“إننا علمانيون”.. ماذا يقصد وزير الأوقاف أحمد التوفيق؟
هوية بريس – إبراهيم الطالب
“إننا علمانيون”.. ماذا يقصد وزير الأوقاف أحمد التوفيق؟
في جواب حول جلسة الأسئلة الشفهية الأسبوعية بمجلس النواب أمس الاثنين صرح وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق مخبرا أنه: “في الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، كان عندي لقاء مع وزير الداخلية، لم يعلن عنه في الإعلام وتناقشنا حول مجموعة من الأمور”.
وأردف: “هم مقتنعون، ولكنهم في سياق داخلي معقد، مقتنعون بأن الإسلام معتدل في المغرب، كذا كذا، في صالح الجميع”.
ثم استرسل التوفيق في حكاية ما دار بينه وبين وزير الداخلية الفرنسي قائلا: “قال لي -أي وزير الداخلية الفرنسي-: “العلمانية كتصدمكم”، قلت ليه: “لا”.
قال لي: “كيفاش ذاك الشي ماشي لا”.
فقلت ليه: “لأننا علمانيون، ليس لدينا نصوص 1905؛ ولكن من أراد أي شيء يفعله، لأن “لا إكراه في الدين”. فظل فاتحا فاه”، مستغربا من جواب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي.
ثم أخبر التوفيق أنه توصل اليوم (أي الإثنين 25 نونبر 2024) برسالة من وزير الداخلية الفرنسي حول الموضوع، موضحا فحواها قائلا: “أرسل لي رسالة توصلت بها اليوم، حتى نتواصل ونناقش مرة أخرى”، مردفا أن الظروف ليست سهلة، ومؤكدا: “وأقول لهم: نحن معكم، لأننا مع الاعتدال والحرية”.
انتهت المقتطفات من كلام الوزير، وسنحاول في هذه المقالة مناقشة الوزير من خلال دلالات المصطلحات التي استعملها، مع طرح مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها.
لقد استعمل كلمات وعبارات لها دلالات عميقة في حواره مع وزير الداخلية الفرنسي، ويمكننا من خلالها أن نستشف موضوع النقاش الذي دار بينهما، إذ من الراجح أنه كان حول الحالة الدينية في المغرب، وحول مشاريع وزارة الأوقاف المغربية في تأطير الجالية المغربية الكبيرة والمؤثرة في المساجد والمراكز في فرنسا، وهو ما جعل التوفيق يصرح أنهم -أي الفرنسيين-: “يعيشون “في سياق داخلي معقد”.
ومن يتابع الإسلام في فرنسا، والأحداث التي مرت بها خلال مرحلة ما بعد 11 من شتنبر 2001، والتدابير المجحفة التي اتخذتها ضد المسلمين ببلادها، وضد الجمعيات والمراكز الإسلامية التي دأبت على تأطير الجالية المغربية والجزائرية والتونسية وأبنائها لعقود طويلة، يفهم أن فرنسا تريد من المغرب أن يلعب الدور الأساس في تشكيل “إسلام فرنسي” يستجيب لعلمانية الجمهورية الفرنسية، ويكفل لها اندماج الآلاف من أبنائها الأصليين المتحولين إلى الإسلام في سياساتها العامة.
فهذا “الاندماج” القسري هو ما يؤرق الحكومة الفرنسية تحقيقُه، ويجعلها تُشِيد بالدور الذي تقوم به وزارة التوفيق في تكوين الأئمة والمرشدين تكوينا يَخضع لمفهوم “التدين المغربي المعتدل” أو ما يسميه الوزير بـ”الإسلام المغربي” والذي تنظر إليه فرنسا والاتحاد الأوروبي بعين الرضا، وهذا ما جعل الوزير التوفيق يقول بكل وثوقية: “مقتنعون -يقصد الفرنسيين- بأن الإسلام معتدل في المغرب..، وفي صالح الجميع”.
فما المقصود بعبارة: “الإسلام معتدل في المغرب”؟
وما هو مفهوم الاعتدال الذي وصف به الوزير “الإسلام المغربي”؟
لعل العبارة التي جاءت بعد ذلك في كلام الوزير تعطي جوابا عن السؤال، حيث تضمنت الدلالة القاطعة لمفهوم “الاعتدال” عند اسي التوفيق؛ وهي عبارة: “في صالح الجميع”.
