إصلاح العلماء.. لماذا وكيف؟!
هوية بريس – د.أحمد الريسوني
رسالة العلماء:5
أوضحتُ في الحلقتين الأولى والثانية -من هذه الحلقات- رسالة العلماء ومسؤوليتَهم، ومكانتَهم القياديةَ في المجتمع الإسلامي، وأنّ صلاح حالِ الأمة رهين بصلاح علمائها وأمرائها، والعكس بالعكس.
ومن الواضح أن مكانة العلماء وتأثيرهم اليوم، قد تراجعا كبيرا، في ظل نمط “الدولة الحديثة” المفترسة، وفي ظل التطورات والمؤثرات الاجتماعية والثقافية والإعلامية والتكنولوجية المعاصرة.
ولكن أيضا مما لا شك فيه أن تقلص المكانة العلمائية والتأثير العلمائي في هذا العصر، يرجع في قدر منه إلى حالة العلماء أنفسهم، وإلى التدني الذاتي في أهلية العلماء ومصداقيتهم وفاعليتهم.
فالتشوف والسعي إلى استعادة العلماء لمكانتهم ورسالتهم، وإلى تصدرهم للجهود والمبادرات الإصلاحية الإسلامية في مجتمعاتهم، وعلى صعيد الأمة عموما.. كل ذلك منوط، بل مشروط، بإصلاح أحوالهم وتجاوز أعطابهم وعوائقهم الذاتية. فالجسم العُلمائي ليس استثناء من قاعدة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} [الرعد: 11].
وكما قال الشاعر الزاهد أبو العتاهية:
لن تُصلِحَ الناسَ وأنت فاسِدُ … هَيهاتَ ما أَبعَدَ ما تُكابِدُ
وهنا تحضرني طُـرفة سمعتها في الجزائر، وكثيرا ما أستعيرها وأستشهد بها في هذا السياق؛ وهي أن أحد العلماء الجزائريين المعاصرين، كان في وليمة، فلما أُتِــيَ بالماء والصابون لغسل يديه، وجد الصابون ملطخا وسخا، فنادى صاحبَ البيت مازحا معه: يا فلان، هذا الصابون يحتاج إلى صابون..!
العلماء هم الصابون وصناع الصابون لأمتهم. لكن كيف إذا أصبحوا بحاجة إلى صابون لأنفسهم، أي أصبحوا بحاجة إلى إصلاح حالتهم وتنظيف هيئتهم؟!
حينما شَـرع الوحيُ في تأهيل النبي الأكرم والمصلح الأعظم، صلى الله عليه وسلم، وضع على عاتقه عدة أوامر وتكاليف أولية، نقرأها في مطالع سورة العلق، وسورة المزمل، وسورة المدثر. وكان من جملتها قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4، 5]، تنبيها على أن المصلح لا بد أن يعتني أولا – ودائما – بإصلاح نفسه وتطهير ثيابه وما هو متلبس به… وإذن، فلا غضاضة علينا ولا لوم إن دعونا السادة العلماء إلى العناية بتطهير ملبوساتهم وتحسين هيئاتهم، وهجر آفاتهم، ومعالجة أعطابهم.
والجسم العلمائي – فيما أرى – يحتاج إلى ثلاثة أصناف من المداواة والإصلاح:
– إصلاح سلوكي أخلاقي،
– إصلاح علمي تجديدي،
– إصلاح عملي تحديثي.
• أما الإصلاح السلوكي الأخلاقي،
فالمراد به إصلاحُ ما يعتري بعض العلماء من انحرافات سلوكية خُلقية، لا تليق بمقامهم.
ويأتي في طليعة هذا الجانب: انغماس بعضهم في أجواء الحكام الفاسدين الظلمة، ومجاراتهم لهم، وتأييدهم في ظلمهم وانحرافهم. وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لكعب بنِ عُجرة: (أعاذك اللهُ من إمارة السفهاء. قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يَستـنُّون بسنتي، فمَن صدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم…).
فهذه هي الورطة، أو الطامة، التي يقع فيها بعض العلماء المخالطين والتابعين لأمراء الجور والفساد: تصديقهم بكذبهم، وإعانتهم على ظلمهم. ثم يأخذون على ذلك أجرا وسحتا، تتخمر به عقولهم وتتورم به نفوسهم. ويزداد الأمر قبحا وإثما حين يعمد بعضهم إلى تحريف الأحكام وتطويع النصوص الشرعية، حتى توافق هوى الحاكم ومصلحته وسياسته.
والانغماس في أجواء السلطة الفاسدة له من الضغط والإغراء والتأثير على النفوس ما لا يمكن مقاومته والسلامة منه لمن وقع فيه. حتى لقد اعتبره ابن القيم نوعا من أنواع السكر والعربدة، فقال: ” وكذلك سكر السلطان والرئاسة، فإن للرئاسة سكرا وعربدة لا تخفى” .
فالعالم إذا كان بإزاء حالة كهذه، أو أي حالة أخرى فاسدة جارفة، لا يسعه إلا أحد أمرين: إما التعامل معها بشكل محدود وحذر، بحيث ينفع ولا يضر ولا يتضرر، وإما الابتعاد عنها تماما. وأرض الله واسعة. أما مداومة الانغماس والارتباط والتبعية، فلا بد أن تجعل العالم نفسَه فاسدا مفسدا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: “ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتُهم الأمراءَ والسلاطين، ومداهنتهم وتركُ الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك. وربما رخصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه، لينالوا من دنياهم عرَضا، فيقع بذلك الفسادُ لثلاثة أوجه:
– الأول الأمير، يقول: لولا أني على صواب لأنكر عليَّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي.
– والثاني العامي، فإنه يقول: لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلانا الفقيهَ لا يبرح عنده.
– والثالث الفقيه، فإنه يُـفسد دينه بذلك” .
ومن مسالك العلاج النافع الناجع لهذه انزلاقات المحدقة بالعلماء، ترصدها في أوقات مبكرة من مراحل تكوين العلماء. ومن ذلك تضمين مواد الدراسة مادةً عن “أخلاق العلم والعلماء”، تُـقدم فيها جملة من الأحكام والأخلاق والآداب الأكثر اتصالا بالعلم والعلماء ورساتهم، مع تدريس جملة من التراجم والسِـيَـر للعلماء النموذجيين في نزاهتهم واستقامتهم واستقلاليتهم وعزة نفوسهم…
• وأما الإصلاح العلمي التجديدي،
فالدعوة إليه تنبعث وتنطلق من الواقع الذي نعيشه ونعاني منه؛ وهو أن كثيرا من علمائنا ما زالوا يعيشون درجات متفاوتة من الجمود والقصور والاجترار، ومن عدم القدرة على استيعاب التطورات والتغيرات والتحديات التي أنتجها ورمانا بها العصرُ الحديث، على كافة الأصعدة. وهي كلها تطورات ومستجدات تتطلب من علمائنا تجديدا عميقا في ذواتهم ومناهجهم، ومواجهة مكافئة للتحديات المحيطة بهم، واجتهادا واسعا في قضايا عصرهم ومحيطهم، وعدم الاقتصار على ما أنتجه السابقون..
ومنذ قرن من الزمان، أو يزيد، تُـطلق النداءات بعد النداءات، وتبذل الجهود والمحاولات، لأجل تحقيق التجديد والإصلاح الفكري والعلمي والتعليمي. وقد تحقق من ذلك الشيء الكثير، ولكن ما بقي أيضا كثير أو أكثر..
فهذه الجبهة الجهادية؛ جبهة الإصلاح والتجديد العلمي، يجب المرابطة فيها، وخوض معاركها، واستكمال متطلباتها.
• وأما الإصلاح العَمَلي التحديثي،
فأقصد به ما يتعلق بوسائل العمل وأساليبه وأدواته.
وأقصد أن ولوج علمائنا لاستعمال الأساليب والوسائل الحديثة ما زال ضعيفا، ويسيرُ سيرا بطيئا، وهو ما يجعل عطاءاتهم ومشاركاتهم وإنتاجاتهم ضعيفة، ومحدودةَ الأثر، مقارنة مع غيرهم ومَن هم دونهم من مختلف الفئات الفاعلة في المجتمعات المعاصرة..
وبصفة خاصة، نجد ذوي الأنشطة والمنتجات المفسدة والمضللة والساقطة والتافهة، يصولون ويجولون، ويغزون الميادين والأسواق، ويتحكمون في العقول والأذواق، بينما علماء الإسلام ودعاته أصواتهم خافتة مبحوحة، وهي تبقى في مساحات ضيقة محبوسة.
نحن اليوم – للأسف – في عالم ينجح فيه ويسيطر أصحاب الوسائل القوية والأساليب الفعالة، ولو كانت بضاعتهم رديئة ومقاصدُهم خسيسة، بينما يفشل أصحاب الوسائل العتيقة والأساليب الضعيفة، ولو كانت بضاعتهم ممتازة ونفيسة. ولمثل هذا كان سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يدعو ويقول: “أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعجزَ الثقة”.
لذلك فمن الواجب الأكيد أن يكون أصحابُ الأفكار الجيدة أصحابَ وسائل جيدة، وأصحابَ أساليب فعالة، وأدوات متطورة.
وبالمناسبة أدعو إلى تنظيم دورات وحلقات نقاشية للعلماء، مخصصة لتحسيسهم وتوعيتهم بأهمية هذه القضية وأبعادها وجوانبها التنظيمية والتواصلية والتكنولوجية، وتدريبهم وترقيتهم في مهاراتها الضرورية.
حفظكم الله و زادكم حكمة و علم ..