استراتيجية الإسلام (12).. الإيمان والإلحاد
هوية بريس- محمد زاوي
– الإيمان والإلحاد
الإلحاد إنكار العلاقة بالأصل، إنكار الإنجاز الأنطولجي للإنسان، إنكار وجود الغيب؛ طغيان ب”عقل محدود” لا محالة، تعطيل للعقل بالعقل، إقبار لملايين السنين بومضة برق، غشاوة على عين الإنسان:
– فلا ترى الكون؛ “أفلم ينظروا إلى السماء فوقفهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج” (سورة ق، الآيتان 6 و7). النظام واحد، الأصل واحد، الرب واحد؛ هناك، بعيدا، في الأزل حيث البداية مفتوحة، وفي الأبد حيث النهاية مفتوحة.
– ولا ترى الأصل في ذاتها؛ “وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون” (سورة الأعراف، الآية 204). استعموا لخطاب الوحي وكأنه عليكم أنزل (منهجية في التدبر كان يحث عليها فريد الأنصاري)، لعل الرحمة تكون نصيبا لكم، فتروا الحقيقة خارج الظواهر المرئية (بالعين المجردة أو المخبرية).
– ولا ترى حقيقة التاريخ؛ “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين” (سورة النمل، الآية 69). قرروا العودة إلى ما قبل التاريخ، إلى زمن الوثنيات والخباثات، فأورثهم ذلك تعفنا وتخلفا وسوء منقلب.
هناك استهداف إمبريالي استشراقي (استشراق جديد) للدين، للتوحيد، استهداف ناعم بوسائل قذرة، بل إن بعضه تم ويتم بالعنف (دعم “الإرهاب المتأسلم” بتعبير عبد الصمد بلكبير). وباستهداف الدين يستهدَف البصر فلا يرى الكون، بذلك هو مغترب عن الخلق. وتُستهدَف البصيرة، فلا ترى الحكمة، لا ترى الأصل في الذات، تغترب بذلك عن ذاكرتها ولاوعيها القديم. وتستهدف الحقيقة التاريخية، فيضل عنها الإنسان، مغتربا بضلاله عن تطور التاريخ وما آل إليه من استغلال.
يرى فيورباخ (مفكر ألماني)، أحد أبرز مفكري المادية اللاجدلية، الدين اغترابا. كان محكوما في هذا الموقف بشرط “الأنوار البورجوازية” في أوروبا، معركة مع الكنيسة استحالت معركة مع الدين. وما هي إلا ثلاثة قرون حتى استحال الدين منقذا من الاغتراب، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل في أوروبا نفسها. الذين حرروا الإنسان من عقال الدين لم يتصورا أن يصبح الإلحاد أداة في يد الاستغلال والاستعمار.
الدين، عند كارل ماركس، “روح لعالم بلا روح”، “أفيون الشعوب”؛ وذلك لأن الروح مادية في نظر مفكر الاشتراكية. اغترب ماركس في معركة ضد الاغتراب. أصاب تفسير الواقع السياسي والاجتماعي، ووضع قواعد لتطور أنماط الإنتاج في التاريخ، إلا أنه اغترب عن أهم ما يؤسس ذاكرة الإنسان -هذا الذي سيناضل ضد الرأسمال والملكية الاستغلالية-؛ أي الدين. الدين ليس الإيديولوجيا الدينية، فهذه عملية تأويلية خاضعة لمصالح فئوية (مصالح “مجموعة أفراد يؤدون نفس الوظيفة في بنية الإنتاج”)، تعيد إنتاج الدين على ضوء تلك المصالح. عليها ينطبق قول ماركس “أفيون السعوب”، لا على الدين.
ظهر في عالم اليوم إلحاد جديد، يركز على اللايقين في مجالين من الفيزياء، الميكروسكوبي والماكروسكوبي، في تخصصين بالذات: الكموميات (الكوانتيك) والكونيات (الكوسمولجيا). جعل الإلحاد المعاصر، العولمي المصدَّر، من هذين المجالين مصدرا للشك والفوضى العقدية، فانتصب على عرش العقيدة متكلمون من نوع جديد، أمثال هايزنبورغ وهاوكينغ وغيرهما. جعلوا أعظم مجال لليقين مجالا للايقين، ونسوا أن “اليقين ليس عليه دليل” (غوستاف لوبون في “حياة الحقائق”)، عملية خاصة، نظر في الذات، في أبسط حالاته مخاطبة لذاكرة الذات بالإيمان، ينشط في أدق الظواهر وأعظمها. من تأمل ظواهر الكوانتيك والكوسمولوجيا لن يلحد إذا أحسن النظر، بل سيرى فيها دلالة على الأصل، طريقا إلى الغيب؛ سيرى فيها الغيب والشهادة، دقة الخلق وأفقه الشاسع، آفاق مستقبلية لتطوير الإنتاج، لا لمصلحة فئة دون أخرى، بل العالمين أجمعين.