استراتيجية الإسلام (16).. الأخلاق- أزمتنا الأخلاقية (1)

25 أبريل 2023 10:23

هوية بريس- محمد زاوي

– أزمتنا الأخلاقية (1)

هناك أزمة أخلاقية عالمية، لها حقيقتان: حقيقة في المجتمع، وأخرى في النفس. أنتجها النظام الاجتماعي الرأسمالي في “المراكز”، ثم صدّرها إلى “الأطراف”. هدفه منها تحويل الإنسان إلى وسيلة (“حوسلة” بتعبير عبد الوهاب المسيري)، إلى كائن استهلاكي مجرد من أي قيمة أخرى، إلى وعاء معلوماتي لا يتحيز إلى أي قضية إنسانية عادلة.. هذا من حقيقة الأزمة في المجتمع. أما في النفس فالأزمة تجمع بين قابلية بشرية وفعل اجتماعي، بين قابلية الرجوع إلى ما قبل التكليف وسيطرة النموذج الأخلاقي للاستغلال.

إن للأزمة الأخلاقية عدة مظاهر لعل أبرزها:

* السيولة: فحل “اللامعيار” محل “المعيار”، وألقى الإنسان بنفسه في “سيولة كاسحة” و”هوة ليس بعدها قرار” بتعبير عبد الوهاب المسيري (الفلسفة المادسة وتفكيك الإنسان). لا نظام يضبطه في التفكير، ولا نظام يضبطه في التعبير، ولا في مختلف أنشطته المادية والمعنوية. في حين بنيت منظومة الإسلام على معيار من قواعد العقيدة والفقه والسلوك، شاملة لكل مناحي الحياة إما بأحكام مخصوصة لأفعال مخصوصة، وإما بأصول اجتهادية مخصوصة لقضايا مستجدة ممكنة. ولذلك جاء في القرآن: “إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا” (سورة الإسراء، الآية 9). وشرط الهداية الالتزام، فيبشَّر المؤمنون بها وبنتائجها من تمدن وقسمة عادلة.

* الأنانية: فبقدر ما كانت النزعة الفردانية نزعة ثورية زمن الثورة البورجوازية، أرجعت الاعتبار للإنسان بدل اغترابه خارج ذاته وشروطه ومصالحه. إلا أن هذه النزعة سرعان ما احتكرت من قبل الرأسمال يبتغي بها خلاصه المادي الربحي، لا على حساب الحقوق المادية للأكثرية فقط، بل على حساب قيمها المعنوية أيضا. فلم تعد الفاقة والندرة تنتجان تعاون ذوي قلة اليد، بل تفرقهم وتنافرهم واستلابهم في ذواتهم ومصالحهم الخاصة؛ وذلك لسببين: كثرة تكاليف سوق الرأسمال، وتشجيع النظام الاجتماعي السائد (الرأسمالية) لعبادة الشهوات والأهواء والمطالب الخاصة. ويقول الله تعالى في القرآن: “أفرايت من اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله” (سورة الجاثية، الآية 23)؛ بذلك ألّه رغبته وخلاصه الفردي في مكاسب الأرض، فزادته أنانيته رهقا، ودخل بها في دائرة “تأليه الهوى”.

* النكران: لم تعد الحضارة السائدة اليوم قائمة على قيم الوفاء، لا للإنسان ولا لتاريخه. الإنسان مجرد “تروس في آلة أو كرات بلياردو” (بتعبير مصطفى محمد، في “علم نفس قرآني جديد”)، يملأ حيزا في مجال للربح والخسارة، لا يستحق الوفاء، بل توظيفا نفعيا حسب مصلحة مالكي وسائل الإنتاج. التاريخ مجرد تراكم لفائض القيمة في خزائن الرأسمال، فلا اهتمام إذن بالذاكرة ولا بأبعادها الراهنة. والله تعالى يقول: “ولا تنسوا الفضل بينكم، إن الله بما تعملون بصير” (سورة البقرة، الآية 237)؛ وردت هذه الآية في سياق أخلاقيات الطلاق بين الزوجين، إلا أنها ذات أبعاد أوسع. فالفضل يوجب الاعتبار بين الناس جميعا، وهو من سواء النفس وصفاء سريرتها إذا ما اتخذه الناس سبيلا. أما بين الإنسان ووطنه، بينه وبين تاريخه العام، فهو مستمر لا ينقطع. من أرضه وسمائه ومائه العيش، من سلطته الأمن، من ساكنته التعاون والتراحم، فوجب الوفاء.

* التبذير: وهذه مفسدة خلقية تشمل اليوم كافة مناحي الحياة، من مسكن وملبس ومطعم، بل إن التبذير لحق مشاعر الإنسان وانفعالاته، وهذه من تلك. هوة اجتماعية واسعة، تفاوت في الثروة كبير بين الطبقات الاجتماعية، وبين شمال وجنوب؛ إلا أن الاستهلاك الفاحش أخذ حظه من كافة الفئات، ولو أنه في الطبقات العليا، بورجوازية وبورجوازية صغيرة، أكثر تركيزا. بالمفهوم القرآني هذه “حضارة شيطانية”، “ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا” (سورة الإسراء، الآية 27).

* العنف: بشتى أنواعه، المادي والمعنوي، في ظل احتدام التنافس والصراع بين ثلاثة تناقضات: تناقض رئيس بين من يملك ومن لا يملك إلا قوة عمله، وآخر بين المالكين يتنافسون على الأسواق والأرباح والاستثمارات، وتناقض ثالث بين الذين لا يملكون أو تقل يدهم فيكون صراعهم تناحريا على الفتات. يتخذ هذا العنف مخرجات شتى، منها الطائفي ومنها القبلي، منها الإسلامي ومنها العلماني، في حين أن مصدره واحد هو التفاوت، وأقنعته ومحفزاته إيديولوجيات متعددة. والأصل في الإسلام سلم الوسيلة والقصد، فكان السلام جزاء في الجنة (“سلاما سلاما”، أي “طيبا طيبا” وليس العنف أو ما ينتج عنه كذلك/ سورة الواقعة، الآية 26)، وكان الجنوح للسلم واجبا بعد عنف اضطراري تقرره “الجماعة” (في زمننا هي “الدولة”) لحماية مصالحها (“وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله”/ سورة الأنفال، الآية 61).

(باقي المفاسد الأخلاقية الأخرى، يتبع)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M