استراتيجية الإسلام (1) -الوحي- (سلسلة مقالات رمضانية)
هوية بريس- محمد زاوي
الإسلام استراتيجية كبرى، لا يستهان بها، ولا يجوز إخضاعها للأهواء. للإسلام استراتيجية يجب إظهارها، على ضوء الشرط التاريخي لعالم اليوم، لا على هوى من أنفسنا. يجب تخليص هذه الاستراتيجية من “التحريف والانتحال والمغالاة”، يجب إشهارها للعالمين في زمن الافتتان والفوضى، فما أحوج العالم إلى بصيرة أطفأها بصره الخادع.
سنحاول في هذه السلسلة من المقالات مناقشة أهم عناصر استراتيجية الإسلام، وحاجة البشرية اليوم إليها. فليس المسلمون وحدهم هم المعنيون بهذا الخطاب، بل كافة العالمين. إنهم في حاجة إلى معرفة المنظور الإسلامي لقضايا: الوحي، الإنسان، الإيمان، الأخلاق، العدل، العلم، الكوكبة (لا العولمة)، الأسرة، الجمال، الكون، التأمل، الصحة، الخ.
في هذه العناصر كلها، وفي علاقتها بمشالكنا وأزماتنا وشرطنا التاريخي، تتجلى استراتيجية الإسلام؛ بما هي نظام مُثُل وأحكام تحفظ النسل والإنسان، وتؤسس لنوع من الانسجام والتناسق بين الفرد ومحيطه، بين الإنسان والعالم، وبين الحياة والكون. تحول بين هذه الاستراتيجية حوائل رافضيها ومدّعيها، فلا تستهوي العالمين وهم في حاجة إليها. الأدعياء إما في الكليات هائمون، وإما في الجزئيات منحسرون. ولسنا هنا بصدد الدعوة إلى تفكيك الكليات، أو تعطيل الجزئيات، بل ربطها جميعا بواقع تنزيلها (كما تم ربطها بأسباب نزولها وورودها).
***
1- الوحي
– نظريات الوحي
خرج على الناس بعض أدعياء “الحداثة”، لم يقتنعوا بما ورد في الأثر عن الوحي. لم تدرك عقولهم علاقةً خاصةً بين عالمين، “عالم الغيب” و”عالم الشهادة”، فنحوا في الظاهرة (ظاهرة الوحي) ثلاثة مناحٍ:
* القول باستحالة “الوحي”؛ وينسب هؤلاء العبقرية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لا إلى الوحي ومن أوحى به، وهو الله تعالى. القرآن في نظرهم جمع من هنا وهناك، بناء نصي متأثر ب”أساطير الأولين” و”دين السابقين”، لا يخلو من “سيرة الموحى إليه”. التناص عندهم دليل على الجمع والتركيب، فاستلزموا ما لا يجوز فيه استلزام.
* التفسير السيكولوجي للوحي؛ تتبعوا حالات الوحي كما وردت في الأثر، ثم أخضعوها للتحليل النفسي وكأنها بين أيديهم ينظرون إليها كما هي. اكتفوا بالأثر ووصف أصحابه وهم له رافضون، فسقطوا في الدور.
* القول ب”التخيل”؛ وتلك فكرة أعاد إنتاجها سبينوزا في شرط صراعة مع رجال الدين الهولنديين، لها جذور في حكمة الشرق، وروادها من الهنود أو التاويين. ورغم أن هذه الفكرة أقرب إلى إثبات الوحي من غيرها، إلا أنها تصطنع مسافة بين مجال الوحي ومجال الموحى إليه. الوحي بالنسبة إليها ومضة من المجال الأول، وتعبير عنه في الثاني ووفق ثقافته.
– التوقف في الحكم
هناك فئة أخرى، لا هي تنفي وحيانية الوحي، ولا هي تحدد طبيعته وفق تفسيرها الخاص، أو وفق منحاها في النظر إلى القضايا. تعتبر الظاهرة سرا لم تفكّ شيفرته إلى اليوم، ولا عُرِف سبب ظهورها في منطقة بعينها، هي محل صراع وتنازع ديني ومصلحي إلى اليوم (جورج حنا، في كتابه “قصة الإنسان”). أو لعل هذه الفئة تكتفي بما يحكيه النبي عن نفسه (موسى وعيسى عليهما السلام، محمد صلى الله عليه وسلم)، فتقول بالوحي كما قال به النبي ما دام قد أخبر بذلك (الباحث السوري في تاريخ الأديام فراس سواح).
– الوحي والأصل
وما كان للناس أن يُفتَنوا بكل هذه الأنظار، ما دامت البشرية في حاجة إلى من “ينقذها من الضلال”. فأصل الضلال واحد، ليس إلا فقدان العالمين لعلاقتهم بالأصل، ب”مسبب الأسباب”، بجامعها ومنسّقها وموحّد مناحيها، ل”يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس”؛ الأصل الذي انطلق منه العالم ليعود إليه، بل ينطلق منه ويعود إليه في كل جزء من المئة (باعتبار نسبية الزمن ودقته كلما اتسع مجاله). تمظهراته لا تخفى على أولي الألباب، مهما ادّعي الارتباك في أكثرها دقة أو أكثرها عظما. لولا النظام لما بقي نظام، ولولا ديمومة الوحدة لما استمر نظام.
ولما كان بلوغ الأصل مستعصيا، أو لعله كان مستحيلا، بالنظر إلى لا نهائيته وعدم خضوعه لمعايير المحدودات؛ فقد كان التأمل مدخلا، وكان الوحي جزاء وعطاء. ولا تأمل إلا باستعداد “تُعدَم” فيه الأنفس لترى الحقيقة، تصبح فراغا لتمتلئ بالحق، تمسك عن المباح لتمسك قبضة من عالم خفي.. إنه فناء في حقيقة العالم، لا في تفاصيل الشهوة.. صفاء في البحث ينتج صفاء في النتيجة، إلحاح في الطلب دواؤه التلبية.. فكان النداء وحيا، لا سبيل لمعرفته إلا بالغوص في معنى الذات وتقديم لذتها “قربانا” ل”الأزل والأبد”، اللانهاية.
العالم اليوم مفتون، تفتنه التفاصيل، لا يكاد يعرف جامعا للكون، لا يكاد يعرف له نظاما موحدا وإن درس تفاصيل هذا النظام؛ والحياة أمام الناس تجارب، فالوحي لم يعد يدعيه أحد، ولم يستطع أن يأتي بمثله صاحب وِجد؛ أما التأمل فالخلاص فيه التقاء بمصدر الوحي، أو بدلالة عليه. “وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان، فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون”. (سورة البقرة، الآية 186)
(يتبع)