بينما كانت جحافل الباطل تزحف صوْب مدينة النخيل لإبادة الدولة الوليدة، كان المجلس الاستشاري الأعلى قد انعقد داخل المدينة، لمناقشة خطة الدفاع عنها، فأسفرت تلك الجلسة التي يترأسها خير من وطئت قدماه الثرى، عن فكرة جادت بها قريحة ذلك الفذّ الآتي من بلاد فارس ليذوب في بوتقة الإسلام.
“يا رسول الله، إنّا كنا بأرض فارس إذا حُوصرنا خنْدَقْنَا علينا”؛ تلك هي الفكرة التي عرضها سلمان الفارسي، فرحّب بها النبي صلى الله عليه وسلم، بالرغم من أنها مستوردة، مقتبسة من حضارة أخرى.
وبدأ الحفر بمشاقّه، وظلت الزمرة المؤمنة تنشط في عملها رغم الجوع والبرد والخوف، حتى إذا ما اعترضَتْهم صخرة عظيمة، استعصت عليهم، هرعُوا إلى قائدهم، والذي نزل بنفسه، وطفِق يضرب الصخرة بمِعْوَلِه وهي تتفتت، وفي كل ضربة يكبِّر، ويبشِّر بمستقبل مشرق لدولة الإسلام: “الله أكبر أُعطيت فارس، والله إني لأُبْصر قصر المدائن الأبيض الآن“.
إذن، فالمسلمون اقتبسوا من حضارة أخرى ما ينفعهم، دون الدخول في تبعية هذه الحضارة أو الانصهار فيها، بل إنهم سعوْا لأن تذوب تلك الحضارة في أخرى جديدة ارتضاها الله للبشرية، وتحمل مقومات الاستمرار والبقاء، وهي الحضارة الإسلامية.
لقد وقعت قضية الاقتباس من الغرب والانفتاح عليه فريسة نوعين من التوجه الفكري، كلاهما بلغ من التطرف مبْلَغه، فأوَّلهما تمثل في الانغلاق ورفض فكرة الأخذ عن الحضارات الأخرى مطلقا دون تحديد أو تقييد، بذريعة الحفاظ على الهوية الإسلامية.
أصحاب هذا التوجه كانوا ضحية الجهل، الجهل بالشريعة وواقع الرعيل الأول، والجهل بمفاهيم الولاء والبراء وضوابط العلاقات بين المسلم وغيره.
إن عدم الاعتراف بما لدى الغرب من نقاط وعناصر تفوق لا يخدم الفكر الإسلامي، بل هو ضعفٌ في حدِّ ذاته، وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه، يذكُرُ الروم قائلا: “إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالًا أَرْبَعًا إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ“، فلم يمنعْهُ التنافس الحضاري من الاعتراف بما لديهم من نقاط قوة وخير.
في تقديمه لكتاب “100 مشروع لتقسيم الدولة العثمانية” أشار الدكتور محمد العبدة إلى تجربة الاتحاد الأوروبي قائلا: “يدل على جَلَدهم ومتابعتهم لأمور دنياهم بتعقلٍ ورويّة، فهؤلاء القوم لا يسقطون سريعا كما سقطت الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، ففيهم خصال تمنع عنهم التدهور السريع، وإن كانت الحضارة الغربية بشكل عام فيها من المفاسد ما يجعلها تتآكل وتنحدر”.
الأخذ عن الحضارات الأخرى بضوابطه، وفي ما ينفعنا، جرى عليه عمل الأولين، وليس اتجاها جديدا أفرزته ضرورات الواقع.
الاتجاه الفكري الآخر حيال الاقتباس من الغرب والانفتاح على الحضارات الأخرى، والذي تتبناه شرائح وفئات كثيرة في الأمة، يتمثل في الهرولة وراء الحضارة الغربية بُغية استنساخها بحُلْوِها ومُرِّها، بصحيحها وسقيمها، واقتفاء آثار الغرب حَذو القُذَّةِ بالقُذَّة، ورؤية حتمية الذوبان في حضارته.
أصحاب هذا الاتجاه تجاوزوا حد الاقتباس من الآخرين قِيَم الإنتاج والفاعلية والإخلاص في العمل والنظام ونحوها -والتي تمكنوا من ترسيخها وصارت تطْبَع السلوك العام للمواطنين وهي بلا شك قيم في جوهرها تتفق وقيم الإسلام- ولهثوا وراء استنساخ نظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والقوالب الثقافية والنظريات الفكرية التي تنطلق من الهوية الغربية المتمردة على الانقياد لتعاليم السماء، وصاغتها العقلية الدارونية والفرويدية، مرورا بنسبية القيم التي قال بها “دور كايم”، وانتهاء بـ “جان روسو” الذي صاغها في دستور بتغير تلك القيم تحت مظلّة العَقْد الاجتماعي.
ليت هؤلاء قد انصرفت هِمَمُهم إلى اقتباس آليات التقدم والازدهار الصناعي والزراعي والتقني والتكنولوجي، إنما انصبت دعواتهم على استنساخ المنظومة القيمية الغربية.
الاقتباس عن الحضارات الأخرى دون تمحيص هو عبث في قضية شديدة الحساسية في الفكر الإسلامي، ومن الظلم البيّن المساواة بين القيم الإسلامية وغيرها، فشتان ما بين قيم ربانية المنبع ومن ثمّ تكتسب عنصر الثبات والصلاحية المطلقة لكل زمان ومكان، وبين قيم نسبية تدور في فَلَك المنفعة والمصلحة، وتُبرز وجه العنصرية والشعوبية في كثير من الأحيان.
لقد انهارت تلك القيم التي يترنم بها الغرب في عدد لا يُحصى من المواطن، وبرز الوجه القبيح لحضارته في البوسنة ولم يتدخل إلا بعد أن أتم الصرب عملهم في ذبح ذلك الشعب المسلم.
وانهارت قيم الغرب تحت مجنزراته التي سحق بها عظام العراقيين، بعد مسرحية الأسلحة الكيمائية التي لم يُسدل الستار بعد على فصلها الدموي الأخير.
انهارت قيم الغرب عندما ذرف الدموع على مجزرة شارلي إبيدو وتفجيرات لندن، دون أن يحرك ساكنا لشعب حلب الذي اختلط خبزه بدمائه، ويفاضل بين الموت في قعر بيته والموت في الطرقات حيث لا مهرب من قصف الطائرات الروسية والسورية، ولا يعرف طعم الفرحة والنصر إلا عند انتشال طفل من تحت الأنقاض حيا.
الذين أرادوا لنا الذوبان في الغرب، ودفعوا بالمجتمعات الإسلامية والعربية نحو هاوية التغريب، فشلوا طوال عقود في تقديم شيء إلى هذه الأمة سوى المهاترات والتنظير والتصنيف، دون بذل أي حلول عملية لانتشال الأمة من واقعها المر.
تبيّن فشل هذا الاتجاه بعدما أغرق المجتمعات في التقليد الأعمى والتبعية، والسبب كما بين المفكر الإسلامي أنور الجندي رحمه الله: “لم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبيُّنِ أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل”.
الفكر الإسلامي يواجه اليوم معركة شرسة لتحرير العقل العربي والإسلامي من استعباد الثقافة الغربية، وإقرار حق مراجعة القيم الغربية وفق ثقافتنا الإسلامية وقواعدها، تلك القواعد الثابتة التي لازمت الانفتاح على الحضارات الأخرى على مر العصور، فحافظت على هويتنا.
ما تعانيه أمتنا من تخلف لا يبرر الهرولة وراء الغرب، فتخلُّفنا عن ركب الأمم لم يكن بترك استنساخ تجاربهم وقِيمهم، وإنما أوتينا من النأي عن تعاليم الإسلام في نسخته الأولى أيام الرعيل الأول، والذي يؤكد على مهمة الاستخلاف، والأخذ بأسباب القوة والحضارة.
هذا الواقع المر من التخلف والتراجع لا يعني أننا نفقد الأدوات والمقومات، فهي عناصر ثابتة في مكون الحضارة الإسلامية، تستمد بقاءها من المنهج الرباني، وفي أي زمان ومكان، تعاطى فيه المسلمون مع تلك المقومات، سلكوا بقوة درب النهوض والتقدم.
ونختم بتلك المقولة الجامعة لأنور الجندي، والتي تؤكد على هذا المعنى، إذ يقول: “فكْرُنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نُمُوَّه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري”.