احسان الفقيه تكتب: كلمات في سرادق العزاء لثورة يناير المصرية
هوية بريس – احسان الفقيه
«ارفع رأسك فوق، أنت مصري»، عبارة لطالما طَرِبتْ لها الآذان، عندما تُوّجت تضحيات الشباب المصري بسقوط النظام المستبد، وانبعثت الآمال من تحت الركام، آمال المصريين، وآمال الأمة بأسرها، خاصة لمن يُدرك قيمة أرض الكنانة وتأثيرها.
ها هي الذكرى السنوية السابعة لثورة يناير قد أقبلت، لكن العين لم تُبصر بين الأشقاء في مصر أي لون من ألوان البهجة والفرحة، فكأن القوم في حدادٍ يتَّشِحون بالسواد، وكأنهم أقاموا سُرادق العزاء لتلك الثورة بدلا من الاحتفاء بذكراها، يبكون ضياعها وسط غمز ولمز الساخرين. بأي ذكرى يفرحون، وقد سقطت دولتهم في قبضة الفرد، فلا صوت يعلو فوق صوته، ولا رأي يصدُر بعد رأيه، يسوق الشعب بعصاه، والويل لمن يتأوه ألمًا، والملأ من حوله إمّا زبانية يبطشون، أو سحرة يُسبحون بحمده، أو شذّاذ آفاق يرون فيه النجم الساطع الذي أضاء سماء مصر، يدعمهم محترفو الاقتباس «وعلامات وبالنجم هم يهتدون».
في ذكرى الثورة كانت سكْرة البكاء على ليلى، كلٌ يبكي على ليلاه، فبطنٌ خاوٍ، وأمٌّ ثكلى، ومغدورٌ مُسجّى، ومظلوم خلف القضبان، وفمٌ مُكمَّم، وقلمٌ مكسور، وعذراء اختفت قسرًا، وكسرة خبز مغموسة بالمذلة، وثروات المصريين تُبدّد أمام أعينهم فيزيدهم قهرًا. في غمرة هذه الأحزان التي يجْترُّها أصحابها، حانت لحظة تُنذر بولادة أمل، لكنهم سرعان ما كبّروا عليه أربعا.
قبل أيام، وبينما كنت أطالع الشأن المصري كعادتي اليومية، طلب مني بعض القراء أن أدْلُوَ بِدلْوِي حول ترشّح رئيس الأركان الأسبق سامي عنان للرئاسة في مواجهة السيسي، وبعد طول تأمّل عزمت على صياغة رسالة لمن يتابعني على الأقل من إخوتي المصريين، مُنبثقة من رؤية متواضعة، لا أزعم أنها الحق المطلق. وددت ساعتها أن أُذكّرهم بأصل ثابت في الشرع والمنطق، وهو الاختيار بين أهون الشرّين، وكما قال صاحب «يتيمة الدهر»: «الغريق بِكُل حَبل يَعْلِق، والْعَاقِل يخْتَار خير الشرين». ورغم الرفض المطلق للحكم العسكري الذي جرّ الويلات على الشعب المصري، إلا أنني وصلت إلى حقيقة مفادها: أن مصر في الوقت الحالي لن يحكمها سوى رجل من العسكر، شاء المصريون أم أبوا، بعدما صارت كل مُقّدرات بلدهم بأيديهم، بعد أن أدمنوا القبض على عرش المصريين بالحديد والنار، ولم يعد خافيا على كل ذي بصيرة أن الجيش لم يقف في طريق الثورة وقام بتمريرها لضرب مشروع التوريث، ونقل الحكم إلى مدني، ولضرب مشروع الإسلام السياسي في آن. كنت سأقولها للمعارضين إن عليهم الالتفاف وراء ذلك العسكري الجديد، الذي لا يحمل تاريخًا صداميًا مع أيٍّ من فئات الشعب، ولم تُغمس يده في دماء المصريين، كضرورة للاصطفاف الوطني وتصفير النزاع، ورحمة بالشباب القابع في ظلمات السجون، وبعامة الشعب الذين أرهقهم الجوع والقمع والفساد، وإنقاذًا لما يمكن إنقاذه على أرض الكنانة، وليجتمع الشرفاء على كلمةٍ سواء لفكّ قيود الثورة في أيام ذكراها.
وبينما تتجه الأنظار لبصيص من الأمل في إزاحة حكم الفرد المطلق، سبق السيف العذل، وقطعت جهِيزة قول كل خطيب، وانحبس مداد القلم، فما عادت تُجدي الحروف، حيث جاء النظام بنادرة الدهر، واعتقل عنان بتهم لا تحترم عقول المصريين، فهم ليسوا بحاجة إلى إتقان التبرير، ولا إلى ذلك المنطق بالأساس.
وبعدما أعلن المرشح اليساري خالد علي انسحابه من سباق الانتخابات، احترامًا لذاته، وتوافقا مع رغبة رفقائه في ضرورة تعرية النظام، شاهد الجميع أكثر فصول المسرحية إضحاكًا، حيث انبرى رئيس حزبٍ كان بالأمس يدعم ترشح السيسي، ليطرح نفسه كمرشح للرئاسة على طريقة المُحلّل او التيس المستعار.
أَفقْتُ اليوم على خبر آخر أتى في سياق الأحداث المأساوية المتلاحقة على أرض الكنانة، وهو محاولة اغتيال المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، ونائب الفريق سامي عنان في حملته الانتخابية. جنينة من المعروف أنه من أكثر الرموز نزاهة ووطنية، وحُوكم على طريقة قوم لوط «أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون»، فجريمته كشف الفساد المالي الذي دمّر الاقتصاد المصري. لقد بلغ السيلُ الزُّبى، وبلغ السكين العظم، وتعجز الكلمات عن توصيف الواقع المؤلم في مصر، ووالله لم يعد الحديث عن الحل سهلًا. فهل يُعوّل المصريون على ثورة أخرى وقد سقطت كل مؤسسات الدولة الصلبة في يد النظام، وفرقاء الثورة قد فرَّقتْهم مذاهب القول؟ أم يُعوّل المصريون على تعديل النظام مساره؟ فكيف والأمور من سيئ إلى أسوأ، وأحلام الغد لم تعد مشروعة، وما من بادرة خير تظهر في الأفق؟ ورغم ضبابية الموقف، إلا أنه في جميع الأحوال ووفق كل السيناريوهات المتوقعة لما ستؤول إليه الأوضاع في مصر، هناك مسؤولية وطنية لا غنى عن الاضطلاع بها، وهي عودة اجتماع القوى المعارضة على مشتركات ثورة 25 يناير، وهذا يتطلب قدرًا من المرونة، والنظر إلى مدى واقعية الغايات.
وأقولها رغم عِلمي المُسبق بأنها ستثير حَنَق بعض الأصدقاء، التمسُّك بعودة الرئيس محمد مرسي – فك الله أسره- واستئناف البناء على فترة ما قبل الانقلاب، أصبح كلاما نظريا غير قابل للتطبيق على أرض الواقع، ومع ذلك فالعمل وفق هذه الغاية كُلْفَتُهُ عالية، وفي سبيله دفع الشباب المصري في الميادين ثمنا باهظا من أجل تحصيله. لذا لا مناص من إعادة صياغة رؤية المعارضة، والتقريب بين فصائلها على مشروع وطني جامع، يُسهِّل العمل من أجل إنقاذ مصر.
أهل السطحية كالعادة سوف يستنكرون كتابتي على هذا النحو في الشأن المصري الداخلي، وأما من يعرف أهمية مصر وانعكاس مسيرتها على الأمة بأسرها، سيدرك أن الاهتمام بكتابة بعض الكلمات عن أزماتها ليس بالشيء الكثير..
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية