اخرج قليلا لو استطعتَ أو كثيرا من عالَم البؤس الافتراضي!
هبة نجاعي – هوية بريس
في مواقع التواصل يتبادل الناس همومهم ومشاكلهم ويجدُ بعضهم المساحة مُطلقة له كي يصبح على غير ما هو عليه في الواقع، لا قصدا منه بالضرورة منه وإنما تعويضا عن النقص الذي يجده ماثلا أمامه في الواقع : (انتقاصات الناس، مشاكل أسرية، عوائق مادية، أوضاع نفسية مضطربة…).
ويُلاحظ أن من يدخل هذا العالَم الافتراضي متشبعا بعقلية متزنة ودراية علميّة يجد صعوبة في التأقلم معه و مع سُكّانِه ، وحتى من دخله دون علم ممنهج أو اتزان فإنه حين يبلغ تلك المرحلة يشعر بنفور طبيعي منه قد يؤدي إلى اعتزاله أو ابتعاده التدريجي، أو خطوة هي بينهما لا تسلك طريق الأبيض والأسوَد.
لمَ يحصل ذلك؟
تأملتُ فوجدتُ ذلك راجعا إلى مسببات عديدة كفُشوّ الجهل والتعالم والكِبر وغيرها من الصفات المذمومة، لكنني في الآن ذاته وجدتُه مكبّا لكل ما هو غير واقعيّ وإن كان جلّ مَن يستخدمه منّا نحن البشر – أي له وجود واقعي فعلا !
لأن الحقيقة أننا حين نكتب هنا لا نقدّم أنفسنا بكامل شخصيتنا، بل قد تطرأ علينا حالات مما يطرأ على جميع الناس مِن غضب و تضامن وحِداد وهجاءٍ وتقرير وأخذ ورد أو رياء خفي أو ظاهر… ومن الناس من يتخذ لنفسه نمطا خاصًا لا يتعامل به فعليا مع معارفه وبين الناس ممن يراهم ويحادثهم مباشرة – فلا يظهر للناس إلا ما أراد هو أن يظهر، وبكثرة الناس الذين يشابهون هذا الفرد؛ تتحول الساحة إلى مجمَع جزئيّات لتبقى الصورة الكاملة دائما محتجزة في مكانٍ رَحب هو عالمنا الواقعي، لكننا من كثرة اندماجنا في الافتراضي يبدو الواقع كأنما يزداد ضيقا يوما بعد يوم، فتتشكل الهالة السوداء للأوضاع المأساوية عشرات أضعاف حجمها الواقعي !
هل هناك سر آخر؟
من الجيد التذكير أن العالم الافتراضي لو كان مقتصرا على جوانب تظهر منا دون أخرى لهان الأمر، لكن الظروف المحيطة باستخدامنا لمواقع التواصل نفسها مركّبة ؛ فمِن جهة تحكمنا خصوصية مُلّاك هذه المواقع وقوانينها، ومحدودية العمل فيها حسب سياساتهم وأهدافهم التي ارادوها لكل مَن يستخدمها.. ومن جهة أخرى نجد لوبيّات خاصة تنشر مضمونًا محددا لفئة مستهدفة مقصودة قصد التأثير على الرأي العام لها ليترتب على ذلك أعمال أو مواقف قد تؤدي إلى قرارات حاسمة تصلُ أذنابها إلى الواقع ذاتِه !
وهذا يؤثر بشكل أو آخر على المستخدمين وتشكل أفكارهم إن لم يكن هناك نقد موضوعي لكل ما يتم تقديمه (وهو أمر ليس بالسهولة التي قد تبدو).
إذن ما حاصل التقرير؟
ما أريد قوله إن ما نراه اليوم في شبكات التواصل من ترَدّّ للأوضاع وهوان و ذل وتنكيل… إلخ إنما هو جزء من الواقع لا الواقع نفسه، و حيث إنني أرى من يطرح الإيجابيات والأخبار الهادفة والمشجعات والمحرّضات على التغيير والنهضة والرفعة وعودة الأمّة والأمجاد؛ يلقى تفاعلا أقل مما لو نشر فاجعة او مسألة تمس القضايا الحساسة بغضّ النظر عن نوعها، فإنه يركب الموجة ويصبح تفاعله هو نفسه مع ما يؤثر لا بالضرورة ما قد تترتب عنه مصلحة!
هذه الأمور ومثيلاتها تجعل أفق الرؤية محدودا، وإن تحدثنا عن المسلم تحديدا فلا يجب أن تُسيّجَ فكرَه هذه الوسائل، ولا أن تقطع أمله بالصلاح والنصر من الله تعالى، ناهيك عن منعه من السعي نحو التحفيز لا الإكثار من التثبيط بدعوى أن هذا هو “الواقع الذي لا مفر منه” وأن ما سواه مثاليات ورديّة لا تنفع للتطبيق العمليّ !
هناك فرق…
لأن سنة الله الكونية/القدريّة لا تنفي العمل بالسنّة الشرعية : أي السعي للخير ونشره والتذكير به ولو على سبيل الاستشهاد بالماضي المزدهر، نعم ! حضارتنا عريقة وعلومنا وعلماؤنا وتاريخنا ضخم هائل لا يصح إهماله بدعوى تغير الأزمان، إذ إن احياءه لا يشترط التنصل من الواقع ولا محوه، بل الجمع بينهما تكاملا وحفظا.
ولا ننكر فتن زماننا ولا مصائبها، غير أن السواد الاعظم يجيد “السبات البكائي” دون تفكير عملي فيما يمكن أن يقدم حلا أو حلولا !
ختاما..
العالم في مواقع التواصل يمنحك مجهرا مكبرًا لكل الرذائل والمصائب والفواجع رغم الإفادة التي فيه، لذا ابتعد قدر ما تشاء وتستطيع ثم تأمل وازدد قراءة وعلما.. تأمل بائع الخبز ورجاءه في رزق الله، إيمان جدتك ويقينها في نجاحك ومستقبلك الباهر، مساعدة صاحب التاكسي لك حين ضاعت محفظتك.. المبادرة الفلانية التي تولت مصاريف علاج أخيك، مدير مدرستك الذي عرف ظروفك فيسّر لك أقساط دراستك، زميلك الذي حفظ لك الودّ ودافع عنك يوم أهينت كرامتك، الخير الذي بقي بين أبناء حيّك وهم يسارعون للتبرع بالدم بعد حادثة اصيب فيها فرد منهم.. والكثير الكثير على مستوى مدينتك.. دولتك.. الأوطان الإسلامية.
هناك الكثير من الخير يجري في عروق طيبة، وبعضها طمسته فقط ظروف عارضة، لنُحيِ سُنة الأمل في الله والرضا عن الله وحسن الظن بالله، رغم كل ما قد يظهر لنا على أنه شرور، لكنها في حقيقة الأمر قد ضُخّمت فوق ما تستحق !
(ملاحظة : هذه ليست دعوة للانقطاع التام، بل الموازنة وعدم الانجراف للأسوأ)