استراتيجية الإسلام (3).. الوحي وحيان
هوية بريس- محمد زاوي
– الوحي والعلم
بلغ العالم بتقدمه العلمي درجة من الطغيان والبغي لم يسبق لها مثيل، فادعى بذلك نضجه ونهاية رحلته في البحث عن الذات. وفي ركام من النظريات العلمية وتطور قوى الإنتاج التقنية، فقد الإنسان المعاصر ذاته وبعثر معناه. يعيش العلماء في عالمهم الخاص، بحثا عن إلهام أو “وحي” في سؤال علمي معقد. فيما يعيش العامة تخبط العوام، وقد فقدوا ارتباطهم بإلهام و”وحي” العامة.
يحتاج العالم إلى “الترشيد” بلغة طه عبد الرحمان، مهما ابتكر وأبدع في مجال تخصصه. براعته في “عالم الملك” لا تغنيه عن افتقاره في “عالم الملكوت” (بتعبير طه عبد الرحمان). لا تهم العبارات، بل انقسام العالم إلى عالمين: “عالم العلم” و”عالم الوحي”. الأول ظاهر يطلب التفسير الوضعي والجدلي، والثاني خفي باطن الطريق إليه غير مباشر ولا صريح. وربما يلتقي الطريقان في النتيجة، إما في نهاية العمل، أو عند “انكشاف الغطاء”. “لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد”. (سورة ق، الآية 22)
النظر في العالم الأقرب يطلب العلم، أما النظر في العالم الأبعد والأوسع فيطلب “الوحي”. نسي الإنسان المعاصر النظر الثاني بالانغماس في الأول، فأفسد في الأرض وأخلد إليها واتبع هواه، فلم يجد للعدل دوافع من التخلص والإيثار، و”لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب”.
– الوحي وحيان
الوحي وتفسيره القولي، العملي والتقريري؛ كلاهما وحي. القرآن والسنة، مرجعان لا يفترقان، إلا بالنسخ أو التوقف عند تعارض دليلين منهما. القرآن تلقّ مباشر عن “عالم الغيب”، أما السنة فامتداد للظاهرة في مجريات الحياة، خاصة كانت أو عامة. ولما كان الامتداد شرحا وتفسيرا وبيانا وإتماما ونسخا وتفصيلا وتطبيقا، كان جزءا من الوحي. الوحي بلا سنة كالأعمى بلا بصر، وما كان القرآن ليستحيل تاريخا إلا ب”مثله معه” (السنة).
في الوحيين ملامح وهدايات، ليس للمؤمنين وحدهم، بل للعالمين جميعا. بين “يا أيها الذين آمنوا” و”يا أيها الناس”، يتأكد هذا المعنى. “الإنسان عالمي” (إيريك فروم)، ليس في التفسير المعرفي الحديث فحسب، بل في الهداية أيضا. ما أحوج البشرية إلى “الحقيقة والأخوة والعدل” (فروم، الأخوة: الحب)، وهي أساس خطاب الوحيين.
التاريخ فوضى، لا يهم إذن ترتيب زمن غابر. المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، أسباب النزول والورود؛ علوم معتبرة في تاريخ الوحيين، يخف حضورها إذا تعلق الأمر باستقاء المثل (الحقيقة والأخوة والعدل)، فالمثال خالد وصالح لكل زمن.
تاريخ من “اللاسلطة” (“دولة اللادولة” بتعبير العروي) يستحق التأمل.. الخطاب اللاسلطوي في الوحيين، قرآنا وسنة، يطلب التدبر والنظر؛ والهدف: الخروج من عبوديتين معاصرتين، عبادة النفس وعبادة المصلحة الاجتماعية. السلطة ضرورة في التاريخ (نفسية كانت أو اجتماعية)، لكنها ليس إلها، وجعلها كذلك فتنة ونهاية للإنسان، وقلب للحقيقة.. السلطة وسيلة إلى الحرية لا جبرية دائمة، طريق إلى الغيب لا لسانا ناطقا باسمه.. ضرورةُ عيوبها في التاريخ استثناء، لا تخولها حق الخلود في الأرض.. في الوحيين تتأكد هذه الثنائية، سلطة ولا سلطة، تاريخ ولا تاريخ، دولة ولا دولة، ضرورة وحرية، تقييد وإطلاق.. وما أحوج العالمين اليوم إلى هذا الجدل!
(يتبع)