قراءة في كتاب: إعلاء البخاري.. تثبيت مكانة الإمام البخاري وصحيحه من خلال رد الشبهات حولهما
هوية بريس – متابعات
التَّعريفُ بموضوعِ الكتابِ:
لا تزالُ سُنَّةُ نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحمدِ اللهِ محفوظةً منذ نطَقَ بها مَن لا ينطِقُ عن الهوى، وأعلامُها منشورةً منذ أنْ بلَّغَها صاحبُها سيِّدُ الوَرى، وكتُبُها شامخةً على الدَّهرِ مذ هيَّأ اللهُ لها رجالًا لا همَّ لهم، ولا لذَّةَ إلَّا في كَتْبِها وجَمْعِها وتَصنيفِها؛ فهي لهم شُغلٌ وهوًى. وعلى كثرةِ ما كتَبوا وصنَّفوا فقد كان (صحيحُ البُخاريِّ) هو المُقدَّمَ رُتبةً وصحَّةً لا يُدانيهِ في ذلك كتابٌ؛ ولذلك كان أكثَرَ كتابٍ تعرَّض لحملاتِ النَّقدِ والتنقُّصِ والتَّشكيكِ.
وهذا الكتاب الذي نُعرِّف به (إعلاء البُخاريِّ) يدحَضُ الشُّبُهاتِ والتَّشكيكاتِ التي وُجِّهتْ إليه ويُناقِشُها؛ ليقِفَ المسلمُ على ما يحفَظُ له مكانةَ أصحِّ كتابٍ في السُّنَّةِ المُطهَّرةِ؛ فيكونَ عارفًا بما يدحَضُ الشُّبَهَ بالحُجَّةِ والبُرهانِ.
هذا، وقد قسَّم المؤلِّفُ كتابَه بعدَ المُقدِّمةِ خمسةَ فُصولٍ:
فكان الفصلُ الأوَّلُ: وتناوَلَ فيه المؤلِّفُ الشُّبُهاتِ المُثارةَ على الإمامِ البُخاريِّ، وتكلَّمَ فيه عن ثلاثِ شُبَهٍ؛ منها:
– أنَّ البُخاريَّ أعجميٌّ، والعُجمةُ تمنَعُ من التمكُّنِ في العِلمِ والتَّضلُّعِ في الحديثِ!
وأجاب المؤلِّفُ عن ذلك بالآتي:
– أنَّ العربيةَ ليستْ عِرقًا، وإنما هي لِسانٌ ولُغةٌ؛ فلا يمنَعُ ذلك أن يبرَعَ فيها ويُتقِنَها مَن لم يكن مِن أهلِها، وضرَبَ لذلك مثلًا بشيخِ العربيَّةِ سِيبَوَيهِ؛ فقد وُلِد في بلادِ فارسَ، وكذلك أبو عليٍّ الفارسيُّ وابنُ جِنِّي.
– أنَّ البُخاريَّ كان من أئمَّةِ الاجتهادِ المُطلَقِ بشَهادةِ أساطينِ العِلمِ.
– اتِّفاقُ أقوالِ كبارِ أهلِ العِلمِ في عصرِه على الثَّناءِ عليه، والإشادةِ بفِقهِه وفَهمِه وحِفظِه.
– أنَّ البُخاريَّ بلَغَ الشُّهرةَ مُبكِّرًا، ورحَلَ كثيرًا وهو مع طُولِ الرِّحلةِ، وكثرةِ الآخِذينَ عنه لم يُعرَفْ أنَّ أحدًا تكلَّمَ فيه من تلك الناحيةِ. فهذا كلُّه ممَّا يُؤهِّلُه إلى إدراكِ أسرارِ العربيةِ، ومعرفةِ أساليبِها البلاغيَّة، والإلمامِ بأُصولِـها وقواعدِها النَّحْويةِ والصَّرفيةِ.
وما ورَدَ عن صالحِ بنِ مُحمَّدِ الأسديِّ من قَولِه -عن الإمامِ البخاريِّ-: (ما رأيتُ خُراسانيًّا أفهَمَ منه، لولا عِيٌّ في لسانِه)؛ فغايةُ ما يُفيده هو وُجودُ حُبْسةٍ في لسانِه عند نُطقِ بعضِ الحُروفِ، على أنَّ تلك الحُبْسةَ وُجِدتْ عند بعضِ كبارِ أئمَّةِ العلماءِ، فما عُدَّ ذلك مَنقصةً، ولا قَدْحًا، ومِن هؤلاء سِيبَوَيهِ، والمُبرَّدُ، وصفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ، وغيرهم.
ومن الشُّبَهِ أيضًا: تعسُّرُ جمْعِ الإمامِ البُخاريِّ لأحاديثِ الصَّحيحِ من ستِّ مِئةِ ألْفِ روايةٍ في سِتَّ عَشْرةَ سَنَةً.
وممَّا أجاب به المؤلِّفُ عن هذه الشُّبهةِ:
– أنَّ هذا الأمرَ (جمْعَ أحاديثِ الصَّحيحِ من سِتِّ مِئةِ ألْفِ روايةٍ) من دلائلِ ذَكائِه، وقُوَّةِ ذاكرتِه، وكثرةِ محفوظاتِه، وهذا ما شَهِد له به شيوخُه وأقرانُه.
– أنَّ البُخاريَّ ما بلَغَ تلك المنزلةَ الرَّفيعةَ إلَّا لأسبابٍ؛ منها: نقاءُ سيرتِه، وصفاءُ سريرتِه، وما حبَاه اللهُ تعالى من قُوَّةِ الحِفظِ، وما تميَّز به من النُّبوغِ المُبكِّرِ، والذَّكاءِ المُفرِطِ.
– أنَّ فَهْمَ طريقةِ المُحدِّثينَ في عدِّ الحديثِ ترفَعُ الإشكالَ في ذِكرِ هذا العددِ الضَّخمِ؛ فعدُّ الحديثِ عندهم إنَّما هو بحسابِ كُلِّ سَنَدٍ، وطريقٍ مُختلِفٍ.
أمَّا الفصلُ الثاني: فكان عن الشُّبُهاتِ المُثارةِ على تَصنيفِ الصَّحيحِ، ورِواياتِه؛ وممَّا تناوَلَه فيه من شُبَهٍ،
شُبهةُ عدمِ وُجودِ نُسخةِ الصَّحيحِ التي كتَبَها البُخاريُّ بخطِّه.
وأجاب المؤلِّفُ بأنَّ هذه الشُّبهةَ تتضمَّنُ إشكالينِ:
الأوَّلُ: هل هناك نُسخةٌ بخطِّ الإمامِ البُخاريِّ؟ وأوضح المؤلِّفُ أنه ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ البُخاريَّ قد كتَبَ صحيحَه في نُسخةٍ خاصَّةٍ، ودلَّل على ذلك بأُمورٍ عِدَّةٍ؛ منها:
اطِّلاعُ الفَرَبْريِّ ووُقوفُه على هذه النُّسخةِ الأصلِ. وُصولُ صَحيحِ البُخاريِّ إلينا بهذه الصُّورةِ والتَّرتيبِ أكبرُ دليلٍ على أنَّ الإمامَ كتَبَه وصنَّفه، وغيرُ ذلك من الدَّلائلِ.
الثاني: هل لفِقدانِ النُّسخةِ الخَطِّيَّةِ أثرٌ على ثُبوتِ الصَّحيحِ ونُصوصِه؟
وأجاب المؤلِّفُ عن ذلك بأنَّ فِقدانَ هذه النُّسخةِ لا يُؤثِّرُ شيئًا في ثُبوتِ الصَّحيحِ؛ وذلك لأنَّ هذا ليس خاصًّا بكتابِ البُخاريِّ، بل وُجودُ النُّسخةِ التي بخطِّ المؤلِّفِ عزيزٌ في الكُتُبِ القديمةِ بصفةٍ عامَّةٍ.
الأحاديثُ التي في صحيحِ البُخاريِّ لم يَنفرِدْ بها، بل رواها غيرُه من أئمَّةِ الحديثِ.
أنَّ العُلماءَ الذين انتَقَدوا بعضَ أحاديثِ الصَّحيحِ لم يتعرَّضوا لهذا الجانبِ.
أنَّ الطريقَ المُعتمَدَ عند المُحدِّثينَ في ثُبوتِ الحديثِ هو الرِّوايةُ؛ ولأجْلِ ذلك لم يحْظَ أصلُ الإمامِ البُخاريِّ باهتمامِ المُحدِّثينَ.
وفي الفصلِ الثَّالثِ: تناوَلَ المؤلِّفُ الشُّبُهاتِ المُثارةَ على أحاديثِ الصَّحيحِ، وحُجِّيَّتَها، ومِن هذه الشُّبَهِ:
البُخاريُّ ليس معصومًا؛ فلا يصحُّ وصْفُ جميعِ أحاديثِه بالصحَّةِ.
وممَّا أجاب به المؤلِّفُ:
أنَّ أهلَ السُّنَّةِ لا يُوجبون عِصمةً لغيرِ الأنبياءِ والرُّسُلِ، وهذا أمرٌ مُتَّفَقٌ عليه عندهم.
أنَّ عُلَماءَ الفنِّ حين حكَموا بالصحَّةِ على أحاديثِ البُخاريِّ لم يَحكُموا بذلك من مُنطلَقِ عِصمةِ البُخاريِّ؛ فإنَّ هذا لم يقُلْه أحدٌ، بل حكَموا بصحَّةِ أحاديثِ الصَّحيحِ لأسبابٍ؛ منها: – إجماعُ العُلَماءِ على إمامةِ البُخاريِّ، والاعترافُ بتقدُّمِه في هذا الفنِّ، وإجماعُهم على صحَّةِ أحاديثِ صحيحِ البُخاريِّ، ووُجوبِ العملِ بما فيه.
أنَّ عدمَ عِصمةِ الإنسانِ لا يَستلزِمُ بالضَّرورةِ وُقوعَ الخطأِ منه في كُلِّ عملٍ، هذا من حيثُ الافتراضُ العقليُّ، ويُصدِّقُه الواقعُ حيثُ جزَمَ جماهيرُ العُلَماءِ بوُقوعِ الإجماعِ على صحَّةِ أحاديثِه.
أنه لو فُرِض وُقوعُ الخطأِ في أيِّ عملٍ بَشَريٍّ؛ فإنَّ للخطأِ وُجوهًا؛ فقد تكونُ أحاديثُ الكتابِ صحيحةً ثابتةً، ويقعُ النَّقصُ والخطأُ في تَرتيبِ الكتابِ أو تراجُمِ أبوابِه مثلًا.
ومن الشُّبَهِ التي تناوَلَها بالردِّ كذلك: شُبهةُ وُجودِ إسرائيلياتٍ في الصَّحيحِ؛ ممَّا يَرويهِ مُسلِمةُ أهلِ الكتابِ.
وردَّ المؤلِّفُ على هذه الشُّبهةِ بـ:
– أنَّ العُلماءَ قَسَّموا الأخبارَ المَرويَّةَ عن أهلِ الكتابِ ثلاثةَ أقسامٍ: ما عَلِمْنا صحَّتَه بشَهادةِ شَرعِنا، فهذا لازمُ القَبولِ، ما عَلِمْنا كَذِبَه بما عندنا ممَّا يُخالِفُه، فهذا باطلٌ يجبُ ردُّه، وما هو مسكوتٌ عنه لا يُعلَمُ صِدقُه ولا كَذِبُه، فمثلُ هذا لا نُؤمِن به ولا نُكذِّبُه، وتجوزُ حِكايتُه.
– فيُعلَمُ مِن هذا أنه لا يُنكَر مُوافقةُ الوَحْيِ المُنزَّلِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِما هو موجودٌ عند أهلِ الكتابِ.
– أنَّ الصَّحابةَ وأئمَّةَ التَّابعينَ كانوا أصدَقَ الناسِ لسانًا، وأنْقى الأُمَّةِ قُلوبًا، ولازمُ هذه الشُّبهةِ الطَّعنُ فيهم وتكذيبُهم.
– أنَّ في ذلك تَسفيهًا لجميعِ عُلماءِ الحديثِ وأئمَّةِ السَّلَفِ حين راجتْ عليهم تلك المَرويَّاتُ، واختلطتْ بالحديثِ النَّبويِّ، وعجَزوا عن تمييزِها، بينما يزعُمُ هؤلاء المتأخِّرون -الأقلُّ معرفةً ودرايةً، وفَهمًا ودِيانةً- أنهم تمكَّنوا من ذلك، وميَّزوا ونقَدوا!
ثم كان الفصلُ الرابعُ: الذي خصَّصه المؤلِّفُ لدراسةِ الشُّبُهاتِ المُثارةِ على الرُّواةِ في صحيحِ البُخاريِّ، ومن هذه الشُّبُهاتِ:
– تأثُّرُه بالسُّلطةِ في قِلَّةِ الرِّوايةِ عن أهلِ البَيتِ؛ وممَّا أجاب به المؤلِّفُ عن هذه الشُّبهةِ:
– أنَّ المعروفَ من سِيرةِ الإمامِ البُخاريِّ قِلَّةُ اختلاطِه بالناسِ، وتَرْكُ غَشيانِ أبوابِ الخُلَفاءِ، وعَدَمُ الدُّخولِ على الوُلاةِ.
– أنَّ الإمامَ البُخاريَّ أخرَجَ في صحيحِه رِواياتٍ كثيرةً من مَرويَّاتِ أهلِ البَيتِ (الحُسَينُ بنُ عليٍّ، عليُّ بنُ الحُسَينِ زينُ العابِدينَ، مُحمَّدُ بنُ عليٍّ أبو جَعفَرٍ الهاشميُّ، مُحمَّدُ بنُ عمرِو بنِ الحَسَنِ الهاشميُّ).
– أنَّ البُخاريَّ خصَّصَ في صحيحِه أبوابًا في مناقبِ أهلِ البيتِ، وذكَرَ فيها الأحاديثَ الواردةَ في فَضائلِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ وغيرِه.
– كذلك رَوى البُخاريُّ لعددٍ من الرُّواةِ من مَوالي أهلِ البَيتِ؛ ممَّا يدُلُّ على عدمِ تأثُّرِه بالسُّلطةِ.
مِن الشُّبَهِ كذلك: كثرةُ إخراجِ البُّخاريِّ عن أبي هُرَيرةَ؛ لأنه كان من عُمَّالِ بني أُمَيَّةَ، وكان الردُّ على ذلك:
– أنَّ البُخاريَّ عاش في عهدِ الدَّولةِ العبَّاسيةِ بعد زوالِ الدَّولةِ الأُمويَّةِ بأكثَرَ من سِتِّينَ عامًا.
– أنَّ الدَّولةَ العبَّاسيةَ كانتْ من أشدِّ الدُّوَلِ مُعاداةً للدَّولةِ الأُمويَّةِ؛ فكيف يُتصوَّرُ أنْ يتأثَّرَ البُخاريُّ بالدَّولةِ الأُمويَّةِ، ويُكثِرَ من الرِّوايةِ عن أبي هُرَيرةَ انتصارًا لها مع وُجودِ الدَّولةِ العبَّاسيةِ؟! والبُخاريُّ لم يكُن محابيًا للعبَّاسيينَ الذين عاش في عصرِهم؛ فكيف يكون مُحابيًا للأُمويِّينَ الذين وُلِد بعد ذَهابِ دَولتِهم؟!
أمَّا الفصلُ الخامِسُ والأخيرُ: فقد كان مُخصَّصًا لدراسةِ الشُّبُهاتِ المُثارةِ على وُقوعِ التَّعارُضِ بين أحاديثِ الصَّحيحِ، وبينَ غيرِها.
ومن الشُّبَهِ التي تناوَلَها في هذا الفصلِ: شُبهةُ وُجودِ أحاديثَ تُعارِضُ أحاديثَ أُخرى صحيحةً، وكان الردُّ على هذه الشُّبهةِ:
– أنَّه لا يُمكِنُ وُقوعُ تعارُضٍ حقيقيٍّ بين الأحاديثِ الصَّحيحةِ بحالٍ، وإذا وُجِد حديثٌ يتعارضُ في ظاهِرِه مع حديثٍ آخرَ؛ فإنَّ مردَّ ذلك قُصورُ فَهمِ الناظرِ وإدراكِه.
– أنَّ العُلَماءَ مَقرُّونٌ بوُجودِ نوعِ تعارُضٍ بين الأحاديثِ الصَّحيحةِ، وهذا التَّعارُضُ يقعُ بين النَّاسخِ والمنسوخِ، وبين الخاصِّ والعامِّ، والمُطلَقِ والمُقيَّدِ.
– أنَّ العلماءَ قد وَضَعوا قواعدَ عامَّةً في التَّعامُلِ مع نُصوصِ الأحاديثِ المُتعارِضةِ في الظَّاهرِ؛ منها:
– إذا أمكَنَ معرفةُ النَّاسخِ والمنسوخِ، وجَبَ المصيرُ إلى الأخذِ بالنَّاسخِ.
– إذا لم يُمكِنِ الوُقوفُ على الناسخِ، فيُعمَلُ بالجَمعِ بين الدَّليلينِ.
– إذا لم يُمكِنِ الجمعُ عُدِل إلى التَّرجيحِ؛ فإنَّه يَندُرُ في الأدِلَّةِ الشَّرعيةِ وُجودُ دَليلينِ مُتعارِضَينِ تعذَّرَ العِلمُ بالنَّسخِ فيهما، أو تعذَّرَ الجَمعُ، وإذا وقَعَ فلا يَعدَمُ المجتهِدُ سَبيلًا للتَّرجيحِ بينهما. (عن الدرر السنية).
رابط تحميل الكتاب: