إرث فرانكو، بزعامة خوسي ماريا أثنار.
يقول دون طوركواتو فيرنانديث ميراندا رئيس الكورتيس ومربي الملك خوان كارلوس، إنه “سهل الأمر على تلميذه، الذي وضعت الأقدار في يده فرصة التصرف في مصير إسبانيا، بأن أفتى له بأنه إذا كانت مبادئ “الموفيمينتو” قانوناً، فإن القانون يتم تغييره بقانون غيره”، وباستيعاب هذه المقولة سقطت تفاحة نيوتن وأقبل الملك على سن قوانين جديدة استناداً إلى شرعية القوانين التي أقامها فرانكو. فعملية الانتقال الديموقراطي في إسبانيا هي عملية سياسية متناقضة إلى حد ما، لأن هناك نوعاً من الفارق أو الاختلاف بين الشكل الذي تحققت به ومحتوى هذه العملية في حد ذاتها، وذلك لأن الآليات المؤسسية التي غيّرت الدولة الإسبانية احترمت من حيث الشكل أسس الشرعية التي قام عليها نظام فرانكو. ومع ذلك، إذا اعتمدنا الإصلاحات كمرجع، فإنه لا يمكننا الحديث عن تغيير النظام السياسي، بل عن تحول كلي في القواعد الأيديولوجية والهياكل التي تقوم عليها مؤسسات الدولة، لذلك من الضروري الانتباه إلى جوانب معينة من تلك العملية، بخاصة:
– ضرورتها، لأن النظام السياسي السابق لم يتكيف مع حاجات مجتمع خضع لتغييرات عميقة، ولأن قادة ما بعد فرانكو، وبصفة خاصة الملك، كانوا بحاجة إلى شرعية ديموقراطية يفتقرون إليها.
– كانت مطلباً مجتمعياً، فالاحتجاج الاجتماعي ضد النظام الديكتاتوري كان قوياً، إذ فشلت الآليات القمعية في السيطرة على مجتمع يتغير ويتطور.
– طابعها التفاوضي، لأنها كانت ثمرة نقاش جمع بين مختلف قوى نظام فرانكو وقوى المعارضة الديموقراطية، توج بالموافقة على النص الدستوري.
التجربة الإسبانية تثبت أنه ليس بالضرورة أن تقوم عملية الانتقال نحو الديموقراطية وفق قواعد اللعبة الصفرية، بمعنى الفائز يكسب كل شيء والخاسر يخرج خاوي الوفاض، بل وفق نموذج يحافظ على بنى الدولة وضمان حق الجميع في التعبير عن الرأي وامتلاك الحظوظ نفسها للوصول إلى السلطة، ويبدو أن كثيراً من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بحاجة إلى هذا الدرس…