احسان الفقيه تكتب: نحو أسلمة الراية
هوية بريس – الكاتبة احسان الفقيه
سنوات مضت على هجرة المسلمين من مكة فرارًا بدينهم، كابدوا خلالها من أجل إقامة دولة الإسلام، ثم هاهُم يعودون إليها فاتحين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس الكتيبة الخضراء، يمر بهم على أعين المشركين، فيستوقف مشهدُ العزة هذا أبا سفيان بن حرب، وكان لا يزال على وثنيته، فقال للعباس بن عبد المطلب: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك الغداة عظيما، فقال العباس: “يا أبا سفيان، إنها النبوة”.
وكأن العباس عندما خرجت منه هذه الكلمات، كان في موطنِ إلهام من ربه، فأرسلَ في الأنام حقيقة واضحة في أن الراية التي رفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تُعبّر عن عِرقية أو جنسية أو قومية أو قِبَلية، إنما هي دعوة ربانية، تصبغ البشرية بصبغة العبودية والاستسلام لرب العالمين.
راية الإسلام هي الراية التي لا يصلح الالتفاف حول غيرها، مهما تنكّر لها المُتنكرون، ومهما حاد عنها المُتنكّبون، فكل راية سوى راية الإسلام إلى زوال.
رفعوا حينًا من الدهر راية القومية العربية، فخانتهم عروبتهم، فكانت دعوة منتنة، أصبحت فكرة خاوية على عروشها، وآلت بأصحابها إلى التناحر والتباغض والتَّحارب، وذهب كل منهم باتجاه التحالف مع أعداء الأمس.
رفعوا راية الإنسانية والتعايش الإنساني الذي يعني لديهم الذوبان وتمييع الدين، وها هم يكتوون بنيران نسبية القيم الغربية التي لا تعرف قيم الإنسانية والعدل والرحمة إلا في إطار مصالحها.
رفعوا لواء الاشتراكية والرأسمالية سيرًا على آثار الشرق والغرب، فما زادتهم إلا ضعفًا وتخبطًا، فأصبحت الدول العربية ما بين دولة تُكابد الفاقة، وأخرى تُستنزف خيراتها وتلوح أمارات الفقر في أُفُقِها.
قالوا لن ينفعنا منهج مرَّ عليه 14 قرنا من الزمان، وساروا في ركب الغرب الثائر على الحكم الكنسي، واتهموا الإسلام زورًا وبهتانا بالمسؤولية عن التخلّف والانحدار، فلئن ساغ للغرب الثورة على الحكم الثيوقراطي الذي يعرقل العلم ويكبت الفطرة ويستبد بالبشرية باسم الرب، فإنه لا يسوغ لبني جلدتنا الثورة على دين كان أول ما نزل من كتابه (اقرأ)، وشيد حضارة كانت منهلا لأوروبا بعد ذلك باعتراف المنصفين منهم.
استورد قومنا المنهج العلماني، زاعمين أنه قرين التقدم والازدهار، فما أغنت عنهم علمانيتهم من شيء، وما زادتهم إلا تخلُّفا عن سباق الأمم.
ما بالنا نحيد عن أسلمة الراية؟ لماذا نخجل من الصدْع بهويتنا؟ لماذا لا نعلن أنها مرجعيتنا وبوصلتنا وغايتنا؟
أسْلَمة الراية لدى كل مؤمن عقيدة، ولدى غير المؤمن حتمية مصلحية، فما شهد العالم حضارة كحضارتنا الإسلامية، التي نزعت عنها عصبيات الجاهلية، وصهرت في بوتقتها الناس على اختلاف الأجناس والعرقيات واللغات، فهي تجربة تاريخية ناجحة تعود متى اكتملت أركانها.
إعلاننا هويتنا الإسلامية في شجاعة نقطة البداية، ليحيا من حيّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، نجهر بذلك غير متوجسين من صياح الآخرين، فهم يعرفون كما نعرف تماما أن الإسلام في صورته الصحيحة التي جاء بها لا يحمل سوى السماحة والرحمة والعدل للناس جميعا مؤمنهم وكافرهم.
كفانا تزلّفا للغرب بإخفاء الراية الإسلامية وإبعادها عن الأحداث، فلم تُنتج الأفكار المُلوّثة المتطرفة المُغالية إلا بسبب هذا التخفي الذي ترك ساحتنا فارغة، فملأتها الأهواء والنزعات.
لدينا منهج متكامل لإعمار الأرض والقيام بمهمة الاستخلاف ليس لغيرنا مثله، وزلل بعض الأتباع لا يعني ضعف المنهج.
وإن أسلمة الراية تعني ضمنًا التواصل الجِدّي مع العهد النبوي والقرون المفضلة بعد فترات الانقطاع النوعي التي ضربت الأمة، فهذا العهد هو الجذور والمنشأ والمنطلق، وإنجازاته تمنحنا فرصة الاستئناف لا أن نبدأ من جديد.
أيها المسلمون، ارفعوا رؤوسكم، واستعلوا بإيمانكم، وأعلنوا منهجكم وارفعوا رايتكم في وضوح، لا تكترثوا لفزّاعات الإقصاء والطائفية والعنصرية، فلن نُفصِّل إسلاما على هوى أحد.
لا تخجلوا وأنتم تتحدثون عن حديث الذبابة، ولا عن سجود الشمس، ولا عن الطير الأبابيل، ولا عن أخبار الخوارق في المستقبل، فإلهكم هو سيد هذا الكون، من عنده نزل كتابكم، وبوحيه أُرسل نبيكم، فلِمَ الخجل؟ ولِمَ التواري بالمنهج الرباني؟
لما دخل ربعي بن عامر على قائد الفرس، لم يبحث في تبليغه الرسالة عن صيغة توافقية تُميّع معالم هذه الرسالة، بل رفَعَ الراية في ثبات، وبلّغ المنهج في وضوح “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
ارفعوا الراية قبل فوات الأوان، فالثوابت يتم ضربها في العلن، وصار من بني جلدتنا من ينادي بحذف سورة الإخلاص من المناهج التعليمية للناشئة، وبعضهم ينادي بحذف مادة التربية الإسلامية إرضاءً لأصحاب الملل الأخرى، وبعضهم ينادي بحذف الآيات التي تتحدث عن اليهود، فلا عجب أن نرى هذه الدعوات يطلقها الغرب أيضا، طالما أن أهل الإسلام قد هان عليهم كتاب ربهم.
وكان الطعن قبلها في السُّنة بمحاولة فصلها عن القرآن، والدعوة إلى الاقتصار على القرآن، أرادوا بذلك هدم الدين والشريعة التي ثبت معظمها بالسنة النبوية التي تُكمِّل القرآن، وتُفسّره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله ومعه) أي السنة، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يُوحى.
وحاولوا الطعن في السنة عن طريق التشكيك المستمر في أحاديث البخاري ومسلم، وعن طريق إطلاق مزاعمهم بتعارض الأحاديث النبوية مع العقل، وكذَبوا ثم كذَبوا، فما هناك مِن نصّ صحيح يعارض العقل السليم.
وإلى أهل الإيمان، الذين يُصدقون بموعود الله ورسوله، “قد أتانا من حديث نبينا، نبأ صحيح صادق لا يكذب”، قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يختبئ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ من شجر الْيَهُود ).
سيخاطبكم الشجر والحجر بـ (يا مسلم، يا عبد الله)، لن يخاطب فيكم عروبتكم ولا إنسانيتكم ولا مذاهبكم، بل هي صفة الإسلام والعبودية.
قولوا عني أصولية، إرهابية، عنصرية، فإنِّي:
أبي الإسلام لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
تلك رايتي فمن أنصاري إلى الله؟
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
جزاك الله خيرا واسال الله لك الثبات على الحق وان يحفظك ويصرف عنك كل شر ويجعل ماتكتبينه في ميزان حسناتك ..