إظهار شعائر السلام واجب الوقت
هوية بريس – د. أحمد اللويزة
في نهاية شهر رمضان من كل سنة يدور نقاش حول زكاة الفطر، وهل تخرج طعاما كما هو نص الحديث وظاهر السنة، أم تخرج مالا كما هو ظاهر مقصد الزكاة في ذلك اليوم حسب ما يراه القائلون بإخراجها نقدا.
وبعيدا عن نقاش المشروعية والإجزاء، فقد انقدح في الذهن ما أشار إليه بعض أهل العلم، وهو وجيه وبالغ الأهمية، وينبغي ألا يغفل في النقاش الذي يقتضي أن يبقى علميا ولا يتجاوز حدود مناقشة الأدلة ودلالاتها ومقاصدها بعيدا عن الاتهام والاتهام المضاد.
هذا الذي أود الإشارة إليه مما قاله بعض أهل العلم وهو من أوضح المقاصد وأبلغها وأحراها في المراعاة، في سواء في موضوع زكاة الفطر أو غيرها من الشعائر التعبدية التي أمرت بها الشريعة الإسلامية في القرآن أو السنة. ألا وهو قضية إظهار الشعائر وإبرازها. وهذا الأمر من تأمل الشريعة الإسلامية وأوامرها ومقاصدها يجدها تركز عليه كثيرا وتوليه اهتماما بالغا وترفعه إلى مقام الوجوب أحيانا.
فإخراج زكاة الفطر ليس غايتها إغناء الفقراء فحسب كما هو ظاهر نص الحديث، ولكنها أبلغ من ذلك، فهي شعيرة من الشعائر التي ينبغي إظهارها وإبرازها والحرص عليها، كي يعيشها المسلمون بأسماعهم وأبصارهم ووجدانهم وما يرتبط بها من رواج في المجتمع تعيشه الأجيال مستشعرة به حضور الإسلام من خلال هذه الشعيرة الإسلامية التي لن يبقى لها أثر ولا صيت ولا ظهور إذا طال الزمن بالناس وهم يخرجونها نقودا يخرجها الرجل من جيبه ويضعها في يد الفقير بلا حس ولا أثر. حيث يغيب إظهار العبادة وإشهارها كما هو قصد الشارع في جل العبادات التي أمر بها.
فلقد شرع في الإسلام الأذان خمس مرات في اليوم وهو أقوى ما يدل على إظهار الشعائر الإسلامية وإعلانها، وحث الإسلام المؤذنين على رفع الصوت ليبلغ أبعد مدى فقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ، إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ). وكان الأذان شعار الإسلام الخالد وعلامة على ظهور الإسلام في القرى والبلدات، وما يتعلق به من بناء المساجد وإقامة الصلوات الخمس والجمعة والعيدين…
كما حث الإسلام على تسوية الصفوف في الصلاة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوى صفوف الصحابة كما يسوي القداح.
وأمر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في صلح الحديبية أن يظهروا تعظيمه وتقديره أمام مبعوثي قريش ومفاوضيهم، ورخص لهم في مشية الخيلاء أمام الأعداء، في الغزوات والحروب.
وفي عمرة القضاء بعد صلح الحديبية ودخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين، أمرهم بإظهار القوة والجلد في الطواف والسعي أمام قريش الذين زعموا أن الصحابة ضعفاء قد أوهنتهم حمى يثرب، فسارعوا في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف، كما هرولوا في السعي، ليُظهروا للمشركين قوتهم.. وكانت قريش قد خرجت من مكة وتجمعت على جبل قعيقعان، ينظرون إلى المسلمين كيف يفعلون في طوافهم وسعيهم كما جاءت به الشريعة الإسلامية.
وجعل الاسلام تأخير السحور علامة على ظهور الإسلام والمسلمين وأنهم بخير ما فعلوا ذلك.
وفي الغزوات كان الصحابة يرفعون الراية ويحملها القادة، وفي غزوة مؤتة تناوب عليها ثلاثة من القادة كلما قتل قائد حملها الآخر حرصا على عدم سقوطها. وما كان لهم ولا للإسلام أن يحرص على قطعة قماش لولا ما فيها من علامة ظاهرة تدل على بقاء قوة الإسلام وقوة المسلمين وأن سقوطها علامة على الهزيمة، حتى إن جعفر رضي الله عنه حملها بيمينه فقطعت فحملها بشماله فقطعت فاحتضنها بصدره حتى قتل ثم تسلمها عبد الله بن رواحة…
وكما حث الإسلام على إخفاء الصدقة كما حث على إظهارها تحفيزا وتشجيعا للغير لمن ملك قلبه وسلم من الرياء قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم) البقرة.
هذه أمثلة وإلا فان معظم شعائر الإسلام هي شعائر ظاهرة تمارس في العلن وينادى بها ويجهر بها ويتنافس الناس على فعلها، ويتغابطون فيها… وكل ذلك من أجل أن يبقى الدين ظاهرا.. وهذه الشعائر لا فرق فيها بين أصول وفروع، ولا بين قشر ولب، كما يقول البعض سامحهم الله، ومنهم من يعد ضمن من يحمل هم المشروع الإسلامي ونصرة الشريعة.
فإظهار الشعائر إظهار للدين وحث عليه وقمع لشعائر الكفر والشرك والزندقة، وذلك يكون بأمر جليل كما يكون بأمر دقيق. وأحيانا قد يكون إظهار الشعيرة اليسيرة أبلغ من الشعيرة الكبيرة بحسب ما يقتضيه الزمان والمكان.
وتأمل أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتأخير السحور وجعله علامة على بقاء الإسلام ظاهرا، وحرصه على تسوية الصفوف وجعله سببا في اتحاد الأمة وتأليف قلوبها مما يجعلها قوية عزيزة؛ لأن الضعف يحصل مع الاختلاف والتدابر، وهي أمور قد تبدو للعامة يسيرة وليست ذا بال مقارنة ببعض الشعائر العظمى. وللأسف لم يزل الناس يتخلون عن شعائر الإسلام واحدة واحدة حتى أصبح الإسلام غريبا حتى بين أهله، وصدقت فيهم نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: (لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة). رواه أحمد.
ومن تأمل الحرب على الإسلام وشعائره فقد بدأت بكبيرها إلى صغيرها، فالحرب أحيانا تركز على الصغير؛ لصعوبة الكبير من الشعائر وصعوبة التخلي عن صغير الشعائر، والأعداء اليوم حاربوا الإسلام وهدموا أصوله بالتركيز على أمور هي عند كثير من المسلمين ثانوية للأسف رغم أنها شعائر ربانية وأوامر إلهية؛ كالحجاب واللحية والقميص والسواك والاختلاط والمصافحة… ولما سقطت الدولة العثمانية كان أول عمل قام به الهالك أتاتورك هو الغاء شعائر الإسلام الظاهرة، كالآذان واللغة العربية والحجاب واللحية، وما قام به الاستعمار الغاشم في بلاد المسلمين لم يخرج عن قاعدة محاربة هذه الشعائر الظاهرة، دون أن ننسى ما فعله الصليبيون بشعائر الإسلام وأهله إبان سقوط الأندلس.
وقد تم هذا الأمر على نطاقين؛ نطاق عملي، وآخر فكري ينشر في الناس فكرة مفادها أن الدين علاقة فردية خاصة بالإنسان وربه، وأن الايمان في القلب ومن أراد الدين فليمارسه في المسجد… وأن الإسلام ليس هو المظاهر وأن الله ينظر إلى قلوبكم ووو…
والمصيبة أنه انخرط في هذا فئام من المحسوبين على العلم والدعوة والصحوة والمشروع الإسلامي، حتى انتهى بنا الحال إلى أن أصبح إظهار الشعائر الكبرى بله الصغرى أمرا مخجلا عند البعض، وعند آخرين مسبة ومنقصة وعيبا وجريمة وتهمة وإرهابا وتطرفا وتشددا وهلم جرا.
كل ذلك في مقابل التشجيع على إظهار شعائر الانحلال والفجور والكفر والإلحاد والزندقة والعهر والشذوذ، وكل أنواع المقت التي تتعارض مع الفطرة والهوية والدين والعقل السوي، بدعوى الحرية الشخصية والحداثة والتحضر. والحرب في هذا المضمار لم تنته، وها قد حرم المسلمون والعالم من فريضة الحج وسنة العمرة وصلاة التراويح أيضاّ، وما لهذه الشعائر من رمزية عظمى في إبراز الإسلام وشعائره ومكانته وأثر ذلك في النفوس والعقول، ودعوة عالمية إلى الإسلام العالمي.
وهنا لا بد من توجيه رسالة إلى كل من يحمل في قلبه ذرة هم لهذا الدين، ويحلم بغد يسود فيه الإسلام وشعائره أقول لهم: إننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى وجب علينا اظهار شعائر الإسلام صغيرة وكبيرة، والافتخار بذلك والاعتزاز به، بل إن من أجَل عبادات الوقت إظهار الشعائر ممارسة ودعوة، سواء كان ذلك بالصلاة في الفضاءات العامة دون خجل ولا استحياء، أو التزاما بالحجاب الشرعي للمرأة المسلمة، أو إعفاء للحية اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اقتداء بأهل الخنا والمجون والتفاهة، وقراءة القرآن بشكل علني، وترك مصافحة المرأة الأجنبية، واستعمال السواك، ولبس القميص والجلباب وتقصير الثياب للرجال…
فواجب على كل مسلم ان يحرص على إظهار شعائر الإسلام فإنه بإظهارها يبقى الإسلام ظاهرا شامخا ويزداد شموخا وصلابة، وهذا الإظهار هو من باب نصرة الإسلام ومن حقه علينا.
ودليل على صدق الايمان وتقوى القلوب قال تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) الحج.) ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُو خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ). الحج. وان ترك ذلك هو خذلان للإسلام وشعائر الإسلام واستهانة بها، وعواقب ذلك وخيمة في الدنيا واللآخرة. ففي الدنيا ذل وهوان، وفي الآخرة حساب وعذاب نسأل الله العافية.
وإن من الغريب الذي يؤسف له ان كثيرا من شعائر الإسلام التي كانت تقابل بالاستهزاء والاحتقار حتى عند بعض المسلمين، أصبحت اليوم تمارس من باب الموضة كإعفاء اللحية، أو تقصير الثياب، أو من باب ما يحث عليه الطب الحديث كالحجامة مثلا.
إنه لا يليق أبدا، وخاصة من في الصف الأول من الدعاة، أن يكون مستهينا ولو باليسير من شعائر الإسلام، وإن مما يصيب القلب بالألم والحسرة أن تجد من يمارس الدعوة أو محسوبا على أهل العلم واقع في الانهزام عاجز عن إظهار بعض شعائر الدين متقزز منها حتى، فلا تراه إلا حليق اللحية من جذورها، أو لابسا لباس من لا خلاق لهم أحيانا، أو يرد موارد الشبه والتهم أو مستهينا بالاختلاط والمصافحة… الخ، في الوقت الذي نجد الأعداء يحاربون الإسلام في أدق دقائق شعائره ويحرصون على طمرها ومحو أثرها، وهذا كاف في الدلالة على أن ما يستهين به المسلمون من شعائرهم هو بالنسبة لأعدائهم وأعداء الإسلام سلاح فتاك وخطر على هوياتهم واختياراتهم الدينية والفكرية والسلوكية.
وما تفعله فرنسا مع الحجاب واللحوم الحلال على سبيل المثال ليس عنا ببعيد، رغم أنها دولة غارقة في المشاكل، تركتها كلها ولم يبق لها إلا هم واحد تركز عليه كل الجهود هو محاربة شعائر الإسلام.
فأظهروا شعائر دينكم فهو مصدر عزكم وفخركم، وقد قال عليه الصلاة والسلام (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري).