ابن كيران ولدغة الجحر الأزرق أي خيار ثالث غيرهما في 2026؟

هوية بريس – عبد العزيز غياتي
التقييم والتلميع
لتقييم بضاعة معينة وتثمينها بمعيار الصلاحية وأمد الحياة، والجدوى منها ونجاعة استعمالها؛ نوجه أدواتنا التقنية وآلياتنا الدراسية والإحصائية صوب السلعة نفسها سواء في المختبر أو في الميدان، وإلى رجع صدى استعمالها في وسط المستهلكين، ولا نهتم كثيرا بجنس صانعها ولا بجنسيته ولا بسنّه أو دينه أو خلقه أو حالته الصحية ولا بحسن أو قبح وجهه، أما الواقع بالنسبة للمنتوج الفكري الفني أو السياسي فهو وخلافا لذلك ترجح فيه كفّة وجه ووجاهة المُنتِج على كفّة قيمة المنتوج نفسه التي أصبحت تعتمد على سمعة الصانع وإشعاع وجهه الذي سيحتاج التلميع من حين لآخر، والتلميع نوعان؛ تلقائي تتكفل به أيام النضال وليالي العمل والجد، وتلميع مدبّر تستعمل فيه آلة الإعلام مدعمة بوقود المال والسلطة والذباب الإلكتروني، ولا يهم أن يتم هذا الأخير بالخوض في المناقب أو في الفضائح، بل الأهم في مرحلة أولى هو إطلاق إشارات متباينة مع المعروف والمعتاد كصوت منبه لتنبيه القوم وحثهم على الالتفات تجاه وجه يرهقه النسيان، ولكن قد يكون لهذا الالتفات أثر عكسي حين يتسع الرقع على الراقع ويتعذر على العطار إصلاح ما أفسد الدهر ويكون التنبيه آنذاك بمثابة (فَيّق زعطوط لضريب الحجر)، وذلك ما تحصده وجوه الفساد البين فسادها من كلّ محاولة لإحياء ثقة الناس بها.
تجريب المجرب في بحر البلقنة
ساهمت تداعيات سقوط جدار برلين التاريخية كما تساهم القوانين الانتخابية، التي تسمح بتدبير الشأن العام من قبل أقلية الأقلية حيث تدني نسبة المشاركة ونسبة المسجلين والتي تجنح بسفينة النتائج إلى شاطئ البلقنة، ساهمت في كسر الحساسيات والحواجز الإيديولوجية بين التيارات السياسية، كما أدى اكتمال دورة تداول أغلب التوجهات السياسية على تدبير الشأن العام سواء كان تدبيرا حقيقيا أو شكليا إلى خفوت الخلفية الفكرية كعنصر من عناصر جاذبية الأحزاب، لذلك غداة كل اقتراع ومن باب إعادة تجريب المجرّب خاصة بعد ذبول أزهار الربيع العربي لم يعد السؤال الأهم هو من أنتم وماذا تعتقدون؟ بل أصبح هو ماذا قدمتم من موقع التدبير ومن موقع المعارضة؟ وما هي نسبة الإنجاز من مجموع البرامج الموعودة؟ وما هو سقف المناعة والمقاومة للفساد وللوبيات المصالح الفئوية؟ هذه هي الأجوبة التي يجب التماسها في العرض الانتخابي مع استحضار أنّه لا مناص من إفراز فئة من الشعب ستدبر الشأن العام نيابة عنه سواء كانت تمثيليتها مزيفة أو حقيقية عددا وعدّة، لذلك لا مجال لانتظار توفر كل المكونات لإعداد الطاجين النموذجي وإنما نحن مجبرون على أن نسدد ونقارب ونرجح بحثا عن أخف الأضرار.
بأضدادها تعرف الأشياء
اليوم وحتى إشعار آخر مع الأسف الشديد ينفرد بالنقاش السياسي فقط تياران وتجربتان إحداهما دبرت الشأن العام لولايتين متتاليتين والثانية توشك على الانتهاء من تدبير الولاية الحالية، فدعونا نوغل في الواقعية ولا نستحضر المثل العليا ولا نستدعي تجارب أخرى من مهد الديمقراطيات ولا حتى تجارب الجيران، ولنكتفي بالمقارنة بين هاتين التجربتين الوطنيتين البنتين الشرعيتين لرحم الوطن، مقارنة توشك أن تبلغ المثل العربي القائل: “تعرف الأشياء بأضدادها”. من حيث الشكل لا يمكن إلا أن نعتبر الحكومة التي يرأسها مواطن من الطبقة المتوسطة حكومة الشعب مقابل حكومة رجال الأعمال أو البزنسمان التي يرأسها مواطن ملياردير قد يصنف ثالث أغنياء بلده، والأدبيات والتصريحات الرسمية تزكي ذلك حين يقضم مثلا رئيس الحكومة قضمة من تفاحة أمام الكاميرا ويسأل عن ثمنها فيستقلّه، وكذلك تفعل الوزيرة حين حديثها عن الأخطبوط وثمن بيعه، ويزكيه كذلك الرفع من الضريبة على المقاولات الصغرى والمتوسطة (الاجتماعية) وخفضها بالنسبة للمقاولات الكبرى، وذلك تعبير صريح بالقول وبالفعل عن حمل همّ رجال الأعمال والمقاولات الكبرى قبل غيرهم من صغار المنتجين والمستهلكين الذين لم تعد الأسعار في متناولهم على الرغم من أنها تبدو لرجل الأعمال-الوزير متدنية، في مقابل رئيس الحكومة السابق (ابن كيران) الذي عيب عليه عدم اهتمامه بالطبقة المتوسطة لأنّه اعتبر أنها أخذت حقها بما تملكه من الوسائل والأسلحة التي تدافع بها عن نفسها وتحصّل حقوقها، واهتمامه بالطبقة الدنيا التي لا نقابة ولا أحزاب ولا تنسيقيات تدافع عنها ولو من باب التوظيف السياسي.
أما بالنسبة للتفاعل مع الفساد ما ظهر منه وما بطن في شقه الموضوعي فقد أطلقت حكومة المصباح ما سمي آنذاك بإجراء (عفا الله عما سلف) بإعفاء الأموال التي يتمّ إعادتها إلى داخل البلاد من التبعات، خاصة المستحقات الضريبة، وقد وفّر في نسخته الأولى سنة 2012 لميزانية الدولة حوالي 28 مليار درهم، وكذلك في محاولة لمحاصرة الفساد طرح قانون الإثراء غير المشروع أو ما يشار ليه باسم (من أين لك هذا؟) الذي عرقلت التصويت عليه كتلة رجل الأعمال عندما كان مجرد شريك في الحكومة، وطرح إصلاح صندوق المقاصة بإخراج المحروقات منه لكفّ استفادة الشركات منه بدون وجه حقّ وتوفير السيولة لتمويل الصناديق الاجتماعية، وفي مقابل هذه الأمثلة لا يمكن تفسير سحب مشروع قانون الاثراء غير المشروع كأول خطوة لحكومة الزرق بعد توليها تدبير الشأن العام إلّا أنها مؤخر صداق لزواج السلطة بالمال وعربون محبة لاستمرار علاقات لن تعكّر صفوها شبهة الفساد ولن تنتهي بالانتخابات التالية وكما يقال (النهار باين من صباحو)، وذلك يزكيه الجنوح إلى التضييق التشريعي على حرية الصحافة وعلى التبليغ على الفساد. وفي شقه الذاتي تبدو نظافة يد وزراء المصباح وذمتهم المالية كنقطة بيضاء في بحر أزرق من تضارب المصالح وشبهات الفساد والاغتناء المشبوه والمتابعات والأحكام القضائية، وشبهة الاستفادة من قوانين ضريبية أو قرارات استيراد مفصلة على مقاس مقاولات الريع سواء القديمة أو ابنة (كوكوت منيت).
ابن كيران ولدغة الجحر، هل هناك ثالث غيرهما؟
أهم المفارقات التي تؤشر على أن الناخب لدغ من الجحر الأزرق في 2021 هو الارتفاع الملفت للدَّين الخارجي دون أن يحلّ أزمة قائمة أو محتملة ودون أن يكون له أثر اجتماعي أو اقتصادي ملموس، و جرأة رئيس الحكومة التي يدّعي أنها اجتماعية على الوقوف أمام نواب الأمة، وقد نسي أن ينزع عنه بدلة رئيس المقاولة ويلبس جبة رئيس الحكومة، ليبرّر ويدافع عن فوز شركته بمشروع تحلية مياه البحر وتقديمه طلب الدعم الحكومي الذي تخوله لجنة يترأسها هو نفسه، ولمْ أو لا يريد أن ينتبه إلى أنّه يدافع عن تضارب المصالح وعن الريع الناجم عنه، واضطرار بلد فلاحي له كلّ المقومات الطبيعية والبشرية والتاريخية ليحقق الاكتفاء الذاتي، إلى استيراد الحبوب واللحوم والماشية لسدّ الخصاص وفي نفس الوقت يصدّر المنتوجات الفلاحية الأكثر استهلاكا للماء، وتخصيص أموال طائلة لدعم القطاع الفلاحي دون أي أثر إيجابي على قطيع الماشية ولا على أسعار المواد الاستهلاكية، بل كان مسك الختام الحرمان من شعيرة أضحية العيد على الرغم من مكانتها الدينية والاجتماعية وأهميتها الاقتصادية.
والحال هاته، يحقّ للملاحظ أن يتساءل اليوم عن هذه الدولة، هل هي انتاجية-اجتماعية أم مجرد سوق استهلاكية؟ وهل سيلد الجبل قيصريا خيارا ثالثا مشوها أم ستسخّر الآلة الانتخابية بكلّ دواليبها الإعلامية والقانونية والإجرائية المتعلقة باللوائح والحملة والتصويت لتهيئتنا لنلدغ من نفس الجحر مرة ثانية؟ أم سيتعظ المشاركون في تزوير الانتخابات سواء مقابل منفعة مادية أو معنوية أو بالمقاطعة الفردية، ويعتبر القائمون عليها فيقوموا بتحييد المال الحلال والحرام والجاه والسلطان، وإخراج قانون انتخابي عادل وغير مفصل على مقاس أحد، واعتماد لوائح انتخابية محينة ومعبرة عن الكتلة الناخبة بالداخل والخارج، وتنظيم حملة انتخابية نظيفة واقتراع خال من كلّ شائبة ومن أي تصرفات بائدة، واحترام حرفيّ وحازم للقانون الانتخابي تحت إشراف مستقل وشفاف من الألف إلى الياء؛ ليفوز من فاز عن بينة ويسقط من سقط عن بينة، أم ستنكسر هذه الصورة الحالمة على صخور واقع يبدو أنّه يسير في الاتجاه المعاكس لسباق الأمم نحو الرقي، واقع يبشّر بإطباق دائرة التحكم على العملية الانتخابية؟ وينتهي هذا المطاف اليائس بخيار المقاطعة الجماعية للانتخابات ونكون كمن نقضت غزلها وهدمت منسجها.



