استراتيجية الإسلام (28).. العلم * جدل العلم والوحي
هوية بريس- محمد زاوي
6-العلوم
-جدل العلم والوحي
العلوم ثلاثة؛ علم الوحي، وعلم الطبيعة، وعلم الإنسان. وكلها معتبرة في الإسلام، دعا إلى تحصيلها وفهمها والاستفادة منها في حياة الناس. فأما حثه على تحصيل علم الوحي فأصله “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” (رواه البخاري، حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه)، وأما تحصيل علم الطبيعة فأصله “أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها ورفعناها وما لها من فروج، والأرض مددناها وألقيانا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج” (سورة ق، الآية 6)، وأما حث الإسلام على تحصيل علم الإنسان فدليله “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين” (سورة النمل، الآية 69).
لا يمنع علم الوحي علميْ الطبيعة والإنسان، بل يطلق عنانهما بدون حدود. إن الوحي متحصن بحقيقته لا يخشى ما تسفر عنه العلوم الأخرى من حقائق. يستقل بمجاله الخاص، مجال الغيب، ولا يختلط بمناهج العلوم الأخرى إلا من باب الحث على اكتشافها واستثمارها لمصلحة الإنسان. تتسع دائرة العلوم وتتعدد اكتشافاتها، فلا تنال من الوحي شيئا، لأن الغيب لا يؤتى بقوانين الطبيعة وقواعد الإنسان، بل بعلم آخر يَحصُل ولا يُلمَس. ومن انتظر بلوغ علم الوحي من محدودية مناهجه الملموسة، كمن ينتظر قراءة الكون الشاسع بحرف من الهجاء. “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (سورة الإسراء، الآية 85).
لا يُمَسّ الوحي بعلوم البيولوجيا والجيولوجيا والكيمياء والفيزياء الخ، ولا بعلوم الانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجيا واللسانيات والتاريخ الخ. كلها تعززه ولا تنفيه أو تلغيه أو تتجاوزه، مهما حاول البعض اصطناع التناقض بينهما، إما بإلغاء الوحي بعلوم الطبيعة والإنسان عند فريق، وإما بالخروج عن منطقها بفهم خاص للوحي عند آخر. إن الوحي في “الحدث التاريخي” الواحد يكتنز الحكمة، وفي “التفسير العلمي” الواحد يغني النظر. لا يقصد التأريخ كصنعة وإن أشار، ولا يقصد التجريد العلمي وإن دلّ؛ وإنما قصده وضع علوم الطبيعة والإنسان في إطارها الإنساني، أي الوحي بما هو رحمة للإنسان. “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (سورة الأنبياء، الآية 107).
ركّز الإسلام على نظرين، نظر في الطبيعة به يجد الإنسان عظمة الخالق، ونظر في التاريخ به يقف على عواقب الانحراف عن سننه. لا يبلغهما الإنسان بمحض تفكيره في مثاله (التجريد والاعتبار)، بل بحاجته إلى تطوير عيشه وقوى إنتاجه، بل وسيطرته كما هو حاصل اليوم. إلا أن الجدل يأتي محمَّلا بالبشرى بين ثناياه؛ فما حقق السيطرة عند قوم يحقق تجريد التوحيد عند آخرين، وما حقق العيش والكسب عند فئة من الناس يحقق الاعتبار عند فئة أخرى. وهكذا يعيش الإنسان ولا ينسى الله، يضل ويعود، يذنب ويستغفر. يحمل أصله معه، ليعود إليه إذا تحرّرت القدرة وباعد تقدم العلوم بين الإنسان وبين احتكار الندرة.
(يتبع)