إلى أين تتجه الانتخابات الرئاسية الفرنسية؟
هوية بريس – بلال التليدي
بعد يومين، سيتداعى الناخبون الفرنسيون للتصويت على رئيس فرنسا المقبل، وليس أمامهم الوضوح الكافي لتبرير اختياراتهم.
البعض يرى أن المشهد السياسي بعد نتائج الدور الأول أضحت مكرورة ومن غير جدوى، وتعيد إلى الأذهان صورة انتخابات 2017 الرئاسية، والتي فاز بها إيمانويل ماكرون على مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين، وأن المشهد سيتكرر، ليس فقط بعناوينه الكبرى، ولكن أيضا بتفاصيله المملة.
من الناحية التحليلية، يمكن أن نشاطر جزءا من هذا الرأي، فالمشهد السياسي بالفرنسي أضحى متصحرا، بعد أن تهاوت القوى السياسية التقليدية، وأصبح التطرف اليميني هو المنافس القوي لمرشحي المال والأعمال. وهي خلاصة خطيرة، تفيد بفشل أحزاب اليمين واليسار التقليديين، في هزيمة لوبي المال المهيمن على مختلف النخب الفرنسية، بما في ذلك النخب الإدارية والأمنية والعسكرية.
لكن، من الناحية العملية، فثمة متغيرات لا بد من أخذها بعين الاعتبار، فالسياق الذي تجري فيه هذه الانتخابات يختلف كثيرا عن رئاسيات 2017، فثمة، من جهة الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تعكس في الجوهر صراع الناتو مع روسيا، وتترجم أزمة أوروبا في التعاطي مع هذه القضية، بل أزمة القوى الكبرى داخل أوروبا، وبالأخص فرنسا وألمانيا، ثم هناك من جهة ثانية، تداعيات جائحة كورونا، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على المعاش اليومي للمواطن الفرنسي، وهناك من جهة ثالثة، ضيق الخيارات التي كان يمكن توفرها لو كانت المواجهة الانتخابية بين إيمانويل ماكرون وميلنيشون، بحكم أنهما يحملان مشروعين متناقضين تماما، على الأقل في الخلفية الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية والأمنية.
ثمة من أخرج هذه الاعتبارات من الحساب، وحسم النزال الانتخابي مسبقا لصالح ماكرون، بحجة أن الخطاب العنصري الذي يحمله اليمين المتطرف، لا يستطيع أن يستقطب أكثر مما استقطبه في الدور الأول، وأن للدور الثاني خصوصياته، إذ تضيق الاختيارات أكثر، ويكون فيه الناخب مضطرا للتصويت ليس مع قناعاته السياسية، ولكن أحيانا يصير للتصويت بمنطق أخف الضررين، أو لسد الطريق على الضرر الأكبر.
والحال أن كل هذه اليقينيات المسبقة، لا يمكن الوثوق بها تاما، فقد أظهرت نتائج الدور الأول أن التطرف اليميني قد تجاوز السقوف التي كانت موضوعة له في السابق، واقترب من تمثيل ثلث الفرنسين، إذا أخذنا بعين الاعتبار مختلف أطيافه، وهو رقم جد دال، وينبغي قراءته في سياق تاريخي، أي باستحضار الأرقام التي كان اليمين المتطرف يحصل عليها في الانتخابات الرئاسية السابقة.
تقرأ مختلف التحليلات تطور شعبية اليمين المتطرف بفرنسا، من زاوية تجدد تكتيكاته الانتخابية، واشتغاله المتكرر على الخطاب، فقد اشتغلت مارين لوبين كثيرا على الخطاب، وتجاوزت بشكل ثوري الكثير من مواقف والدها، وهي الآن، تستمر في نفس الدينامية، محاولة في ذلك إحداث نوع من الاختراقات في الوسط الرافض أو المناهض للتطرف اليميني.
نقطة ضعف مارين لوبين، تبقى دائما هي المسلمون، وهي اليوم تواجه معضلة يصعب عليها الخروج منها، فجوهر هويتها السياسية قائمة على نبذ المسلمين والمهاجرين، لكنها أضحت مقتنعة أكثر من أي وقت مضى، أن وصولها إلى قصر الإليزيه لا يمكن أن يحصل دون بذل جهد لإحداث اختراق ما داخل هذه الكتلة المشتتة داخل المجتمع الفرنسي (المسلمين).
التغير الذي أصاب موقفها من الحجاب، يعتبر جزءا من التكتيك الذي تنهجه للاقتراب من هذه الكتلة، فقد صرحت قبل أيام، بأن منع الحجاب في الأماكن العامة لم يعد على رأس أولوياتها في مواجهة التشدد الإسلامي، مقرة بأن الحجاب مشكلة معقدة، وأنها ليست محدودة التفكير، وأن مشروع حظر الحجاب سيعرض على الجمعية العامة للنظر فيه، كما حاول نائبها جوردان بارديلا التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي في هذا الموضوع، وأن الحظر هو الهدف على المدى الطويل، وأن الآني، هو ضرورة التمييز بين حجاب المتأتيات من موجات الهجرة في الستينيات والسبعينيات، مما يخرج عن نطاق مشروع القانون المعني بالحظر، والحجاب الذي بات اليوم ورقة ضغط بين أيدي المتشددين الإسلاميين وانتقاصا للمساواة بين الرجل والمرأة.
واضح من هذه التصريحات وجود ارتباك كبير في موقف اليمين المتطرف، يعكس النقاشات الداخلية في الحزب، وعدم وجود رأي واحد بهذا الخصوص، فبينما يتشبث الراديكاليون بحظر الحجاب في الأماكن العامة، يذهب تيار الوسط داخل الحزب إلى فكرة المرحلية، وأن الحظر يتعلق بالمدى الطويل، وأن دونه مقدمات تقتضي بعض المرونة في المديات القصيرة والمتوسطة، بينما يذهب الأقل تطرفا إلى فكرة التمييز بين الحجاب التقليدي والحجاب الجهادي (الأفغاني) في إشارة إلى إمكانية التعايش مع الحجاب المعاصر الذي لا يتعارض مع هوية فرنسا!
والواقع أنه يصعب بالمطلق على المسلمين أن يثقوا بهذه التحيينات التكتيكية في الخطاب، لكن ذلك لا يعني بالمطلق أن صوتهم سيكون مضمونا لصالح منافسها، فقانون مواجهة التشدد الإسلامي، الذي دعمه بقوة الرئيس إيمانويل ماكرون، لم يكن موجها فقط ضد التيار الراديكالي، بل استهدف المسلمين، واستهداف دور العبادة، واستهدف أيضا الأنشطة الإحسانية التي كانت تقوم بدور العبادة، والجمعيات التي كانت تدير مدارس تعليم اللغة العربية بفرنسا.
التقدير في هذا الموضوع، أن أصوات المسلمين، لن تكون حاسمة، ولا مؤثرة في النزال الانتخابي، وذلك لثلاثة اعتبارات أساسية: أولها، أن القضايا الكبرى الحاسمة، أضحت خارج الموضوعات الهوياتية، والثاني، أن التنافس على المسلمين بين المرشحين لن يعطي سوى رجحان طفيف لكفة إيمانويل ماكرون بحكم أن مشروعهما معا، ينتهي باستهداف مصالح المسلمين، مع الاختلاف في الدرجة. والثالث، أن التشتت الذي تعرف الكتلة المسلمة في فرنسا، لن يساعد على إنضاج موقف موحد، وأن خيار العزوف الانتخابي، سيبقى ضمن الخيارات المطروحة أمامهم، بحكم تجربتهم السابقة مع قانون مكافحة التطرف الإسلامي، والذي مس مصالحهم بشكل مباشر.
الراجح في تحليل متجهات الحملة الانتخابية، أن الموضوع الحاسم في العملية الانتخابية، يرتبط بمدى استثمار الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونوع الخطاب الذي ينتجه المنافسون للجواب عن معضلتي المعاش اليومي للفرنسيين، والأمن في مستوياته الثلاثة: الأمن الطاقي، والأمن الغذائي، والأمن الدفاعي.
حزب مارين لوبين، ليست له خبرة كافية في القضايا الاقتصادية والاجتماعية، ومعظم خطابه يتركز على القضايا الهوياتية ومكافحة الهجرة والتطرف الإسلامي، لكن، خطابه بإزاء الحرب الروسية الأوكرانية، قد يكون مؤثرا، فثمة توجهات بدأت تتنامى في أوروبا برمتها، يطرح كلفة الاصطفاف مع أمريكا ضد روسيا، وجدوى ذلك والتأثيرات الخطيرة التي تتحملها أوروبا لوحدها، فقد بدأت مظاهرات في ألمانيا، تركب هذا الخطاب، ووجهت باعتقالات، ساءلت النموذج الديمقراطي الألماني برمته، ولا يتوقع أن تكون فرنسا بمعزل عن بروز هذه التوجهات الكامنة التي يمكن أن تحسن مارين لوبين استثمارها والتعبير عن صوتها، خصوصا وأن تداعيات هذه أضحت تمس المصالح المباشرة للمواطنين، ولم يعد خطاب التقشف مقنعا في ظل وجود خيارات أخرى في السياسة الخارجية الفرنسية والأوربية اتجاه روسيا.
التقدير، أن إيمانويل ماكرون، سيهزم مارين لوبين على المستوى الاقتصادي والتدبيري، وسيتمكن من كسب أصوات أكثر في صفوف المسلمين، لكن، إدارته للموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل التداعيات المباشرة على المواطنين، يمكن أن يكون لها تأثير مهم على توجهات الناخبين.
لا يعني ذلك بالمطلق أن مارين لوبين ستفوز بالاستحقاق الانتخابي، لكن الأرقام التي ستحصل عليها، ستكون من دون شك داعية لكثير من التساؤل على مستقبل فرنسا، لاسيما وأن ماكرون يشكل اليوم الورقة الأخيرة المتبقية، في ظل مشهد سياسي متصحر، انتهت فيه الأحزاب التقليدية، وصعد فيه التطرف اليميني واليساري.