إعدام بالمهجر.. قصص معارضين عرب اغتالتهم أنظمتهم
هوية بريس – الجزيرة
المهدي بن بركة.. صالح بن يوسف.. منصور الكيخيا.. صلاح البيطار.. ناصر السعيد.. محمد خيضر.. طالب السهيل أسماء لأشخاص فرقتهم الأزمان والأوطان، لكن جمع بينهم المصير البائس، فقد كانت نهايتهم جميعا باغتيالات غامضة حدث أغلبها في مهاجرهم الأوروبية، لم يزل مرتكبوها رسميا مجهولين رغم الدلائل الواضحة على بصمات المخابرات في بلدانهم.
وكان على أسر المغدورين وأصدقائهم أن ينتظروا عقودا حتى تتكشف تفاصيل شحيحة لما حدث عبر تسريبات في الإعلام أو شهادات لبعض من كانوا قريبين من السلطة أو فيها زمن الجريمة، وفي كل الحالات ظل الجناة طلقاء ولم تطلهم يد العدالة التي ظلت في أيديهم حتى بعد ارتكاب الجريمة.
وقد ساهمت ثورات الربيع العربي وسقوط عدد من الأنظمة في إعادة إحياء هذه الملفات الغامضة، ولئن تكشفت بعض الحقائق والتفاصيل عن عدد من النهايات المأساوية فما زال بعضها يكتنفه الغموض في انتظار من يرمي حجرا بالبرك الساكنة منذ عقود.
المهدي بن بركة اغتيل بضواحي باريس واختفت جثته (مواقع التواصل الاجتماعي) |
بن بركة.. قتيل بلا جثة
في صباح 29 أكتوبر/تشرين الأول 1965 كان اليساري المغربي المعارض أحد مؤسسي حزب الاستقلال العريق المهدي بن بركة يحث الخطى نحو أحد المقاهي الشهيرة في وسط العاصمة الفرنسية باريس، فقد كان على موعد مع أحد المخرجين لإنجاز شريط وثائقي حول حركات التحرر في العالم، ولم يدر بخلده ولو لحظة أن هذه الخطوات هي خطواته الأخيرة وأنه سيكون على موعد مع الموت بعد اللقاء.
فبمجرد خروجه وجد في انتظاره سيارة تابعة للأمن الفرنسي بها شرطيان طلبا منه الصعود معهما بعد أن استظهرا بطاقتيهما المهنية لمزيد تطمين، وهو ما فعله دون تردد، لاعتقاده أن الشرطة لا تنصب الكمائن في عاصمة النور ورمز الحرية والمساواة والإخاء.
ويحكي جورج فيغون أحد من شاركوا في الجريمة، في مقال كتبه في وقت لاحق بجريدة الإكسبريس الفرنسية قبل أن ينتحر، أن الشرطيين نقلاه إلى فيلا بضواحي باريس، حيث أخبراه أنه سيلتقي بمسؤول فرنسي كبير يريد لقاءه بعيدا عن وسائل الإعلام، بينما كان رجال المخابرات الفرنسية في الواقع ينتظرون الجنرالين المغربيين محمد أوفقير وأحمد الدليمي اللذين سيحلان بالفيلا في صباح اليوم التالي.
وتقول أكثر الروايات رواجا إن بن بركة تعرض للتعذيب الشديد على يد ضباط المخابرات الفرنسية قبل أن يتسلمه الجنرال أوفقير ورفاقه ليصبح بعد ذلك جثة هامدة، ولا أحد يعرف تفاصيل ما جرى بعد ذلك ولا أين أخفيت الجثة، وهل هربت إلى المغرب أم تخلصوا منها في فرنسا؟
ورغم إنكار السلطات المغربية أي علاقة للدولة بالجريمة وتسمية أحد أكبر شوارع العاصمة الرباط باسم المهدي بن بركة، مازالت أسرته تنتظر منذ أكثر من نصف قرن أي معلومة عن رفاته حتى تدفنه وتزور قبره، لكنه خبر يبدو أنه لن يأتي أبدا.
بن يوسف.. قتيل دفن مرتين
عندما وصل المعارض التونسي صالح بن يوسف إلى مدينة فرانكفورت الألمانية في 2 يونيو/حزيران 1961 قادما من القاهرة حيث يقيم بهدف العلاج من حساسية ألمت به في القدمين، لم يكن يعلم أن أذرع المخابرات تلاحقه وترصده لتصفيته بعد أن احتدم الخلاف بينه وبين الحبيب بورقيبة الذي استأثر بالسلطة.
وبعد أسابيع قليلة وتحديدا في 12 أغسطس/آب 1961 كان بن يوسف يستعد للسفر من مدينة فرانكفورت إلى العاصمة الغينية كوناكري لحضور مؤتمر الحزب الديمقراطي الغيني بدعوة من الرئيس أحمد سيكوتوري عندما جاءه اتصال يطلب منه لقاء البشير زرق العيون بهدف ترتيب لقاء بينه وبين الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة رفيق النضال وخصم السياسة، ووافق بن يوسف على اللقاء الذي حدد في الساعة السادسة مساء بفندق رويال بالمدينة الألمانية.
وفي الموعد المحدد دخل بن يوسف إلى الفندق ومعه زوجته السيدة صوفية زهير بعد أن ترك ابنيه الشاذلي ولطفي في مركز اصطياف، وطلب من زوجته انتظاره مع حقائب السفر بالمقهى المجاور وطمأنها بأنه لن يغيب أكثر من نصف ساعة ليرى ما سيعرضه عليه الوسيط مع بورقيبة، وبعد صعوده إلى الغرفة وبمجرد جلوسه على الأريكة خرج قاتلان من الحمام وأطلقا عليه النار من مسدس مزود بكاتم الصوت.
وبعد مرور ثلاث ساعات أدركت السيدة صوفية أن شيئا ما يحدث، فدخلت الفندق وسألت عن زوجها فأعلموها أنه خرج مع بعض الرجال، لكنها لم تصدق الرواية وصعدت إلى غرفة اللقاء لتجده في النزع الأخير يترنح في دمائه فوق الأريكة، ورغم طلب النجدة ونقله إلى المستشفى فارق بن يوسف الحياة بعد فترة قصيرة.
ونقل جثمان بن يوسف إلى القاهرة حيث دفن هناك، وبعد سقوط نظام بورقيبة ووصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 طالبت الدولة التونسية باستعادة رفات بن يوسف ليدفن من جديد في مقبرة الجلاز بالعاصمة تونس في 24 أغسطس/آب 1991 بعد 30 سنة من اغتياله.
الكيخيا.. الدفن في ثلاجة
عندما تحول منصور الكيخيا وزير الخارجية الليبي السابق والمنشق عن نظام العقيد معمر القذافي إلى القاهرة في ديسمبر/كانون الأول 1993 للمشاركة في اجتماع المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالقاهرة لم يدر بخلده أن هذه الرحلة ستأخذه إلى موعد مع الموت.
فقد أورد شهود عيان في تلك الفترة أن ثلاثة رجال بزي أسود كانوا يستقلون سيارة من نوع “ليموزين” تحمل لوحة دبلوماسية قاموا بخطف الكيخيا من أمام فندق السفير في القاهرة حيث كان يقيم.
وقال عبد الرحمن شلقم -وهو أحد صناديق أسرار القذافي- خلال العام 2011 إن الأمن المصري قبض عليه في القاهرة ونقله سرا إلى طبرق، حيث كان في انتظاره رئيس جهاز مخابرات النظام الليبي السابق عبد الله السنوسي.
وبعد سنوات من الغموض عثر على جثة الكيخيا في أكتوبر/تشرين الأول 2012 في ثلاجة بفيلا تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية السابق في طرابلس، وقالت السلطات الليبية إنها عثرت على الرفات بناء على معلومات قدمها عبد الله السنوسي، بينما تشير مصادر أخرى إلى أنه عثر على الجثة في ثلاجة للأموات بأحد المستشفيات في طرابلس.
وشيع رفات الكيخيا يوم 3 ديسمبر/كانون الأول 2012 في جنازة رسمية وشعبية في مدينة بنغازي مسقط رأسه بعد أن خضعت الجثة لتحليل الحمض النووي نظرا لتشويه ملامحها.
السعيد.. الإلقاء من الجو
في 17 ديسمبر/كانون الأول 1979 كان المعارض السعودي الأشهر ناصر السعيد يمشي في شارع بيروتي متلفعا معطفه ليتقي زمهرير الشتاء، لم تساوره الشكوك في أن لقاء بصحفي فرنسي كان مجرد فخ للإيقاع به.
فقد أصبح ناصر السعيد -المنحدر من منطقة حائل- معارضا شرسا للنظام السعودي منذ عمله في شركة أرامكو النفطية العملاقة، وحكم عليه بالإعدام ليهرب إلى القاهرة عام 1956، ويصبح عبر برامجه في إذاعة “صوت العرب” ثم مقالاته وكتبه ونشاطه السياسي في القاهرة واليمن الجنوبي (آنذاك) ولبنان وسوريا أهم المطلوبين لمخابرات الرياض.
في أيام بيروت تلك الغارقة في أتون الحرب الأهلية كان صاحب كتاب “تاريخ آل سعود” يتحسب من رصاصة قد تأتيه من مكان ما في المدينة التي كانت مرتعا لأجهزة المخابرات والجواسيس، وممثلي حركات التحرر والمقاومة.
لكن لم تأت الرصاصة في ذلك الصباح، إذ تؤكد روايات كثيرة وشهادات أن المخابرات السعودية خطفته في ذلك اليوم عبر مجموعة فلسطينية وقتل مباشرة بعد اختطافه ورمي من الطائرة في عرض السواحل اللبنانية ليتحول إلى أشلاء ممزقة ويبتلعه البحر والنسيان.
البيطار.. رصاصة بباب الصحيفة
في 21 يوليو/تموز 1980 كان المعارض السوري صلاح البيطار أحد أبرز مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي يهم بدخول مكتبه في صحيفة “الإحياء العربي” التي يديرها في شارع هوش بالعاصمة الفرنسية باريس عندما انطلقت فجأة رصاصات من مسدس مزود بكاتم الصوت لتكتم أنفاسه على باب الصحيفة.
كان البيطار من أشهر الوجوه السياسية السورية المعروفة وقد شغل عدة مناصب سياسية، منها رئاسة الوزراء، لكنه اختلف مع رفاقه البعثيين وصدر ضده حكم بالإعدام في عام 1966 ففر إلى لبنان، ثم إلى فرنسا حيث أسس صحيفة “الإحياء العربي” التي أصبحت تمثل شوكة في حلق نظام حافظ الأسد من خلال الحديث عن انتهاكاته.
وعقب الاغتيال نقل جثمان بيطار إلى العاصمة العراقية بغداد حيث دفن، ورغم أن الجريمة سجلت ضد مجهول فإن أصابع الاتهام وجهت إلى النظام السوري، وعقب الاغتيال صدر بيان باسم “المعارضة الوطنية الديمقراطية” وقعته شخصيات سياسية سورية على غرار أمين الحافظ وأكرم الحوراني اتهم حافظ الأسد بالوقوف وراء عملية الاغتيال، كما تحدثت شهادات عن تلقي البيطار تهديدات وتحذيرات قبل اغتياله من رفعت الأسد شقيق الرئيس.
خيضر.. قتيل برصاص الرفاق
في 3 يناير/كانون الثاني 1967، وفي ذلك المساء الرمضاني الماطر والبارد كان محمد خيضر أحد آباء ثورة التحرير الجزائرية التسعة يتأهب لمغادرة منزله في العاصمة الإسبانية مدريد ليزور أحد أصدقائه برفقة زوجته.
ولم يكد يصعد إلى سيارته الرابضة أمام منزله ويشغل محركها حتى فاجأه شخص جزائري وطلب منه بإلحاح أن يترجل من السيارة للحديث معه في أمر هام، وأمام رفض خيضر النزول وطلبه تأجيل الموعد للغد أخرج الضيف فجأة مسدسا وأفرغ شحنة الرصاص في جسده ليرديه قتيلا في عين المكان.
ورغم تفكيك الشرطة الإسبانية لأسرار قضية مقتل خيضر وتحديد هوية القتلة وربطهم بالمخابرات الجزائرية، فإن حاكم إسبانيا القوي آنذاك الجنرال فرانكو أصدر أمرا بإغلاق الملف، ورد المراقبون ذلك لعلاقته القوية بالنظام الجزائري آنذاك.
ولم يدر بخلد خيضر الذي قارع الاستعمار الفرنسي ونجا منه طوال 35 سنة أنه سيضطر للفرار من الجزائر المستقلة عام 1963 بعد أن فرقت خلافات السياسة رفاق النضال، ليلقى حتفه برصاص رفاقه وهو لاجئ في إسبانيا.
طالب السهيل اغتيل برصاصتين في بيروت (مواقع التواصل الاجتماعي) |
السهيل.. رصاصتان قبيل الزفاف
في 12 أبريل/نيسان 1994 كانت الاستعدادات في بيروت على قدم وساق للاحتفال بزواج ابنة المعارض العراقي طالب السهيل في مقر إقامته بالعاصمة اللبنانية بيروت، عندما سمع صوت طرقات على الباب، فخرج السهيل لاستجلاء الأمر، لكنه لم يعد.
فقد فاجأه شخصان أطلق عليه أحدهما رصاصتين من مسدس مزود بجهاز كاتم الصوت ولاذا بالفرار، وبعد عملية الاغتيال ألقت السلطات اللبنانية القبض على أربعة دبلوماسيين عراقيين، وهو ما انجر عنه أزمة دبلوماسية بين بيروت بغداد وتطور الأمر لقطع كامل للعلاقات استمر عدة سنوات.
والسهيل أحد أبرز وجهاء قبيلة تميم وهو حاصل على الجنسية الأردنية، وعرف بمعارضته الشديدة لنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي اتهمه بتدبير محاولة انقلاب فاشلة ضده خلال العام 1993.
وبعد سقوط نظام صدام وفي عام 2014 نفذت السلطات العراقية حكم الإعدام في ثلاثة من المتهمين بقتل السهيل بعد أن توفي الرابع في سجن رومية في فترة احتجاز المجموعة في لبنان بعد الجريمة، والتي امتدت 33 شهرا.