أي أننا نعيش في ظل “إسلام مغربي معتدل” هو في صالح الفرنسيين والمغاربة والنصارى والمسلمين واليهود، واللادينيين والملحدين، أي إسلام لا حدود فيه بين الكفر والإيمان ولا بين الضلالة والهدى، ويعطي الحرية للجميع في أن يفعل من شاء ما شاء، فهل يبقى مع هذا التلفيق يا أستاذ توفيق معنى لعقيدة “الأشعري” ومذهب مالك وسلوك الجنيد السالك؟ وهل يختلف هذا “الإسلام” عن الليبرالية في فرنسا أو أمريكا؟
إن انفتاح الوزير هذا وتسامحه اللامحدود وتسويقه لمعنى خاص للاعتدال جعل وزير الداخلية يستفزه لمعرفة المزيد من تصوراته -فهو حديث عهد بوزارة الداخلية الفرنسية-، لهذا سارع ورمى تحت قدميه صابونة نجحت في إزلاق وزير شؤوننا الإسلامية، حيث قال له: “العلمانية تصدمكم”.
للأسف جاء الرد مخيِّبا للآمال، فقد داست رِجْلُ الوزير المغربي على صابونة الوزير الفرنسي، لينزلق على أمِّ رأسه حتى انكشفت عورته الفكرية والسياسية، حيث أجاب بصرامة: “لا”؛ فنحن لا تصدمنا العلمانية أبدا، ليُعطي الوزيرَ الفرنسيَّ الفرصة الكبرى لإدخال التوفيق في جحر الضب، من خلال طرح سؤال تظاهَرَ فيه بالبلاهة الماكرة، والتغابي السياسي الخبيث الذي عُرف عن النخب الفرنسية في التعامل مع المغرب منذ زمن المقيم العام المارشال هوبير ليوطي (1912 إلى 1925) إلى آخر مقيم عام فرنسي بالمغرب “أندري ديبوا” (1955إلى 1956) بل إلى اليوم.
علما أن العلمانية هي دين فرنسا المقدس، الذي بموجب مقتضياتِ الحفاظ عليه، تسمح لنفسها بمخالفة الطابع الليبرالي الذي رست عليه الثورة وإعلاناتُها لحقوق الإنسان، وهذا ما رأيناه في تعاطي فرنسا مع ملف الحجاب والنقاب، حيث صرح حكماؤها اللادينيون أنهما -أي الحجاب والنقاب- يُخلان بعلمانية فرنسا، الأمر الذي لا يجرؤ مسؤول عندنا أن يحدو حدوه، فيمنع مثلا بعض العادات الغرْبية بدعوى أنها تخل بالعقيدة الإسلامية أو الفقه المالكي، أو حتى بالقانون الجنائي.
لم يفطن وزيرنا الطيب صديق “جارات أبي موسى” للمكر السياسي الذي بثه في سؤاله الوزير الفرنسي اليميني المتطرف “برونو ريتايو”، عندما قال مستفهما: “كيفاش ذاك الشي ماشي لا”؛ -حسب ترجمة الوزير التوفيق الركيكة والمرتجلة- أي كيف لا تصدمكم العلمانية وأنتم دولة إسلامية بنص الدستور ولديكم أمير للمؤمنين ومجلس علمي أعلى ووزارة للأوقاف وهيئة للإفتاء ومجتمعكم لا يزال يمتثل أحكام الإسلام، كل هذا اختزله الماكر في كلمة “كيفاش لا”.
ليجيبه وزيرنا المسلم على الفور: “لأننا علمانيون”، ثم يزيد جوابه بيانا: “ليس لدينا نصوص 1905؛ ولكن من أراد أيَّ شيء يفعله، لأن (لا إكراه في الدين)”.
الله أكبر!!
هكذا بكل سهولة ووضوح لا يُبقيان مجالا للنقاش “نحن علمانيون”، حكم بات نهائيا لا يقبل الاستئناف.
إن سياق الحوار وطرفيه، لا يتركان شكا في كون الوزير يقصد الدولة لا الشعب، فهو مسؤول حكومي في وزارة تعتبر وزارة سيادة، يتحدث مع وزير فرنسي وينقل ذلك تحت قبة البرلمان أمام مثلي الأمة.
لكن ما قد لا يعرفه كثير من النواب “ممثلي الأمة المغربية المسلمة”، هو ماذا يعني الوزير بـ: “نصوص 1905″، وقد مرَّرها التوفيق دون شرحها، لحساسيتها المفرطة؟
فهذه النصوص يقصد بها ما تضمنه القانون الصادر في 9 من دجنبر 1905 أو ما سمي بالإعلان العلماني الذي أقرّ “مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة في فرنسا”، هذا القانون الذي يتم تطويره الآن في فرنسا لمحاربة الإسلام الصاعد بين أبنائها.
والعجيب أن هذا القانون الذي يسلم به التوفيق هو محل نقد من طرف الأحرار من الكتاب الفرنسيين اليوم، منهم الكاتب الفرنسي “ألان غريش” وهو باحث في قضايا الشرق.
حيث نجده يصرح مثلا في مقاله تحت عنوان: “فرنسا..تحريف العلمانية لاستهداف الإسلام”، بأنه: “لو طُلب في تلك الفترة -أي 1905- من الكنيسة إمضاء ميثاق يؤيد العلمانية وقوانينها أو “مبادئ الجمهورية” -وهو ما يُطلب اليوم من الدين الإسلامي، لغرقت فرنسا في الحرب الأهلية. لكن مشرعي الجمهورية الثالثة كانوا أكثر حكمة من ذلك، ولم يفرضوا قوانين لاختيار الممثلين عن الدين أو “تزكيتهم” من الدولة، والحال أن الكنيسة كانت آنذاك قوة أكثر تهديدا وأكثر خطورة على الجمهورية مما هي عليه الطوائف المسلمة اليوم، وهي طوائف متفرقة، لا تتمتع بولوج إلى السلطة، ولا بمنابر سياسية أو إعلامية”.
إن ضعف المجتمعات المسلمة اليوم هو ما يجعل وزيرا في دولة مثل المغرب بتاريخها الإسلامي العظيم، يصرح أمام ممثلي الأمة المغربية أننا علمانيون، ويزيد إذلالا للمغاربة، بطريقة ملتبسة مفادها: أننا حتى ولو لم نكن نتوفر على إعلان للعلمانية يفصل بين المسجد والكنيسة، فإننا ننتهج مبدأ الحرية الذي بنت عليه الثورة دولتها، ولا نترك القيمين الدينيين يدخلون في نقاشات مع العلمانيين، بل نحيد المساجد تماما كما حيد قانون العلمانية 1905 الكنائس من تدبير الشأن العام في فرنسا، بعد أن ثار على كنيستها وعلى ملكها ثوار لادينيون رفعوا شعار: “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس” وكذلك كان.
والعجيب أن الوزير التوفيق حين يقول: “وأقول لهم: نحن معكم، لأننا مع الاعتدال والحرية”، يعلم يقينا الدلالات التاريخية والأبعاد السياسية لكلماته، ولكنه ربما كان استرضاءُ دولة فرنسا في سياق اعترافها بالصحراء المغربية، واستقواء اليمين المتطرف في الحكومة الحالية، وخوف وزيرنا على مشاريعه في تأطير الجالية بفرنسا، جعل “توفيق” السياسي يغلب “توفيق” المفكر والمؤرخ والبحاثة والمسؤول عن تدبير أهم مؤسسة تنيط بها إمارةُ المؤمنين وظيفة حماية الملة والدين.
تصريحات الوزير بأن الدولة المغربية علمانية يجعل مشروعه برمته في تدبير الشأن الديني محل نقاش ومساءلة: فهل الخطبة الموحدة وتحييد المساجد، وقمع حرية الفقهاء والعلماء والدعاة والوعاظ، وعسكرة القيمين الدينيين، واحتكار الشأن الديني من طرف وزارته، وتهريب المساجد من ملكية الجماعة -أي المجتمع- إلى ملكية الدولة، كلها وغيرها تستهدف إخضاع الإسلام في المغرب لمفهوم العلمانية الفرنسية؟
فالعلمانية بالمغرب بدأ تأسيسَها المقيمُ العام ليوطي رويدا رويدا وبمنتهى المكر، ورعاها كل المقيمين الفرنسيين بعده، ولا تزال فرنسا تتابع ملفها إلى اليوم، حيث نعتبر اتصال وزير الداخلية الفرنسي أمس بوزير شؤوننا الإسلامية لاستكمال الحديث حول مفهوم التوفيق للعلمانية وتأثيره في تدبير الشأن الديني في المغرب جزءا من الوصاية الفرنسية على المغرب لمتابعة مشروع علمنتها للدولة والمجتمع المغربيين.
إن على السيد الوزير ألا ينسى أنه إن كانت العلمانية في فرنسا تمثّل مبدأ أساسيا وقيمة من قيم الجمهورية؛ ويؤكّد ذلك نص المادة الثانية من دستورها التي تحدّد هوية فرنسا باعتبارها: “جمهورية غير قابلة للتجزئة وعلمانية وديمقراطية واجتماعية”، فإن الإسلام يمثل الأساس الذي بنيت عليه الدولة في المغرب، وأن دستور البلاد ينص في فصله الثالث على هوية المغرب وذلك بتحديد صريح لدين الدولة وهو: “الإسلام دين الدولة”.
فهل يخرج الوزير ليفسر للمغاربة المنزعجين من كلامه الخطير الذي حاول فيه أن يجمع بين الإسلام والعلمانية كسلوك ومنهج للدولة؟
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.